دراسات وبحوث

منى زيتون: وَاْلطُّورِ

منى زيتوناختُلف في معنى الطور، ومما ورد في كتب المفسرين أن الطور هو الجبل في كلام العرب، ‏وروي أنه الجبل بالسريانية أو النبطية.‏ وقيل: هو مما عُرِّب من كلام العجم. وعلى هذه الأقوال ‏فالطور اسم لكل جبل. وقد يكون اسم لكل جبل عظيم متجاوز الحد.

وقيل إن الطور في اللغة هو الجبل كثير النبت والشجر، وهو قول ابن عباس. قال: ‏الطور ما أنبت من الجبال، وما لم ينبت فليس بطور. ‏

وقيل: إنه اسم جبل ‏بعينه. وذُكر أنه الجبل الذي ناجى الله عليه موسى.‏ ويرى كثير من المفسرين أن الطور في القرآن عَلَمٌ على طُورِ‎ ‎سيناء، أي أنه عندما تُذكر ‏في القرآن كلمة الطور فإنما المقصود طور سيناء الذي كلم الله عليه موسى عند بعثته، وربما ‏كان هذا مبدأ الخلط الذي حدث في تفسير قصة سيدنا موسى عند خروجه من مصر مع بني ‏إسرائيل ومواعدته لله سبحانه وتعالى بجانب الطور الأيمن والاعتقاد أنه الطور الأول نفسه الذي ‏كلمه الله عنده المرة الأولى، وكان هذا هو الخطأ الأول؛ فكون أن الله تعالى قد كلّم موسى ‏عليه السلام على طور سيناء، وأنه قد كلّمه مرة أخرى بعدها بسنوات، لا يلزم منه أنه كلّمه ‏على الطور نفسه.‏

وكان اعتقاد كثير من المفسرين بأن الجبل الذي كلّم الله عليه موسى عليه السلام ‏هو جبل كثير الشجر ما جعلهم يظنون أن هذا الجبل لا بد وأنه يقع في بلاد الشام، حيث ‏الجبال المنبتة كثيرة الأشجار، وكان هذا هو الخطأ الثاني؛ حيث ضللت الإسرائيليات مفسرينا مع أن العلامة القرآنية التي أعطاها الله تعالى للطور الغربي كان وجود شجرة كبيرة مميزة في شاطئ واديه الذي كان على يمين موسى عليه السلام وهو قادم نحوه من مدين. ولم يُذكر الشجر في القرآن نهائيًا عند ذكر المواعدة عند الطور الأيمن.

فهناك شاهد قرآني على أن موسى عليه السلام قد كلّمه الله تعالى أول مرة في المنطقة المعروفة بمنطقة جبل ‏موسى أو جبل الطور بسيناء المصرية، حيث يوجد دير سانت كاترين على شاطئ الوادي، فوسط منطقة قاحلة، ووسط جبال نارية غير منبتة حتى للعشب، تُوجد شجرة عليقة معمرة وارفة دائمة الخضرة إلى يومنا هذا داخل دير سانت ‏كاترين في وادي طوى –والدير بُني بعد ميلاد المسيح عليه السلام-، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ ‏مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [القصص: 30]، فهذه علامة لا توجد في جبل اللوز شمال الحجاز  (الطور الأيمن) ‏الذي تظهر فيه آثار مشهد التكليم الثاني.

3365 والطور

فالجبل الأول (الطور الغربي) الذي قضى الله فيه لموسى عليه السلام بالنبوة ‏يوجد بشبه جزيرة سيناء المصرية، وتحديدًا في الجزء الجنوبي منها، وتفسير ذلك أن موسى عليه السلام عند عودته من مدين شمال الحجاز  دخل سيناء وتجنب السير في الطريق الشمالي فيها بسبب انتشار قلاع وكتائب حراسة من جند فرعون فيه. وهذا الطريق الشمالي هو طريق حربي كان معروفًا زمن الفراعنة باسم طريق حورس، ولا زالت آثاره باقية.

