دراسات وبحوث

كاميليا الورداني: الجاحظ بين الانفتاح الثقافي وحتميات الخصوصية العربية

1ـ في مرآة الجاحظ

حسب ترجمة ابن النديم (توفي سنة 380هـ) في كتابه "الفِهْرِست"، فـالجاحظ «هو أبو عثمان بن عمرو بن محبوب، مولى لأبي القلمس عمرو بن قطع الكناني ثم الفقيمي. (...) وكان جد الجاحظ الأدنى أسود يقال له نزارة، وكان جمالا لعمرو بن قطع»[1]. ولد بالبصرة، ولا يعرف تاريخ ميلاده بالضبط، غير أن خير الدين الزركلي (1893ـ1976م) يورد سنة ميلاد الجاحظ في كتابه "الأعلام"، فجعل ميلاده سنة 163هـ/780م [2] وذلك دون إسناد. أما المستشرق الفرنسي شارل بيلات (charles Pellat) (1914ـ1992) في كتابه الذي خصصه للجاحظ، فيرى أن الجاحظ نفسه كان يجهل تاريخ ميلاده، وقد اختلف المؤرخون والمترجمون في وضع تاريخ ميلاده، فجعل بعضهم ولادة الجاحظ سنة 155هـ ، وسند هذا التقدير قول الجاحظ: "أنا أسن من أبي نواس بسنة، ولدت في أول سنة خمسين ومائة وولِد في آخرها"[3] ؛ إلا أن شارل بيلات يستدرك بضرورة التحفظ في هذا الادعاء لأسباب يذكرها. ولعل معظم الترجمات التي وضعت للجاحظ تشكو شح المعلومات عن نشأة الجاحظ وطفولته؛ وفي هذا يقول شارل بيلات: «ليس لدينا معلومات عن طفولة الجاحظ، كما أننا لا نعلم شيئا عن أهله وإخوته وأخواته، ثم إن مترجمي الجاحظ لم يقولوا لنا شيئا عن الظروف التي أتم الجاحظ فيها دروسه الأولية»[4]. غير أن ما يجمع عليه هؤلاء أن الجاحظ نشأ فقيرا يتيما معتمدا على نفسه في كسب رزقه، إذ جاء «في أخباره أنه كان يبيع الخبز والسمك»[5] *. ويورد ابن النديم في "الفهرست" أن الجاحظ لم يتزوج قط ولم يرزق بأولاد، وأن قليلا من المال الذي كان يحصل عليه مقابل نسخ من كتبه كان يسد حاجته[6]. وكذلك جاء أن الجاحظ كان يشكو من الفالج قبل وفاته، إذ جاء على لسانه يشكو علته لمتطبب، قوله: «اصطلحت الأضداد على جسمي، إن أكلت باردا أخذ برجلي، وإن أكلت حارا أخذ برأسي. (...) [وقوله أيضا:] أنا من جانبي الأيسر مفلوج [أي مشلول]، فلو قُرّض بالمقاريض ما علمت، ومن جانبي الأيمن مُنقرس، فلو مرّ به الذباب لآلمت...»[7]. ويتفق المؤرخون على أن تاريخ وفاته كان سنة 255هـ، وكذلك أورده صاحب "الفهرست" أنه مات في هذا التاريخ، وجعله في خلافة المعتز[8].

وقد عرف الجاحظ بخفة ظله وميله لأسلوب الطرافة والهزل، وعلى هذه الشاكلة جاءت الكثير من كتاباته ونوادره وأخباره في قالب هزلي فكاهي، غير أن «الإضحاك عنده بعيد عن العبث والترف، بل على العكس من ذلك، وسيلة لشحن النفس بالطاقة، وتجديد نشاطها؛ لاستعادة سعيها الجاد»[9]. أما بخصوص لقبه "الجاحظ"، فقد كان هذا لقب شهرته الذي عرف به إلى يومنا، وسبب التصاق اللقب بصاحبه راجع إلى «نتوء حدقتيه [عينيه] وجحوظهما»[10].

