دراسات وبحوث

منى زيتون: طور سيناء والطور الأيمن

منى زيتونوفقًا للرواية القرآنية عن تكليم الله تعالى لموسى عليه السلام فإنه يوجد مشهدان لحدثين، وبفاصل زمني بينهما يصل إلى أعوام، وفي كلا الحدثين كان يظهر اسم جبل الطور؛ إذ إن تكليم الله لسيدنا موسى قد حدث مرتين وفقًا للقرآن الكريم.

المرة الأولى: خلال عودته من أرض مدين في شمال الحجــاز إلى مصر، وحدث ذلك عند جبل في جنوب شبه جزيرة سيناء، أسماه الله عز وجل في القرآن الكريم طور سيناء أو طور سينين، وفي آيات أخرى ذُكر تحت مسمى الطور فقط ‏ ﴿‏فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا﴾ [القصص: 29]، وذُكر مرة موصوفًا بالغربي ﴿وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَىٰ مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ [القصص: 44].

والمرة الثانية: بعد خروج بني إسرائيل من مصر بعبورهم البحر من عند خليج العقبة إلى شمال الحجاز، وإيتـاء موسى عليه السلام الألواح، عندما غاب عن بني إسرائيل أربعين يومًا، عبدوا فيها العجل. وأُطلِق على الجبل هذه المرة الطور الأيمن ﴿وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا﴾ [مريم: 52].

3361 خارطة طور سيناء

 وفي الكتاب المقدس أيضًا كانت هناك إشارة لجبلين وليس جبلًا واحدًا؛ حيث جاء ذكر برية سيناء وجبل سيناء 38 مرة، وفي 18 مرة أتي ذكر جبل آخر اسمه حوريب.

‏﴿هَا أَنَا أَقِفُ أَمَامَكَ هُنَاكَ عَلَى الصَّخْرَةِ فِي حُورِيبَ، فَتَضْرِبُ الصَّخْرَةَ فَيَخْرُجُ مِنْهَا مَاءٌ ‏لِيَشْرَبَ الشَّعْبُ فَفَعَلَ مُوسَى هكَذَا أَمَامَ عُيُونِ شُيُوخِ إِسْرَائِيلَ﴾ [الخروج 17: 6]‏.

‏﴿فَقَامَ وَأَكَلَ وَشَرِبَ، وَسَارَ بِقُوَّةِ تِلْكَ الأَكْلَةِ أَرْبَعِينَ نَهَارًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً إِلَى جَبَلِ اللهِ حُورِيبَ﴾ [الملوك الأول 19: 8].

﴿صَنَعُوا عِجْلاً فِي حُورِيبَ، وَسَجَدُوا لِتِمْثَال مَسْبُوكٍ﴾ [المزامير 106: 19]‏.

‏‏‏﴿حَتَّى فِي حُورِيبَ أَسْخَطْتُمُ الرَّبَّ، فَغَضِبَ الرَّبُّ عَلَيْكُمْ لِيُبِيدَكُمْ﴾ [التثنية 9: 8].‏