واسم سيناء مشتق من ‏اسم الإله "سين" إله القمر في بابل القديمة، والذي اشتهرت عبادته في منطقة غرب آسيا ومن بينها سيناء، وهذا الاسم ‏لسيناء أو (سينين) معناه أرض القمر، بينما الطور الأيمن الذي شهد إعطاء الألواح –ودلت عليه الدلائل الأثرية- يقع في شمال الحجاز، وكلاهما من الجبال النارية ‏عديمة النبت.‏

فلو أخذنا بالتعاريف التي تُسمي الجبل العظيم طُورًا، لا يلزم أن يكون الطور الأيمن ‏الذي أُعطي موسى عنده الألواح هو طور سيناء الذي كلمه الله عنده وأعطاه النبوة، وإن كان الطور هو ‏الجبل كثير الشجر فكلا الجبلين –جبل موسى بسيناء وجبل اللوز بالحجاز- ناريين غير ‏منبتين، لكنهما تزينا للمناسبتين الجليلتين، فكانا طورين في وقتهما.‏

وأذكر أنني قرأت وأنا صغيرة أن عمرو بن العاص بعد فتح مصر نظر يومًا إلى جبل ‏المقطم –الذي يقع شرقي القاهرة- وقال للمقوقس عظيم القبط: "ما بال جبلكم هذا أقرع لا نبت ‏فيه وليس كجبال الشام"، فرد عليه المقوقس: "إن الله أوحى للجبال أني مُكلم أحد خلقي على ‏جبل منكم، فليجُد –من الجود وهو السخاء- كل منكم بشيء من نبته وشجره إليه، فجادت ‏جميع جبال الأرض بشيء من شجرها، وجاد المقطم بكل ما فيه من نبت وشجر، ومن يومها ‏لم ينبت عليه شيء، فجعله الله غراسًا لأهل الجنة جزاءً له". وأراد المقوقس أن يشتري ‏سفح جبل المقطم من عمرو بن العاص، فأرسل عمرو بن العاص إلى الخليفة عمر بن ‏الخطاب يخبره بما ذكره له المقوقس وبعرضه شراء سفح جبل المقطم، فرد الخليفة عمر: ‏‏"غراس أهل الجنة لا يكون سوى للمسلمين، لا تبعه واجعله مقابرًا للمسلمين"، ويُذكر أن أغلب ‏الصحابة الذين دخلوا مصر ومنهم عمرو بن العاص مدفونون في سفح جبل المقطم.‏

وما أستخلصه من هذه القصة الشائعة –إن صدقت- أن الجبل الذي كلّم الله عليه موسى وإن ‏كان طورًا –أي مزدانًا بالكثير من النبت والشجر- وقت التكليم، إلا أنه لا يجب أن تعم عليه ‏هذه الصفة في كل الأوقات، ويُتصور أن هذا وصفه على الدوام. كما لا يلزم أن يكون الجبل نفسه في ‏الحالتين كما أوضحنا.‏ ‏وإن كان أحدهما فقط هو الذي تزين بالشجر فالأقرب أنه الطور الأيمن الذي كانت عنده المواعدة أربعين ليلة.

﴿‏وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ‏﴾‏

بعد أن منّ الله تعالى على بني إسرائيل ‏بشق البحر ونجاتهم من عدوهم والخروج من مصر، واعد الله تعالى موسى عليه السلام فوق الطور الأيمن، وبعد أن عاد عليه السلام من مواعدة الله وجد قومه قد عبدوا ‏العجل، وجاء ذكر الطور مرة أخرى في الآيات التي تحدثت عن غضب الله عز وجل على بني إسرائيل، و أخبر تعالى أنه رفع الطور فوق رءوسهم تخويفًا لهم ‏ليأخذوا الميثاق بقوة، ومن أجل ذلك فإن من أسماء التوراة العهد، ويسميها المسيحيون العهد القديم لأن الإنجيل هو عهدهم الجديد.