ورغم أن الأمر يتعلق بمفخرة علمية خالدة في تاريخ الفكر العربي، إضافة إلى ما يشهد به أدبه وفكره من نبل ورقي أخلاق وقيم، إلا أن الملاحَظ كون الجاحظ لم يُنْصَف، بل جرى الاجهاز عليه بتشويه سمعته وصورته؛ فقد نقلت إلينا المصادر وصفا فيزيولوجيا جارحا وقاسيا لشخص الجاحظ، وبكثير من المبالغة التي لاقت الترحيب بالتواتر في المصادر بين المؤرخين والمترجمين والأدباء والمتأدبين (وهذا أمر يطرح بجدية سؤال الأخلاق في التأريخ والتدوين)، ونعني هنا وصف الجاحظ بقبح الخِلقة والدمامة والبشاعة إلى حد تشبيهه بـ"الشيطان"! وهو وصف لم نجد من تصدى له بعين أخلاقية من العرب، باستثناء دراسة المستشرق الفرنسي "شارل بيلات"، حيث يقول في هذا الصدد: «يجدر بنا في هذا المجال ألا نبالغ في قبح الجاحظ، فإن تاريخ الأدب القديم قد رسم للجاحظ صورة ليس فيها شيء من الأناقة. إن الجاحظ قد خلد ذكره أسلوبه الكتابي الناصع الطريف، ثم جاء الأدب الشعبي فاستغل (...) شكله ليغذي موضوع القبح، حتى نسب إليه دون حياء اعترافه بقبحه، في حين أنه ـ على حد علمنا ـ كان لا يحب الرمز إلى هذا النقص الخلقي فيه. ولم يكتفوا بإعادة أبيات شاعر مجهول (...) وهي:

لو يمسخ الخنزيــر مســخا ثانيا * ما كــــان إلا دون قبح الجاحــــــظ

رجل ينوب عن الجحيم بوجهه * وهو الــقذى في عين كل لاحظ

ولو أن مــرآة جلت تمثاله * ورآه، كـــان له كأعــظم واعــظ» [11] !

وما زال شارل بيلات في دفاعه عن هذه القامة العلمية يؤكد أن ما تعرض له الجاحظ من تجريح في خِلقَتِه كان يجري نسبه إلى لسان الجاحظ نفسه، حيث يقول: «إن أشهر النوادر على قبح الجاحظ هي التي أنطَقوه بها عن نفسه، قال: "ما أخجلني إلا امرأة مرت بي إلى صائغ فقالت له: اِعملْ مثل هذا، فبقيت مبهوتا ثم سألت الصائغ فقال: هذه امرأة أرادت أن أعمل لها صورة شيطان، فقلت: لا أدري كيف أصوره، فأتت بك لأصوره على صورتك"»[12] !.

2ـ نشأة الجاحظ العلمية وثقافته ومذهبه

كانت نشأة الجاحظ العلمية على شاكلة أبناء الأسر الفقيرة في الشرق، فقد «ذهب إلى الكُتّاب في حيِّه، حي بني كنانة، وفيه اتصل بالوسط الخارجي (...)، وفيه اتصل أول مرة بالمعلمين...»[13]. ولقد كان للجاحظ منذ نشأته شغف شديد للتعلم، ويظهر ذلك فيما كان عليه سعيه في التردد على مختلف منابر العلم، حتى كان لهذا أثر واضح في تشكل موسوعيته الفكرية لاحقا؛ إذ «لم تقف ساحات تثقفه عند المسجد والمِربَد وما كان يأخذه عن جِلّة العلماء أمثال الأصمعي وأبي زيد والأخفش وأبي عبيدة أصحاب اللغة والأخبار ولا عند أبي الهذيل العلاف وبشر بن المعتمر وثمامة بن أشرس والنَّظّام من المعتزلة، ولا عند كبار الفقهاء والمحدثين في عصره، بل امتدت إلى كل فروع الثقافة، عن طريق المكتبات»[14]. ولقد طرح شارل بيلات أسئلة عديدة متعجبا من ألمعية الجاحظ المبكرة وتحديه ظروف النشأة القاسية، فيقول: «كيف ولماذا استطاع الجاحظ وهو ينتسب إلى أصل متواضع وأسرة عامية أن يصبح أديبا تبدو ثقافته في كل صفحة كتبها؟ وكيف ولماذا استطاع أن يمتاز من معاصريه، ليس باتساع معارفه في مادة معينة محدودة فحسب، بل في موهبةٍ اصطفائية أصيلة؟ ولا بد لنا للإجابة على هذا السؤال (...) من أن نفسح المجال للمواهب الذاتية، وأن نضع أساسا [لهذه] الموهبة الفريدة الواسعة التي ظهرت عنده منذ صغره في مهنة الأدب، ثم إن تكوينه أسهم ولو بصورة اصطناعية وثانوية في تفتيح هذه الصفات الذاتية، وهو الذي أتاح لفنه الكتابي فرصة التعبير دون الانفكاك عن التقاليد العلمية، (...) وهنا تستقر في رأينا طرافة الجاحظ الأصيلة التي لا تظهرها تماما إلا دراسة عميقة لعناصر الثقافة المتنوعة التي هو أحد ورثتها»[15].

