دراسات وبحوث

منى زيتون: صفات الشياطين

منى زيتونفي الحديث الشريف أوضح لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صفات المنافقين، وفي هذا المقال سنناقش صفات الشياطين كما يُستدل عليها من آيات القرآن الكريم.

من هم الشياطين؟

عندما يُذكر الشياطين يأتي على بالنا مباشرة إبليس؛ ذلك الجني الذي فسق عن أمر ربه واستكبر عن أن يسجد لما صنع بيديه ‏﴿إِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾ ‏‏[الكهف: 50].

والجن اسم جمع لكلمة ‏‎"‎الجَانّ‎"‎، ومفردها ‎"‎جِنِّيّ‎"‎، أو "‎جِنِّيَّة". والكلمة مشتقة من "جَنَّ" بمعنى استتر، ومنه اشتقت تسمية الجنة أيضًا لأنها مخفية عن عيون العباد.

والجن هي مخلوقات تشاركنا في عالمنا، ولكنها تخفى عنا لأن حواسنا غير قادرة على إدراكها. يقول تعالى: ﴿إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ﴾ [الأعراف: 27]. ويتشارك معنا الجن في أن الله تعالى وهبهم حرية الإرادة والاختيار، ومن ثم فما يجري على الإنس من أحكام يكاد يتطابق مع تلك التي للجن.

والآية الكريمة ﴿لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: 6] تصف الملائكة بأنها كائنات مجبولة على الطاعة، لكننا نعلم أيضًا من قصة خلق آدم أن إبليس كان مع الملائكة إذ أمروا بالسجود لآدم ولم يسجد ﴿إِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾ [الكهف: 50]؛ فعِلة عدم سجوده أنه من الجن قادر على العصيان.

فالجن ليسوا مجبولين على الطاعة كالملائكة بل هم كما قال رب العزة على لسانهم في القرآن الكريم: ﴿وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا﴾ [الجن: 11]. ﴿وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا﴾ [الجن: 14].

والجن كسائر خلق الله مأمورون ومكلفون بالعبادة، ولكنهم كالإنس وإن كانوا مخلوقين للعبادة إلا أن بإمكانهم ألا يفعلوا، فينحرفون بذلك عن الهدف الذي من أجله خُلقوا. قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56].

والله يبعث للجن الرسل مثلما يبعثهم للإنس. يقول تعالى: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ﴾ [الأنعام: 130].

وإن كانت آية الأنعام تقول: ﴿رُسُلٌ مِّنكُمْ﴾ إلا أننا نعلم أيضًا أن الجن كانوا على اتصال بدعوات الأنبياء الذين أرسلوا إلى الإنس، يقول الله تعالى على لسان جماعة منهم استمعت إلى القرآن: ﴿قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [الأحقاف: 30]. وأرى في قولهم: ﴿كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ﴾ دليلًا على أن رسالة داود ورسالة المسيح لم تشملهم؛ وأنهما بُعثا إلى الإنس دون الجن، فالجن لا استمعوا إلى الزبور ولا إلى الإنجيل.

وقد سخر الله تعالى الجن لسيدنا سليمان عليه السلام ﴿وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ﴾ [النمل: 17]، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم مرسل للعالمين من الثقلين الإنس والجن، لذا فالقرآن هو كتابهم مثلما هو كتاب للإنس، ويظهر هذا من الآيات التي تتحدث عن استماعهم للقرآن، ومن قوله تعالى: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾؛ فالإسلام دعوة عالمية لأنها ختام الرسالات من رب العزة لعباده.

ولأنهم ذوو إرادة وحرية اختيار سيحاسبون كالإنس ويدخل غير الصالحين منهم النار مثلهم ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ [السجدة: 13]. ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ﴾ [الأعراف: 179]. وإن كنت لم أعثر على آية تجزم بأن الصالحين منهم سيدخلون الجنة.