﴿فِي الْيَوْمِ الَّذِي وَقَفْتَ فِيهِ أَمَامَ الرَّبِّ إِلهِكَ فِي حُورِيبَ حِينَ قَالَ لِي الرَّبُّ: اجْمَعْ لِي ‏الشَّعْبَ فَأُسْمِعَهُمْ كَلاَمِي لِيَتَعَلَّمُوا أَنْ يَخَافُونِي كُلَّ الأَيَّامِ الَّتِي هُمْ فِيهَا أَحْيَاءٌ عَلَى الأَرْضِ ‏وَيُعَلِّمُوا أَوْلاَدَهُمْ (10) فَتَقَدَّمْتُمْ وَوَقَفْتُمْ فِي أَسْفَلِ الْجَبَلِ وَالْجَبَلُ يَضْطَرِمُ بِالنَّارِ إِلَى كَبِدِ السَّمَاءِ ‏بِظَلاَمٍ وَسَحَابٍ وَضَبَابٍ (11) فَكَلَّمَكُمُ الرَّبُّ مِنْ وَسَطِ النَّارِ وَأَنْتُمْ سَامِعُونَ صَوْتَ كَلاَمٍ، وَلكِنْ ‏لَمْ تَرَوْا صُورَةً بَلْ صَوْتًا (12) وَأَخْبَرَكُمْ بِعَهْدِهِ الَّذِي أَمَرَكُمْ أَنْ تَعْمَلُوا بِهِ، الْكَلِمَاتِ الْعَشَرِ، وَكَتَبَهُ ‏عَلَى لَوْحَيْ حَجَرٍ. (13) وَإِيَّايَ أَمَرَ الرَّبُّ فِي ذلِكَ الْوَقْتِ أَنْ أُعَلِّمَكُمْ فَرَائِضَ وَأَحْكَامًا لِكَيْ ‏تَعْمَلُوهَا فِي الأَرْضِ الَّتِي أَنْتُمْ عَابِرُونَ إِلَيْهَا لِتَمْتَلِكُوهَا (14) فَاحْتَفِظُوا جِدًّا لأَنْفُسِكُمْ. فَإِنَّكُمْ لَمْ ‏تَرَوْا صُورَةً مَّا يَوْمَ كَلَّمَكُمُ الرَّبُّ فِي حُورِيبَ مِنْ وَسَطِ النَّارِ (15)﴾ [التثنية 4]‏.

‏﴿‏لَمْ يَكُنْ فِي التَّابُوتِ إِلاَّ لَوْحَا الْحَجَرِ اللَّذَانِ وَضَعَهُمَا مُوسَى هُنَاكَ فِي حُورِيبَ حِينَ عَاهَدَ الرَّبُّ بَنِي إِسْرَائِيلَ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ﴾ [الملوك الأول 8: 9].

‏﴿‏لَمْ يَكُنْ فِي التَّابُوتِ إِلاَّ اللَّوْحَانِ اللَّذَانِ وَضَعَهُمَا مُوسَى فِي حُورِيبَ حِينَ عَاهَدَ الرَّبُّ بَنِي إِسْرَائِيلَ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْ مِصْرَ﴾ [أخبار الأيام الثاني 5: 10].

﴿اَلرَّبُّ إِلهُنَا قَطَعَ مَعَنَا عَهْدًا فِي حُورِيبَ﴾ [التثنية 5: 2].

‏﴿‏اُذْكُرُوا شَرِيعَةَ مُوسَى عَبْدِي الَّتِي أَمَرْتُهُ بِهَا فِي حُورِيبَ عَلَى كُلِّ إِسْرَائِيلَ. الْفَرَائِضَ وَالأَحْكَامَ﴾ [ملاخي 4: 4].

﴿اَلرَّبُّ إِلهُنَا كَلَّمَنَا فِي حُورِيبَ قَائِلاً: كَفَاكُمْ قُعُودٌ فِي هذَا الْجَبَلِ (6) تَحَوَّلُوا وَارْتَحِلُوا ‏وَادْخُلُوا جَبَلَ الأَمُورِيِّينَ وَكُلَّ مَا يَلِيهِ مِنَ الْعَرَبَةِ وَالْجَبَلِ وَالسَّهْلِ وَالْجَنُوبِ وَسَاحِلِ الْبَحْرِ، أَرْضَ ‏الْكَنْعَانِيِّ وَلُبْنَانَ إِلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ، نَهْرِ الْفُرَاتِ (7)﴾ [التثنية 1]‏.

وهناك اختلاف بين الآباء الكنسيين في تحديد هل سيناء وحوريب ‏جبل واحد، وكذلك اختلاف حول مكان كل منهما. لكن المشهور عندهم أنهما جبل واحد ‏يعرفونه باسم جبل سيناء ‏Mount Sinai‏؛ ذلك أنه هناك آيات في المقابل تذكر أن إعطاء ‏الألواح كان فوق جبل سيناء، وآية تقول إن حادثة التكليم الأولى عند الشجرة كانت عند جبل حوريب! فالأقرب أنه لظنهم أن ‏الجبلين واحد، وأن جبل حوريب اسم لجبل سيناء، قد حدث خلط من الرواة بينهما وكان يتم التبديل بينهما.