وفي افتتان الجاحظ بالقراءة جاء في "الفهرست" ما نصه: «فأما الجاحظ، فإنه كان إذا وقع بيده كتاب قرأه من أوله إلى آخره، أي كتاب كان»[16] كان ذا هوس شديد للقراءة، حيث يروى أنه «لم يكن يكتفي بقراءة كتاب أو كتب في اليوم الواحد، (...) [و] يَذْكُر صاحب الفهرست أنه كان يكتري دكاكين الوراقين ويبيت فيها للقراءة والنظر. ويقول أبو هفان: "لم أر قط ولا سمعت من أحب الكتب والعلوم أكثر من الجاحظ، فإنه لم يقع بيده كتاب قط إلا استوفى قراءته كائنا ما كان". وكان أشبه بألة مصورة فليس هناك شيء يقرؤه إلا ويرتسم في ذهنه، ويظل في ذاكرته آمادا متطاولة»[17]. ويضيف شارل بيلات في هذا السياق أن ثمة عاملا آخر أسهم في إغناء معرفته وهو أن أصدقاءه وأساتذته كانوا يضعون مكتباتهم الخاصة تحت تصرفه[18].

ويذكر الزركلي في كتابه "الأعلام" أنه في آخر عمره وبينما كان منهمكا في القراءة، وقعت عليه الكتب والمجلدات فمات[19].

ولا يستقيم الحديث عن ثقافة الجاحظ دون الاشارة إلى مذهبه المعتزل، فهو واحد من أهم معتزلة عصره، وفي طبقات المعتزلة فرقة سميت بـ"الجاحظية" نسبة إليه. وقد أورد د.شوقي ضيف (1910ـ2005) هذا الميل لدى الجاحظ للمعتزلة قائلا: «وكان من أهم ما شغف به الإعتزال، وقد مضى يلزم أساتذته في عصره، ويستوعب كل ما كان عندهم، (...) وكلما اشتهر معتزلي لزم حلقته، وكان من أهم من لزمهم النَّظَّام، وكان لا يبارى في المناظرة وإفحام الخصوم بالبراهين والأدلة القاطعة، فتلقن ذلك عنه، وسنراه يطبقه في كل جانب من جوانب كتاباته الكثيرة، (...) وكان النَّظَّام يمزج بقوة بين الاعتزال والفلسفة، وكأنه هو الذي دفع الجاحظ دفعا للتزود من جداولها بكل ما استطاع.[20]

وقد خلف الجاحظ مصنفات كثيرة في معارف وتخصصات عديدة تنم عن سعة ثقافته ومناهله، والتي يمكن جرد أهمها فيما يأتي: "البيان والتبيين"، و"الحيوان"، و"البخلاء"، و"تهذيب الأخلاق"، وفلسفة الجد والهزل"، و"المحاسن والأضداد"، و"الرسائل"، "التاج في أخلاق الملوك"، و"سلوة الحريف بمناظرة الربيع والخريف"، و"مفاخرة الجواري والغلمان"، و"الزرع والنخل"، و"الفرق بين النبي والمتنبي"، و"الوكلاء والمتوكلين"، كتاب "اللصوص"، و"الصرحاء والهجناء"، و"الطفيليين"، و"السودان والبيضان"، و"التربيع والتدوير"، و"الغناء والصنعة"، و"دم الزنا"، و"التفكر والإعتبار"...إلخ[21].

وإن نظرة سريعة في هذه العناوين، وغيرها كثير، تخرج القارئ بانطباع موسوعية ثقافة الجاحظ غير المتخصصة؛ فتجد فيه اللغوي، والفيلسوف، والمتصوف، وعالم النبات، والطبيب، وعالم الأحياء، والأنثروبولوجي، وعالم النفس، وعالم الأرصاد، والسياسي، ورجل الدين... إلخ؛ وهي معارف جمة نال حظها الجاحظ مشفوعة بحظه من النشأة في أحضان العصر العباسي.

