دراسات وبحوث

منى زيتون: أهل الكهف

منى زيتونيقول تعالى في سورة الكهف: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)﴾.

وقصتهم من أكثر قصص القرآن التي نالت عناية من المفسرين، فلم يكادوا يتركوا كلمة مما قصه الحق سبحانه وتعالى عن حالهم إلا ودققوا فيها. لكني تأملت في القصة، ولدي القليل مما يمكن أن أضيفه.

ومما يستوقفني من حالهم أن أصحاب الكهف كانوا فتية صغار السن، أنار الله بصيرتهم فعرفوه على صغر سنهم، ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾[الكهف: 13]، وربط على قلوبهم فثبتهم على الإيمان ﴿وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَٰهًا ۖ لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا﴾ [الكهف: 14]،  فكانوا أهلًا لأن يتولى الله أمرهم، ولأن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فقد حفظهم الله من الكافرين وملكهم الغشوم فلم يصلوا إليهم، كما حفظ أجسادهم من الموت على طول الفترة التي قضوها في الكهف، وكان نومهم في الكهف أكبر رحمة بهم.

كانوا فتية صغارًا لا تدبير لهم ولا حيلة بأيديهم. لم يستطيعوا مغادرة البلد والهجرة منه كما قد يفعل من هم أكبر منهم سنًا، وربما لم يعرفوا بلدًا مؤمنًا ليهاجروا إليه، فاختاروا أن يعتزلوا قومهم ويأووا إلى الكهف ﴿وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا﴾ [الكهف: 16]. ولم يفكروا ماذا يمكن أن يحدث لهم إن عثروا عليهم أو نفذت نقودهم القليلة، وكيف كانوا سيعيشون فيه ويدبرون أمور معيشتهم، وربهم كان أعلم بهم، ونومتهم كانت أفضل حل لهم، فقد أخذوا بالأسباب على قدرهم، وكافأهم الله ونجاهم على قدره.

وأذكر ذات مرة أن سألنا أستاذنا الدكتور سعيد إسماعيل علي عن التدرج الذي وصفه الحق سبحانه وتعالى لمن يمكن أن يطلع على أهل الكهف. قال: درجنا أن نسمع من علماء النفس عن المراحل الثلاث الشهيرة: معرفة، ثم وجدان، فنزوع، لكن عندما نقرأ قوله تعالى: ﴿لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا﴾ [الكهف: 18]، هنا نجد اتفاقًا في الخطوة الأولى ﴿لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ﴾  معرفة، يتبعها نزوع ﴿لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا﴾، ثم وجدان ﴿وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا﴾. فهل ثمة تعارض هنا؟

قلت: في الجزء الأول من الآية ﴿لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ﴾ الحديث عن عملية الإحساس وهي ليست عملية عقلية، بل تقوم فيها أعضاء الحس بالتقاط المثيرات البيئية لتغذية المخ بالمعلومات. والانتباه والإدراك عمليتان عقليتان متلازمتان، وهما تليان عملية الإحساس. والانتباه للمثيرات يحدث أولًا –وبفارق أجزاء من الثانية- بعد انتقال المعلومات من أعضاء الحس إلى المخ، وهو في حالة أصحاب الكهف مع التغير المريع في هيئتهم نتيجة تطاول السنين كافٍ لخلق انفعال أولي ولإحداث رد الفعل النزوعي السريع ﴿لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا﴾، ثم بعده يأتي الإدراك الحقيقي للمثيرات والذي يترتب عليه تكوين الانفعال ﴿وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا﴾.

وقد يكون ﴿وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا﴾ تعليلًا للفرار لذا جاء بعده، ولكن لا تظهر صيغة التعليل، بل هو معطوف على ﴿لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا﴾، لأن كلًا منهما مشمول كرد فعل لحال من يطلع عليهم. ومثله –فيما أرى- قوله تعالى: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ﴾ [الأنبياء: 90]، فاستجابة الله لزكريا عليه السلام كانت بإعطائه الولد الذي طلب، ولم يكن ذلك ممكنًا دون إصلاح الزوجة العقيمة بأن جعلها الله ولودًا فحملت بالولد، فإصلاح الزوجة سبب للولد، وجاء بعده في الآية كعلة له، ولكن لأن كليهما يدخلان في استجابة الله لزكريا عليه السلام عُطفا ولم تستخدم صيغة التعليل، والله أعلم.

 

د. منى زيتون

‎أحد مقالات كتابي "تأملات في كتاب الله"

 

في المثقف اليوم