ولكن أصل الجن يختلف عن أصل الإنس؛ فالجن مخلوقون من نار ﴿وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ﴾ [الحجر: 27]. ﴿وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ﴾ [الرحمن: 15]، فقيل إنهم خُلقوا من نار شديدة الحرارة لا دخان فيها، وهي والحال كذلك أشبه بأن تكون نورًا. بينما بدأ الله تعالى خلق أبينا آدم من طين، ثم اختلط الطين بالماء فصار طينًا لازب، ثم نفخ الله فيه الروح، ثم صار يعقل وقادرًا على التعلم، ما يعني اجتماع العناصر الأربعة في خلقه (الطين والماء والنار والهواء).

ومن ثم فالجن مخلوقون من نار كالملائكة والروح، ولكن لأنهم يختلفون عن الملائكة والروح في القدرة على الاختيار فهم لا يُعطفون عليهم ولا تجري عليهم الأحكام ذاتها، فالملائكة والروح يأتي ذكرهم مقترنين في كتاب الله ﴿تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ﴾ [المعارج: 4]. و ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا﴾ [النبأ: 38]. و ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ﴾ [القدر: 4]. بينما يقترن الجن بالإنس في القرآن لأنهم مثلهم ذوو إرادة وقدرة على الاختيار، وإن كان الله قد خص البشر بالنعت بأنهم أولو الألباب.

وأستخلص من خلال جمع الآيات أن الجن هم قبيلة من الملائكة، خُلقت من النار مثلهم، لكنها قبيلة ذات إرادة وقدرة على اختيار الخير أو الشر؛ ذلك أن إبليس كان من الجن ﴿إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ﴾ [الكهف: 50].  ولكن لأنه لم يعصِ الله أبدًا جعله الله مع الملائكة الذين لا يعصون أبدًا رفعًا لشأنه، إلى أن ظهرت قدرته على الاختيار في اختبار خلق آدم، فعصى ربه ولم يمتثل لأمره عندما أمره بالسجود لآدم، فنال الخسران المبين.

ولأن الإنس والجن يتشاركون في حرية الاختيار بين سبيل الخير وسبيل الشر، فقد أخبرنا تعالى أن الشياطين ليسوا من الجن فقط، بل يوجد إنس يُعدون شياطين. قال تعالى: ‏﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ۚ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾ [الأنعام: 112].

وقد روى ابن كثير في تفسير الآية روايات عن أبي ذر الغفاري في هذا الباب، منها: عن أبي ذر قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس قد أطال فيه الجلوس، فقال: "يا أبا ذر، هل صليت؟" قال: لا يا رسول الله. قال: "قم فاركع ركعتين" قال: ثم جئت فجلست إليه،  فقال: "يا أبا ذر، هل تعوذت بالله من شياطين الجن والإنس؟ "قال: قلت: لا يا رسول الله، وهل للإنس من شياطين؟ قال: "نعم، هم شر من شياطين الجن".

وذكر الحق سبحانه وتعالى أن شياطين الجن أولياء للكافرين من البشر. قال تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: 27]. وقال: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ﴾ [الأنعام: 121].

وفي سورة الناس أمرنا تعالى أن نتعوذ من الفريقين ﴿مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)﴾ [الناس: 4-6]؛ ذلك أن الإضلال لا يقتصر على شياطين الجن وحدهم، بل يشمل شياطين الإنس معهم. قال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ﴾ [فصلت: 29].

صفات الشياطين

لا عجب أن كثيرًا من صفات الشياطين في القرآن الكريم تظهر في سياق سورة البقرة؛ لذا استحقت أن تكون طاردة الشياطين. وأهم صفاتهم:

الكبر

كان الكبر هو الصفة الكاشفة الأولى لإبليس والتي أخرجته من عداد الملائكة؛ لأنه وفقًا لكتاب الله فإن الملائكة لا يستكبرون ﴿وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [النحل: 49]. فأظهر صفات الأبالسة هي الكبر، ‏﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ ‏[البقرة: 34].

وكان سبب استكبار إبليس أنه رأى نفسه أعلى من آدم. وقد سبق أن تكلمنا عن فلسفة العناصر والطباع الأربعة عند القدماء في عدد من مقالات كتابي "نحو مجتمع عربي متحضر"؛ فقلنا إن القدماء افترضوا عناصرَ أربعة أساسية، لكل منها طاقة مختلفة الأثر في الكون وفي طباع البشر وباقي الخلائق.