3ـ الجاحظ : العصر العباسي والتلاقح الثقافي

لعل د.شوقي ضيف، في كتابه "العصر العباسي الثاني"، كان موفقا بما يكفي في تعبيره قائلا: «يعد الجاحظ أكبر كاتب ظهر في العصر العباسي، وهو في الحق الثمرة الناضجة لكل الجهود العقلية الخصبة التي نهض بها المعتزلة، سواء من حيث وضوح المنطق أو من حيث قوة الاستدلال أو من حيث القدرة على التوليد للمعاني، وكأنه يستمد من مخازن عقلية لا تنفد (...) بما يستنبطه من خفيات المعاني وما يثيره من دقائق الفكر في الروح (...)، بل أيضا من خفايا المجتمع الذي عاشه وظواهره وما فيه من أخلاق وغير أخلاق مما يتصل بطبقاته الشعبية (...) وما يتصل بطبقاته العليا الحاكمة وغير الحاكمة (...) وما يتصل بأهل الذمة من المجوس والنصارى واليهود، وما يتصل بالحيوان والنبات وبالعرب والعجم وفضائل الشعوب، وكأنك تدور في كتاباته بمتحف لا تزال تفجؤك فيه الطرف والصور»[22]، وهي بحق شهادة صدق، وأقل ما يمكن أن يقال في شخص الجاحظ. لكن لنأخذ هذه القولة بشيء من التحليل ـ فإنه مهما تقلب الباحث بين منهج ومنهج، لا يستقيم له بحث تجاهل فيه المناهج السياقية مهما حاول؛ ففضلا عن إشارة سابقة لميل الجاحظ إلى الفلسفة والجدل في مذهبه المعتزل، يتحدث هنا شوقي ضيف عن ثقافة الجاحظ ذاكرا المنطق، وقوة الاستدلال، والقدرة على توليد المعاني، والأخلاق، والمجتمع بمختلف طبقاته، وتعايش الديانات، وتلاقح العرب والعجم، وتواصل الشعوب، بل مارا بالقارئ إلى عالم الحيوان والنبات.. وهذا بالضبط ما يصدق إجماله سياقيا في تعبير بسيط، هو: التلاقح الثقافي في العصر العباسي.

فما يعرف بالجملة عن هذا العصر دون سواه من العصور، أنه كان فترة فارقة وحاسمة أحدثت نقلات وطفرات وازنة في الوعي العربي، وكانت فرصة لتجديد العلوم والمعارف، وذلك بالانفتاح على ثقافات الشعوب وتلاقح الثقافة العربية بنظيراتها الأعجمية. فبدت الثقافة العربية بانفتاحها وتفتحها في أوج نضارتها وازدهارها.

وبعد هذا التلاقح الحضاري الذي أقدمت عليه الثقافة العربية باستعداد منقطع النظير في تاريخها، ما انقضى القرن الثاني الهجري حتى كانت قد «دخلت العربية سيولُ ثقافية وعلمية لا حصر لها، مما مكن العرب أن يتحولوا سريعا إلى أمة علمية تُعنى بكل جوانب العلم الذي كان معروفا عند الأمم القديمة وخاصة الفرس والهنود والسريان واليونان، وتشارك فيه [أي الأمة] مشاركة جادة خصبة، وتضيف إليه علوما جديدة تتصل بالقرآن والشريعة والشعر واللغة والنحو والعروض»[23]. وهو العصر نفسه الذي نشطت فيه حركة الترجمة عن اليونانية خاصة والفارسية والهندية والسريانية، وهي الحركة التي حظيت بتشجيع المتوكل وغيره من خلفاء العصر الذين أغدقوا على المترجمين بأموال ضخمة لمهمة الترجمة؛ حتى أنه «يخيل إلى الإنسان أنهم لم يتركوا [أي المترجمون] حينئذ كتابا يونانيا في أصله اليوناني أو في ترجمته السريانية إلا ترجموه إلى العربية»[24]. واستخلاصا من هذا كله، فلنا أن نتأمل في خصوبة الأرضية الثقافية التي استنبتت مواهب الجاحظ المصطفاة فيه والمنتقاة، ولنا أن نتأمل في فضل تواصل الحضارات وجميل صنيعها، بعيدا عن مفاهيم الصدام والاحتدام.