ومن الملاحظات المهمة عند قراءة آيات التكليم في التوراة أن أغلب الآيات تتحدث عن التكليم الثاني لموسى عليه السلام بعد الخروج من مصر، بينما حادثة التكليم الأولى عند الشجرة الملتهبة بجوار الطور لم تُذكر إلا في الإصحاح الثالث من سفر الخروج. ولكن أغلب الآيات المفصلة، وفي أسفار مختلفة كما نقلنا، تحدد أن تجمع شعب إسرائيل وإعطاء الشريعة وعبادة العجل وسخط الرب كانت عند جبل حوريب الذي وصفه القرآن بـ﴿الطُّورِ الْأَيْمَنِ﴾.

ويبدو أن القصة التوراتية، وتوحيد أهل الكتاب فيها بين الجبلين وجعلهما جبلًا واحدًا، قد أثّرت على تأويلنا وتدبرنا لآيات القرآن الكريم. وكي نفهم القصة على وجهها دون خلط، فلنتدبر الآيات القرآنية التي ذُكِر فيها الطور. يقول تعالى: ‏﴿فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا﴾ [القصص: 29].

وفي سورة القصص أيضًا، وفي آيتين متتابعتين يلفتنا الله سبحانه وتعالى إلى أنهما جبلان مختلفان حدث عليهما حدثان خطيران في تاريخ البشرية ﴿وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَىٰ مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ [القصص: 44]، وبعدها بآية يقول تعالى: ‏﴿‏وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا﴾ [القصص: 46].

ويقول تعالى: ﴿وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا﴾ [مريم: 52].

ويوضح تعالى أن الطور الأيمن هو الجبل الذي تجمعوا عنده بعد نجاتهم من فرعون لما يقارب العام بعد خروجهم من مصر، حيث أُعطوا الشريعة ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ﴾ [طه: 80].

فعندما حكى تعالى عن قضائه لموسى عليه السلام بالنبوة عند عودته إلى مصر بعد السنوات التي قضاها في مدين جاءت سيرة طور سيناء أو ﴿الْغَرْبِيِّ﴾، أما عندما جاء ذكر الجبل الذي وُوعدوا عنده بعد نجاتهم من فرعون، وقرّب الله عنده موسى عليه السلام وناجاه فيه أربعين ليلة قيل ﴿الطُّورِ الْأَيْمَنِ﴾.

وهناك آية واحدة في التوراة في سفر يشوع بن سيراخ ذُكر فيها الاسمان معًا (سيناء وحوريب) ﴿وَسَمِعْتَ فِي سِينَاءَ الْقَضَاءَ، وَفِي حُورِيبَ أَحْكَامَ الاِنْتِقَامِ﴾ [يشوع بن سيراخ 48: 7]. ورغم أن الترجمة إلى العربية لا تبدو واضحة ولكننا نعلم أن قضاء الله لموسى عليه السلام بالنبوة كان عند الشجرة الملتهبة بجوار ﴿الْغَرْبِيِّ﴾الذي تسميه هذه الآية التوراتية﴿سِينَاءَ﴾، ونعلم أيضًا أن إعطاء الأحكام والشريعة كانت بعد الخروج من مصر عند المواعدة على الجبل الموصوف في القرآن الكريم بـ ﴿الطُّورِ الْأَيْمَنِ﴾ وأسمته هذه الآية في التوراة ﴿حُورِيبَ﴾.