والعناصر الأربعة التي أعنيها هي: النار والهواء والماء والتراب؛ فالنار هي رمز الشغف والقوة، والهواء هو رمز الفكر والتأمل، والماء هو رمز الانفعالات والمشاعر، والتراب هو رمز الثبات والاستقرار. وتوزعت على تكوين الإنسان؛ فالنار هي الروح والقوة الحقيقية الداخلية، بينما ‏الهواء هو العقل، ومثّل الماء عاطفة الإنسان، وكان التراب لديهم هو الجسد المادي.

ورغم كونها فلسفة إنسانية، ولعلها أقدم الفلسفات التي عرفها الإنسان، فهي تتميز عن غيرها بأن لها أصلًا دينيًا؛ فالله تعالى أخبرنا أنه خلق الدواب جميعها من الماء فهي مجبولة على العاطفة التامة، كما نعلم أن السبب الذي رأى إبليس أنه أشرف من آدم عليه السلام لأجله فتكبر عن أن يسجد له هو أن الله تعالى خلق إبليس من النار، والنار أشرف العناصر وأطهرها وأنقاها، ﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا۠ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍۢ وَخَلَقْتَهُۥ مِن طِينٍۢ﴾ [الأعراف: 12].

وكما كان الكبر أظهر صفات إبليس فهو أظهر صفات شياطين الإنس.

الحسد على النعمة وتصغير الآخرين

‏قال تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا﴾ [الإسراء: 61].

أخبرنا تعالى أنه بدأ خلق الإنسان من طين، ثم امتزج هذا الطين بالماء، فأصبح صلصالًا كالفخار، وهو والحال كذلك لم يحوِ سوى الجزء المادي والجزء العاطفي، ولكن جاء الطور التالي من خلق آدم والذي استحق عنده سجود الملائكة له؛ إذ نُفخت فيه الروح ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [الحجر: 29]. والروح تمثل النار فهي التي تشعل الحياة في الجسد.

ولكن إبليس أصر على أن آدم لا زال طينًا، ورفض الإقرار بالتغير الذي حدث له والنعمة التي طرأت عليه! ودومًا أقول إن كل من يصر على تصغير أحدهم وتذكيره أنه كان سابقًا أقل نعمة مما هو عليه ليس سوى شيطان بشري.

ومن عجب أن هذا الذي خُلق من نار وهي العنصر الأشرف قد أخطأ إلى الدرجة ‏التي وجبت له بها الجحيم، وأن الذي بدأ خلقه من طين ثم امتزج بباقي العناصر، والنار ‏ليست إلا أثرًا فيه، قد يشرف ويعلو قدره حين يعلي قدر الروح فيه.‏

ونلاحظ أنه في أطوار خلق الإنسان الأولى في القرآن لم يُذكر العنصر الرابع وهو الهواء والذي يعبر عن العقل؛ فالإنسان يولد جاهلًا، ثم يعلم من بعد جهل، والعقل الذي يساعده على تحصيل العلم تحديدًا هو ما يميز البشر عن باقي المخلوقات، ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا﴾ [البقرة: 31]. وخطاب الله للبشر دومًا يكون بوصفهم بأولي الألباب لأن هذا ما خصهم عن باقي المخلوقات، فالجن والملائكة خُلقت من نار، والدواب خُلقت من ماء، والجبال وغيرها من تراب، ولكن بني آدم وحدهم هم أولو الألباب. والهواء –وهو العنصر المعبر عن العقل- من مختصات كوكبنا!

وإن كان مجمل الآيات في القرآن الكريم التي تحدثت عن خلق آدم تؤكد أن نفخ الروح فيه كان سابقًا على اكتساب العلم، وأن الأمر بالسجود جاء بعد نفخ الروح، فسياق الآيات التي ذكرت قصة استخلاف آدم في سورة البقرة تحكي عن اكتساب آدم العلم أولًا، ثم تأتي الآية التي ذُكر فيها أمره تعالى للملائكة بالسجود له، وما تلاها من استكبار إبليس. وقد يكون هذا وضع خاص بآدم عليه السلام كونه لم يُخلق طفلًا، بل خلقه الله راشدًا عالمًا.