4ـ "الجاحظية" ومطاعن الزندقة

لعله أمكن التسليم بأن للنبوغ ضريبة تلمس في سير جل أعلام الفكر والمعرفة؛ وفي مثل سياق العصر الذي نشأ فيه الجاحظ، لم يكن سوى لينال صاحبنا حظه من الطعن والتجريح والاتهام. وإن كون الجاحظ في عداد المعتزلة، وله فرقة كلامية تنتسب إليه ("الجاحظية") سببا كافيا لينظر إليه زنديقا كافرا ملحدا متطاولا على شرع الله. ومثالا بسيطا على ما طال المعتزلة من التحامل من قبل الأشاعرة، أن ابن عساكر (550ـ620هـ) في كتابه "تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري"، يروي سندا مفاده أن الشيخ أبا الحسن الأشعري كان يحاضر في مجلس، فيقول ابن عساكر: «فناظره المعتزلة خذلهم الله تعالى»[25].

ولقد جعل ابن المرتضى (739ـ793هـ) مرتبة الجاحظ في الطبقة السابعة من كتابه "طبقات المعتزلة"، وفيه يورد خبرا من أخبار الجاحظ، يقول: «قال الجاحظ: قلت لأبي يعقوب الخريمي من خلق المعاصي؟ قال: الله، قلت: فمن عذّب عليها؟ قال: الله، قلت فلِمَ؟ قال: لا أدري والله.»[26].

وفي ذكر الجاحظية ومطاعنها يقول الإمام البغدادي (توفي سنة 329هـ) في كتابه "الملل والنحل" ما يشفي غليل أعداء الجاحظ؛ إذ يهاجم االبغدادي هذه الفرقة قائلا: «هؤلاء قوم من غواة القدرية بالبصرة، انتسبوا إلى عمرو بن بحر الجاحظ اعتزازا منهم بحسن نذلته وبلاغته في كتبه التي لها ترجمة تروق بلا معنى، واسم يهول بلا جسم. ولو عرفوا ضلالاته لاستغفروا من ظنهم اياه انسانا فضلا أن يظنوا به إحسانا. (...) ومن بدعه (...) قوله بأن الله عز وجل، لا يدخل أحدا النار، وإنما النار تجذب أهلها إلى نفسها بطبعها، ثم تمسكهم في نفسها على الخلود. فإن قال بمثل هذا في الجنة، وإنها تجذب أهلها إلى نفسها بطبعها، فقد قطع الرغبة عن الله تعالى والرهبة منه. وكفاه بذلك خزيا. ومن فضائحه مجونه في كتبه التي أغوى بها الفَسَقَة، مثل كتابه في "حيل اللصوص"، وكتابه في "غش الصناعات" (...) وزين بكتاب "البخلاء" البخل في أعين البخلاء. وصنف كتابا في "النواميس" التي تجتلب بها المحتالون الودائع، (...) وقد جرى المَثَلُ بأن من كان في أصله لئيما وفي دينه ذميما، لم يزل لنفسه عاراً بهيماً (...) وأقصى كتبه أثرا كتاباه المعروفان بـ"طبائع الحيوان" معا في كتاب الحيوان لأرسطاطاليس [(يتهمه بالسرقة)]، وضم إليهما أبياتا من الشعر، وطوله بمناظرة في المفاخرة بين الديك والكلب. والمناظرة في ذلك تضييع للوقت بالمقت. ثم إنه لحن في هذين الكتابين لحنا لا يخفى على الصبيان...»[27].

والمسألة بين الأشاعرة والمعتزلة إنما كانت الجانب الآخر (غير المرغوب) في ما عرفته الثقافة العربية من اختلاط بغيرها من الثقافات والأديان. فبعد التحفظات والمحاذير من إثارة قضايا الدين في عصر الخلفاء الأمويين، يذكر محقق كتاب "إعجاز القرآن" لـ الباقلاني أن هذه الفئة من المشككين المتخفين خلفوا بعدهم «[خلفا] كانوا أكثر ثقافة، وأغزر علما، وأحسن بيانا [يقصد مثقفي العصر العباسي]؛ فأصحروا بآرائهم، وجاهروا بمعتقداتهم، وبثوا شكوكهم في المجالس والأندية، وسطروها في الكتب والرسائل التي أسرفوا في تحسينها، (...) وقد ساعدهم على جهرهم هذا ومكن لهم منه، تبدل الزمان، وتغير الحال، بتسامح الخلفاء في غير ما يمس سلطانهم ويعرض لدولتهم، وامتلاك غير العرب لزمام الأمور في الدولة، وانتشار الكتب المترجمة؛ وازدياد اتصال العرب بغيرهم من أهل المذاهب والنحل الأخرى، وكثرة الجدال بين المذاهب الإسلامية واشتعال نار العداوة بين الفرق االكلامية»[28].