وفي الإصحاح الثالث من سفر الخروج حديث عن حادثة التكليم الأولى التي قضى الله فيها إلى موسى بالنبوة ‏﴿‏وَأَمَّا مُوسَى فَكَانَ يَرْعَى غَنَمَ يَثْرُونَ حَمِيهِ كَاهِنِ مِدْيَانَ، فَسَاقَ الْغَنَمَ إِلَى وَرَاءِ الْبَرِّيَّةِ وَجَاءَ إِلَى جَبَلِ اللهِ حُورِيبَ (1) وَظَهَرَ لَهُ مَلاَكُ الرَّبِّ بِلَهِيبِ نَارٍ مِنْ وَسَطِ عُلَّيْقَةٍ. فَنَظَرَ وَإِذَا الْعُلَّيْقَةُ تَتَوَقَّدُ بِالنَّارِ، وَالْعُلَّيْقَةُ لَمْ تَكُنْ تَحْتَرِقُ (2)﴾ [الخروج 3: 1-2]. والآية الأولى منهما تتفق مع القصة القرآنية لأن موسى كان يرعى الغنم لحميه في برية مدين، وبجانبها جبل حوريب ﴿الطُّورِ الْأَيْمَنِ﴾، ولكن وفقًا للقصة القرآنية فلم يكلمه الله وقتها عنده، بل قضى موسى الأجل وفارق حماه، وسار بأهله عائدًا إلى مصر، فكلمه الله تعالى التكليم الأول في طريق عودته، وأمره بأن يكلم فرعون ويخرج ببني إسرائيل من مصر، وحدث هذا عند الجبل الذي وصفه الله في القرآن بـ ﴿الْغَرْبِيِّ﴾. وهذا الجزء من القصة القرآنية مفقود في القصة التوراتية؛ ويترتب على ذلك مزيد من الخلط بين جبلي سيناء وحوريب.

ولا شك عندي أنهما جبلان ولكن هناك خلط واضح بينهما في آيات التوراة. وربما كان في انتقاله عليه السلام من مدين في الشرق إلى الجبل الذي أُعطي عنده النبوة عند عودته إلى مصر، والذي يقع في سيناء إلى الغرب من مدين، تفسير لوصف القرآن لذلك الجبل بـ ﴿الْغَرْبِيِّ﴾. ولو وضعنا الخريطة أمامنا، فالجبل الذي في شمال الحجاز هو الأيمن، وسُمي﴿الطُّورِ الْأَيْمَنِ﴾ من التيمن، ولم يُسم الشرقي. والآخر الذي في سيناء هو الغربي، ولم يرد الله أن يُسمه الأيسر، فالعرب لا تتفاءل سوى باليمين، والقرآن نزل بلسان العرب.

ومن العجيب أيضًا أن يُشار إلى كثير مما يخص مصر بالغرب، ففي التوراة يُسمى النيل بالبحر الغربي، وجند مصر هو الجند الغربي المقصود بالحديث في صحيح مسلم.

ولم يغب عن مفسرينا الإشارة القرآنية مرة بالأيمن ومرة بالغربي، وإن كانوا لم يتوقفوا عندها كثيرًا، وفسروها على أنها اختلاف الجبل نفسه بالنسبة لجهة قدوم موسى عليه السلام عليه، مع أن اللفظ القرآني واضح ﴿مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ﴾ فإما أن الطور موصوف بأنه الأيمن أو أن الجبل له يمين، ولأن الجبل لا يمين له ولا شمال، فقالوا: اليمين يمين موسى. والأصح أن الأيمن هنا صفة للطور الذي تجمعوا عنده بعد الخروج من مصر.

وكذا قال تعالى: ﴿بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ﴾ وليس بالجانب الغربي، أو بجانب غربيّ الجبل. والأدق أن ﴿الْغَرْبِيِّ﴾ في الآية صفة للجبل، والموصوف محذوف؛ أي بجانب الجبل الغربي، أو بجانب الطور الغربي، وهو قول القرطبي والرازي.‏

ربما لا نفهم يقينًا سبب الوصف بأن ذلك الجبل هو الأيمن، والآخر هو الغربي، ولكن من الواضح أنهما جبلان، كل منهما وُصف بناءً على موضعه وصفًا يخالف الآخر، أو وُصف الاثنان بما يُناسب مكان كل منهما بالنسبة للآخر، ولا يتفق تأويلٌ غيره مع سياق القصة القرآنية، والمكتشفات الأثرية بأن عبور بني إسرائيل كان إلى شمال الحجاز. كما أنه يٌفسر سبب ورود اسمين للجبل في التوراة وفي القرآن.

 

د. منى أبو بكر زيتون

......................

* هذا المقال تم اقتطاعه من مقال قديم بعنوان "قصة جبلين وجزيرتين"

وهذه النسخة منه منقحة ومزيدة ومنشورة في كتابي "تأملات في كتاب الله"

 

 

في المثقف اليوم