الجدل بغير علم؛ وفرض الرأي باسم حرية التعبير عن الرأي!

يقول تعالى في كتابه: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ﴾ [الأنعام: 121]، فالشياطين يوسوسون بالشبهات كما يكثرون الجدل في غير محله.

وقد ذكرنا في مقالات سابقة أن هناك فرقًا كبيرًا بين إبداء الرأي والإكراه على الجدل، فمن لا يكتفي بإبداء رأيه بإزاء رأيك ويصر على الجدل العقيم هو في حقيقة الأمر لا يتعامل مع رأيه باعتباره رأيًا، بل باعتباره حقيقة ينبغي إقناع الجميع بها ‏ورفض أي رأي آخر لك أو لغيرك!

فحقيقة الأمر أن الرغبة الملحة في الجدل والنقاش مع المخالفين علامة على عدم احترام حرية الرأي؛ لذا ‏نجد في القرآن الكريم نهي واضح عن الجدل إلا بالتي هي أحسن، ونهي عام عن الجدال مع أهل الكتاب إلا الذين ظلموا منهم. ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ۖ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ‏‏﴾ [العنكبوت: 46]. ولكننا نجد أحدهم يبدأ ‏الجدل ثم يدعي أنه اضطر إليه!‏

يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا ‏كِبْرٌ مَا هُمْ ‏بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [غافر: 56]‏. وقد اتفق علماء المسلمين على تفسير الآية على أنها أمر من الله تعالى لنبيه بالاستجارة بالله ‏من ‏شر هؤلاء الذين يجادلون في آيات الله بغير حجة. ولطالما قلت وأقول: ‏إن الأمر بالاستعاذة من هؤلاء ‏المجادلين بغير علم دليل على أن من هذه صفتهم هم من شياطين ‏الإنس، فالأمر بالاستعاذة لا يكون إلا من ‏الشياطين، كما أن الكِبر يملأ صدورهم -بنص الآية- وهي أظهر صفات إبليس.

الامتناع عن الاعتذار عن الخطأ والسعي في وقوع غيرهم فيه

لقد كان الفرق الرئيسي بين آدم وإبليس رغم أن كليهما قد أخطأ وعصى أمر الله تعالى أن آدم أعلن الندم وتاب، بينما إبليس لم يفعل، وزاد بأن قرر أن يغوي آدم وذريته من بعده بدلًا عن أن يعتذر عن ذنبه.

هو للإنسان عدو مبين ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ [يوسف: 5]. ولكن هناك من الحمقى من يتخذه وليًا.

هو الذي وسوس لأبوينا ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ﴾ [الأعراف: 20]، فأزلهما وأخرجهما من الجنة ‏﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾ ‏[البقرة: 36].

ولا زال يواصل مع ذريتهما فيعمل على إضلالنا ‏﴿وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ ‏[النساء: 60].

ولهذا أمرنا الله بالاستعاذة من نزغه وهمزاته ﴿وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ [الأعراف: 200] و [فصلت: 36]. ﴿وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ﴾ [المؤمنون: 97].

وشياطين الإنس لا يختلفون عن إبليس قدر أنملة، يغوون ولا يعتذرون!

تزيين المعصية

وقد يفعل العبد المعصية بسبب نفسه الأمارة بالسوء، فيأتي دور الشيطان بأن يزين له ما يعمل من سوء، وكذلك يفعل شياطين الإنس.

يقول تعالى: ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 43].

﴿وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾ [الأنفال: 48].

﴿فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾ [النحل: 63]. ‏

﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ﴾ ‏[النمل: 24] و [العنكبوت: 38].

﴿الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ﴾ [محمد: 25].

الصد عن ذكر الله وعن الصلاة

يمكن القول إن للشياطين من الجن والإنس هدفين رئيسيين وهما الصد عن صنوف البر والنزغ لاقتراف المعاصي.

يقول تعالى: ﴿وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ ۖ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ [الزخرف: 62]. و ﴿وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ﴾ [المائدة: 91].