ولأن الخلاف نشأ بين الجبهتين أساسا بخصوص إعجاز القرآن من عدمه، وبكونه حجة على النبوة من عدمها، إضافة إلى مسائل عقدية أخرى ـ وبالتالي احتدام الصراع بين أنصار العقل وأنصار النقل ـ فإن القضية ذات وزن لم يكن سوى ليؤجج العصبية الدينية ويجعل كل معتزلي في موقف حرج أمام الأشاعرة من السنة؛ ولشد ما توفق الباقلاني في وصفه سياق الصراع الحاصل بين الفرقتين في قوله: «فقد أدى ذلك إلى خوض الملحدين، في أصول الدين، وتشكيكهم أهل الضعف في كل يقين. وقد قل أنصاره، واشتغل عنه أعوانه، وأسلمه أهله. فصار عرضة لمن شاء أن يتعرض فيه، حتى عاد مثل الأمر الأول على ما خاضوا فيه عند ظهور أمره. فمنهم قائل قال: إنه سحر، وقائل يقول: إنه شعر، وآخر يقول إنه أساطير الأولين، وقالوا: لو شئنا لقلنا مثل هذا»[29].

5 ـ "البيان والتبيين": ضريبة الانفتاح وهم الهوية

في سياق هذا اللقاء الحضاري الثقافي والديني الكبير، وجد العرب أنفسهم أمام تحدي إثبات قوة الثقافة العربية مجْهِزِين في ذلك بقوة الحجاج والمنطق والجدل وفلسفة اللغة، محاجِجين الثقافات الفارسية والهندية والسريانية، وغيرها، فيما للعرب من فنون الخطابة والفصاحة والبيان المؤيد بقدسية القرآن الذي اختار له الله عز وجل اللسان العربي. وبهذا كان علم البيان في تراث ذلك التاريخ وسيلة المثقف في الدفاع عن عقيدة الأمة؛ إذ إن «دور المثقف (...) [في هذه الفترة هو تبرير عقيدة الأمة] (...). وهو الشغل الشاغل للثقافة العربية، بعد انفتاحها على ثقافات الشعوب الأخرى»[30] ولقد كان الجاحظ بحق ذلك المثقف العلامة الذي سخّر كل طاقته ومعارفه في سبيل هذه الغاية الجليلة.

وفي هذا السياق بالضبط جاء تأليف كتاب "البيان والتبيين"، كتاب يجد فيه القارئ ضالته لما قدمه من مفهوم واسع للبيان كان للجاحظ قصب السبق في إخراجه بهذا المنظور الرحب؛ ففي تعريفه للبيان يقول الجاحظ: «والبيان اسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى، وهتك الحجاب دون الضمير، حتى يفضي السامع إلى حقيقته، ويهجم على محصوله كائنا ما كان ذلك البيان، ومن أي جنس كان الدليل؛ لأن مدار الأمر والغاية التي إليها يجري القائل والسامع، إنما هو الفهم والإفهام؛ فبأي شيء بلغت الإفهام وأوضحت عن المعنى، فذلك هو البيان في ذلك الموضع»[31]. فالبيان بهذا المفهوم الجديد الذي يقدمه الجاحظ، تجاوز مفهوم الإبانة بالكلام، ليشمل وسائط متعددة في الإبلاغ والتبيين؛ (يمكن جردها بوضوح من خلال فهرسة الكتاب).

وهو الكتاب الذي أشاد به أبو هلال العسكري (307 ـ 395هـ) في مفتتح كتابه الشهير "الصَّناعتين" قائلا: «فلما رأيت تخليط هؤلاء الأعلام فيما راموه من اختيار الكلام، ووقفت على موقع هذا العلم [يقصد علم الكلام] من الفضل، ومكانه من الشرف والنبل، ووجدت الحاجة إليه ماسة، والكتب المصنفة فيه قليلة، وكان أكبرها وأشهرها كتاب "البيان والتبيين" لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، وهو لعَمْري كثيرُ الفوائد، جم المنافع؛ لِما اشتمل عليه من الفصول الشريفة، والفِقَر اللطيفة، والخطب الرائعة، والأخبار البارعة، وما حواه من أسماء الخطباء والبلغاء، وما نبه عليه من مقاديرهم في البلاغة والخطابة؛ وغير ذلك من فنونه المختارة، ونعوته المستحسنة»[32].