‏﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ ‏‏[البقرة: 63]‏.

‏﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا ۖ قَالُوا سَمِعْنَا ‏وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ۚ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ ‏‏[البقرة: 93]‏.

‏﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ ‏وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ [النساء: 154]‏.

‏﴿وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ﴾ [الأعراف: 171]‏.

والأرجح فيما رواه المفسرون، وبما يوافق باقي الآيات القرآنية التي قصّت القصة، أنهم لم ‏يأخذوا الألواح لمّا رجع إليهم موسى عليه السلام بعد مواعدة الله تعالى، وطلبوا أن يروا الله جهرةً ‏ليكلفهم بما فيها، فصُعقوا ثم بُعثوا، وأمر الله الملائكة بأن تنتق الطور فوق رءوسهم تخويفًا ‏لهم، فأخذوا الألواح بالميثاق لمّا خافوا أن يُطبق عليهم.‏

ولكن هل الجبل الذي رفعته الملائكة هو الطور الأيمن "جبل حوريب" "جبل اللوز"، ‏والذي كان بجانبهم، وعنده حدثت المواعدة بعد الخروج من مصر، أو طور سيناء "الجبل ‏الغربي"، وكان بعيدًا عنهم أو أي طور؟

قال الفخر الرازي في "مفاتيح الغيب" "أما الخليل –يقصد الفراهيدي- فقال في كتابه –‏يعني العين-: إن الطور اسم جبل معلوم. وهذا هو أقرب لأن لام التعريف فيه تقتضي حمله ‏على جبل معهود عُرف كونه مسمى بهذا الاسم، والمعهود هو الجبل الذي وقعت المناجاة ‏عليه. وقد يجوز أن ينقله الله تعالى إلى حيث هم فيجعله فوقهم، وإن كان بعيدًا منهم؛ لأن ‏القادر أن يسكن الجبل في الهواء قادر أيضًا على أن يقلعه وينقله إليهم من المكان البعيد، ‏وقال ابن عباس: أمر تعالى جبلًا من جبال فلسطين فانقلع من أصله حتى قام فوقهم كالظلة، ‏وكان المعسكر فرسخًا في فرسخ، فأوحى الله إليهم أن اقبلوا التوراة وإلا رميت الجبل عليكم، فلمّا ‏رأوا أن لا مهرب قبلوا التوراة بما فيها، وسجدوا للفزع سجودًا يلاحظون الجبل، فلذلك سجدت ‏اليهود على أنصاف وجوههم"أهـ.‏

وكما نرى فحتى مفسرينا، الذين لم يظنوا أن الجبل في كلا حادثتيّ التكليم مختلف، لم ‏يروا بأسًا أن يكون الطور الذي حملته الملائكة فوق رءوسهم قُلِع من مكان بعيد عنهم، ‏ونلاحظ أن التصور بأن الطور لا بد أن يكون جبلًا كثير النبت قد حمل ابن عباس على الظن ‏بأن هذا الجبل كان من جبال فلسطين.‏

معنى القسم في قوله تعالى: ‏﴿وَالطُّورِ‏‏﴾‏

يقول تعالى: ﴿وَالطُّورِ، وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ، فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ، وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ، وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ، إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ﴾ [الطور: 1-7].

وقد قال مفسرونا إن القسم في بدء سورة الطور بقوله تعالى: ﴿وَاْلطُّورِ﴾ قد يُحمل على وجهين، أولها: أنه تعالى يقسم بطور سيناء؛ وهو الجبل الذي اختاره الله سبحانه وتعالى ليكلم الله عنده موسى عليه السلام دون واسطة، وهو ما رجحه كثير من مفسرينا لعدم تمييزهم بين طور سيناء الغربي الذي شهد حادثة التكليم الأولى لموسى عليه السلام وإرساله إلى فرعون، وبين الطور الأيمن الذي أعطيت له عنده ألواح التوراة عند مواعدة الله له بعد النجاة والخروج من مصر. وثانيها: أنه تعالى يقسم بالطور أي الجبل الصلد الضخم أو كثير النبت والشجر كأحد مخلوقاته العظيمة الدالة على قدرته، مثلما أقسم بالكثير من خلقه كالسماء والنجم والشمس والقمر والنهار والليل والبحر والعاديات وغيرها.