والنسيان قد يأتي بمعنى الترك في لسان العرب. يقول تعالى: ‏‏﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ﴾ ‏[المجادلة: 19] بمعنى تركوا ذكر الله، وقد يكون مضادَ التذكر ﴿وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ﴾ [الكهف: 63].

ولهذا كان الأمر بذكر الله عند النسيان ﴿وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾ [الكهف: 24]، والامتناع عن مجالسة الظالمين ﴿وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ ‏[الأنعام: 68].

التشنيع والإسقاط

إن لم يستطع شياطين الإنس إغواءك لتكون مثلهم شنَّعوا عليك مثلما شنَّع الشياطين على سليمان عليه السلام ونشروا عنه الإفك واتهموه بالأباطيل والتي لم تكن إلا فيهم! ﴿مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ ۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا﴾ [البقرة: 102].

السحر

السحر هو محاولة لتغيير قدر الله، ويتشارك فيه شياطين الإنس والجن ﴿وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ [البقرة: 102].

الوقيعة بالعداوة والبغضاء

قال تعالى على لسان يوسف عليه السلام:﴿بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي﴾ [يوسف: 100].

وقال في آية أخرى عن الشيطان: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنـزغُ بَيْنَهُمْ﴾ [الإسراء: 53].

وقال: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾ [المائدة: 91].

وفي آية السحر في البقرة دليل أيضًا على الوقيعة التي يتعلمها شياطين الإنس من شياطين الجن فيفرقون بين المرء وأحبته خاصة بين المرء وزوجه ﴿وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾[البقرة: 102].

والإنسان السيء كإبليس يمشي بين الناس بالوقيعة وينشر بينهم البغضاء. وعلى العكس منه يكون الإنسان الصالح التقي ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾ [الأنفال: 1].

الكيد

الشيطان يكيد، وإن كان كيد شياطين البشر أقوى، فكيد إبليس ضعيف ولكنه يجدي وينفع مع من أرادت له نفسه الأمارة بالسوء أن يزل ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾ [النساء: 76].

الخذلان والوعد الكاذب

ومن صفات الشياطين الخزلان، فلا يفون بوعد، وهي صفة يتشارك فيها شياطين الإنس مع المنافقين.

﴿وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ [النساء: 120] و [الإسراء: 64].

﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ﴾ [إبراهيم: 22].

﴿وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا﴾ [الفرقان: 29].

الوعد بالفقر والأمر بالفحشاء والمنكر

يقول تعالى: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ﴾ [البقرة: 268].

وكما ذكرنا مرارًا في كثير من المقالات أن الفقر قرين الكفر، وما استعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكفر يومًا إلا واستعاذ معه من الفقر، وشياطين الإنس كإبليس يوحون إلى الناس بأن إخراجهم الزكاة وتصدقهم سينقص مالهم ويورثهم الفقر، فيمتنع الناس عن إخراج الصدقات الواجبة في مالهم.

ونرى ذلك قد انتشر في عصرنا كما لم ينتشر في أي عصر سابق؛ من امتناع فئة غير قليلة من الأغنياء عن تزكية المال حرصًا عليه ليكفي نفقاتهم المتزايدة التي يزينها لهم شياطين الإنس والجن، وكلها في أمور لا علاقة لها بمتطلبات حياتهم الضرورية، بل في سفههم وما يزينه لهم الشيطان من المآثم والمحرمات، ما زاد من أعداد الفقراء ومن انتشار الفاحشة والمنكر في المجتمع. ﴿وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ﴾ [النور: 21].

التبذير

وهذا الشيطان نفسه الذي يحثكم على منع أداء حق الله في المال ويوهمكم أن الفقر سيكون مآلكم إن أنفقتم على مستحقي الصدقة هو من يزين لكم إنفاق المال في المآثم والمعاصي وفيما لا يلزم ولا ينفع لا في دين ولا في دنيا!

ولأن التبذير أشد أشكال كفر النعمة وعدم أداء حقها استحق المبذرون من البشر أن يكونوا إخوان الشياطين. يقول تعالى: ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾ [الإسراء: 27].

 

د. منى زيتون

أحد مقالات كتابي "تأملات في كتاب الله"‏

 

 

في المثقف اليوم