ومن التزكيات التي جاءت متأخرة في حق كتاب "البيان والتبيين"، ما قاله الراحل المصري د.مصطفى ناصف (1921ـ2008) في كتابه "محاورات مع النثر العربي" : «لا شك أن البيان الجديد الذي رمى إليه الجاحظ خلاصة ثقافات متنوعة. ولكن هذه الثقافات تذوب من أجل تكوين بيان جديد لا هو بفارسي ولا هو يوناني. وإنما هو فارسي يوناني. (...) لا هو بقديم ولا هو بمولد. وإنما هو قديم مولد. لا هو خفي ولا ظاهر. وإنما هو الخفي الظاهر»[33].

 

كاميليا الورداني

(باحثة من المغرب)

..................................

قائمة المصادر والمراجع

1ـ المصادر:

ـ ابن النديم: "الفهرست"، تحقيق: د.يوسف علي طويل، دار الكتب العلمية، الطبعة الثالثة، بيروت ـ لبنان، 2010.

ـ ابن المرتضى: "طبقات المعتزلة"، تحقيق: سوسنة ديفلد وفيلزر، النشرات الاسلامية، جمعية المستشرقين الألمانية، الجزء 21، بيروت ـ لبنان، 1961.

ـ الإمام البغدادي: "الملل والنحل"، تحقيق: د.ألبير نصري نادر، دار المشرق، بيروت ـ لبنان، بدون طبعة، 1970.

ـ أبو بكر الباقلاني: "إعجاز القرآن"، تحقيق: السيد أحمد صقر، دار المعارف، مصر، بدون تاريخ نشر.

أبو عثمان الجاحظ: "البيان والتبيين"، تحقيق وشرح: د.عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، الطبعة السابعة، الجزء الأول، القاهرة، 1998.

ـ أبو هلال العسكري: "الصناعتين"، تحقيق: علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل ابراهيم، دار الفكر العربي، الطبعة الثانية، بدون مكان نشر، بدون تاريخ نشر.

ـ خير الدين الزركلي: "الأعلام"، دار العلم للملايين، الطبعة السابعة، بيروت ـ لبنان، 1986.

2ـ المراجع

ـ د. شارل بيلات: "الجاحظ: في البصرة وبغداد وسامراء"، ترجمة: د.إبراهيم الكيلاني، دار اليقظة العربية للتأليف والترجمة والنشر، بدون طبعة، دمشق ـ سوريا، 1961.

ـ شوقي ضيف: "العصر العباسي الثاني"، دار المعارف بمصر، الطبعة الثانية، القاهرة، بدون تاريخ نشر.

ـ قالط بن حجي العنزي: "فن الإضحاك في بخلاء الجاحظ: مقاربة تداولية"، مجلة البلاغة والنقد الأدبي، ملف: النقد الثقافي، العدد الثاني، ، المغرب، خريف/شتاء 2014ـ2015.

ـ د.مختار الفجاري: "خطاب العقل في أدب الجاحظ"، عالم الفكر، العدد 3، المجلد 44، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، يناير ـ مارس 2016.

ـ د.مصطفى ناصف: "محاورات مع النثر العربي"، عالم المعرفة، العدد: 218، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، فبراير 1997.

هوامش

[1] ـ ابن النديم: "الفهرست"، تحقيق: د.يوسف علي طويل، دار الكتب العلمية، الطبعة الثالثة، بيروت ـ لبنان، 2010، ص:291.

ـ خير الدين الزركلي: "الأعلام"، دار العلم للملايين، الطبعة السابعة، بيروت ـ لبنان، 1986، ص: 74.[2]

[3]ـ ابن النديم، المصدر السابق، ص: 291. وانظر شارل بيلات: "الجاحظ: في البصرة وبغداد وسامراء"، ترجمة: د.إبراهيم الكيلاني، دار اليقظة العربية للتأليف والترجمة والنشر، بدون طبعة، دمشق ـ سوريا، 1961، ص: 90.

ـ المصدر نفسه، ص: 103.[4]

[5]ـ ابن المرتضى: "طبقات المعتزلة"، ص: 380، نقلا عن:

شوقي ضيف: "العصر العباسي الثاني"، دار المعارف بمصر، الطبعة الثانية، القاهرة، بدون تاريخ نشر، ص: 588. وانظر أيضا: شارل بيلات، المرجع السابق، ص: 111.