ولأنه لا مبرر لأن يُقسم الله تعالى بأحد مخلوقاته مرتين في كتابه، فالأقرب أن الطور المقسم به في أول سورة الطور ﴿وَاْلطُّورِ﴾ ليس هو طور سيناء الذي أقسم به تعالى في أول سورة التين﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ﴾، وكنت أرى بالرأي الثاني الذي رآه مفسرونا؛ أي أن قسمه تعالى ﴿وَاْلطُّورِ﴾ قسم بالجبل الصلد الكبير الذي يُعتبر أكبر مخلوقاته على ظهر الأرض، إلا أن خاطرًا جاءني وجعلني أتوقف ذات مرة أثناء قراءتي سورة الطور، فانتبهت إلى كل ما أقسم الله تعالى به بعد الطور، خاصة ﴿وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ﴾، وقد ظن مفسرونا أنه القرآن، ولكن ربما كان الأقرب أنه التوراة التي أنزلها الله على الطور الأيمن ألواحًا مكتوبة غير مطوية ﴿فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ﴾، بينما القرآن نزل متفرقًا مقروءًا ولوحه محفوظ في السماء لم ينزل الأرض، وكُتب بأيدي البشر‏﴿‏بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾‏ [البروج: 21-22]. وكان بدء الوحي به إلى نبينا على أحد جبال مكة ولم يُسم هذا الجبل طورًا في أي موضع من القرآن أو السنة أو السيرة أو أقوال الصحابة.

وقوله تعالى: ﴿وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ‏﴾ بعد القسم بالجبل الذي أعطي عليه موسى عليه السلام الألواح، ثم القسم بالكتاب ذاته وألواحه، يذكرني بالبحر الذي انفلق لبني إسرائيل كي يخرجوا من مصر.

ولأن أحد معاني تسجير الماء الانفجار، وفي المعجم الوسيط ومعجم متن اللعة ومعجم الرائد "سجَّرَ الماءَ: فجَّرَه"، فالمعنى الذي يجيء في ذهني للتفجير هنا لا علاقة له بالنار بل بضرب موسى عليه السلام للبحر بعصاه ما فرق البحر وفلقه فلقتين. مصداقًا لقوله تعالى: ﴿وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ﴾ [البقرة: 50]. وقوله: ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ ۖ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾ [الشعراء: 63].

وقد تكون الآية مُذكرة بعلامات يوم القيامة، وتسجير البحار بامتلائها وفيضان بعضها على بعض، وهو معنى آخر للتسجير، ويكون ذلك بزوال الحواجز والبرازخ بين البحار والتي تمنع كل بحر أن يفيض على الآخر. ولهذا المعنى صلة بما يليه ولكن لا صلة له بما قبله.

ثم نظرت إلى جواب القسم ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ﴾، واسترجعت الصورة القرآنية في سورة البقرة لتخويف بني إسرائيل بإيقاع الطور فوق رءوسهم بعد أن رفعته الملائكة تخويفًا لهم ليأخذوا التوراة بقوة ﴿وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ﴾، فجاء في خاطري أنه ربما كان الأدق أن الذي أقسم الله تعالى به في سورة الطور، والذي ورُفع فوق رءوسهم كان الطور الأيمن الذي أُعطوا عنده التوراة، وأُمروا أن يأخذوها بحقها. والله تعالى أعلى وأعلم.

 

د. منى أبو بكر زيتون

..........................

* هذا المقال تم اقتطاعه من مقال قديم بعنوان "قصة جبلين وجزيرتين"، وهذه النسخة منه منقحة ومزيدة ومنشورة في كتابي "تأملات في كتاب الله"

 

في المثقف اليوم