* "يروى أن أمه ضاقت بانهماكه في الدرس والقراءة، فطلب منها يوما طعاما، فجاءته بطبق مليء بكراريس أودعها البيت، وقالت له: ليس عندي من طعام سوى هذه الكراريس، تريد أن تنبهه إلى التكسب. فذهب إلى الجامع مغتما، ولقيه مويس بن عمران أحد رفاقه الأثرياء في الدرس، فسأله ما شأنك؟ فحدثه بحديث أمه، فأخذه إلى منزله وأعطاه خمسين دينارا، فأخذها فرحا، ودخل السوق، واشترى الدقيق وحمله الحمالون إلى داره، وسألته أمه من أين لك هذا؟ فقال لها من الكراريس التي قدمتها إلي" (أنظر: شوقي ضيف، المرجع السابق، ص: 588. نقلها عن: شارل بيلات، المرجع السابق، ص: 110، وانظر ـ يارعااك الله ـ طبقات المعتزلة لابن المرتضى، ص: 68.).

ـ ابن النديم، المصدر السابق، ص: 293.[6]

ـ ابن النديم، "الفهرست"، ص: 291 ـ 292.[7]

[8] ـ المصدر نفسه، 293.

ـ قالط بن حجي العنزي: "فن الإضحاك في بخلاء الجاحظ: مقاربة تداولية"، مجلة البلاغة والنقد الأدبي، ملف: النقد الثقافي، العدد الثاني، خريف/شتاء 2014ـ2015، المغرب، ص: 75.[9]

ـ د. شوقي ضيف، المرجع السابق، ص: 587. (بتصرف).[10]

[11] ـ شارل بيلات، المرجع السابق، ص: 101.

ـ المرجع نفسه، ص: 102.[12]

ـ المرجع نفسه، ص: 104.[13]

ـ د.شوقي ضيف، المرجع السابق، ص: 588.[14]

ـ شارل بيلات، المرجع السابق، ص: 111.[15]

ـ ابن النديم، المصدر السابق، ص: 291.[16]

ـ د.شوقي ضيف، المرجع السابق، ص: 589.[17]

ـ شارل بيلات، المرجع السابق، ص: 114.[18]

، الزركلي، المرجع السابق، ص: 74. (بتصرف)[19]

ـ د.شوقي ضيف، المرجع السابق، ص: 589.[20]

[21] ـ انظر: ابن النديم: "الفهرست"، المصدر السابق، ص: 293.

[22] ـ المرجع نفسه، ص: 592.

ـ شوقي ضيف، المرجع السابق، ص: 115.[23]

ـ المرجع نفسه، ص: 131.[24]

ـ ابن عساكر الدمشقي: "تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري"، مطبعة التوفيق، دمشق، 1347هـ، ص: 94.[25]

[26]ـ ابن المرتضى: "طبقات المعتزلة"، تحقيق: سوسنة ديفلد وفيلزر، النشرات الاسلامية، جمعية المستشرقين الألمانية، الجزء 21، بيروت ـ لبنان، 1961، ص: 68.

ـ الإمام البغدادي: "الملل والنحل"، تحقيق: د.ألبير نصري نادر، دار المشرق، بيروت ـ لبنان، بدون طبعة، 1970. ص: 124 ـ125.[27]

ـ أبو بكر الباقلاني: "إعجاز القرآن"، تحقيق: السيد أحمد صقر، دار المعارف، مصر، بدون تاريخ نشر، ص: 7.[28]

[29]ـ المصدر نفسه، ص: 4.

[30] ـ د.مختار الفجاري: "خطاب العقل في أدب الجاحظ"، عالم الفكر، العدد 3، المجلد 44، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، يناير ـ مارس 2016، ص: 98.

[31] ـ أبو عثمان الجاحظ: "البيان والتبيين"، تحقيق وشرح: عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، الطبعة السابعة، القاهرة، 1998، الجزء الأول، ص: 76.

[32]ـ أبو هلال العسكري: "الصناعتين"، تحقيق: علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل ابراهيم، المكتبة العصرية، الطبعة الثانية، بيروت ـ لبنان، 2013، ص: 10. (أنظر مقدمة المؤلف).

[33] ـ د.مصطفى ناصف: "محاورات مع النثر العربي"، عالم المعرفة، العدد: 218، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، فبراير 1997، ص: 69.

 

في المثقف اليوم