دراسات وبحوث

محمد بنيعيش: أمن الكعبة وسلام العالمين في حكمة وإجراء النبي الأمين

محمد بنيعيشأولا: المنافسة على المقدس ومخاطر الانزلاق نحو المدنس

حتى لا نسترسل كثيرا في استدرار المعاني الخاصة بالحج وأسراره كركن تعبدي ذي دلالات، ولكي نبقى في إطار الحديث عن السيرة النبوية والحضور المحمدي عند هذا البيت المعظم، نعود لنتناوله من جهة وظيفته الاجتماعية والنفسية الإنسانية، وذلك من خلال دوره في تأسيس الوحدة والتواصل وسد باب الفتن والتقاتل وتحقيق السلم والأمان، سواء بالنسبة إلى قريش سدنته خاصة أو إلى كافة الناس .

وهذا النمط الاجتماعي والاقتصادي ومعه النفسي كغاية قد نص عليه القرآن الكريم بدلالة قطعية في قوله تعالى: (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4).

فالنبي سيدنا محمد (ص)، اجتماعيا، هو قبل كل شيء قرشي، وهو أيضا من حضر هذه الرحلة، وهو من دخل في أمان من جوع ومن خوف . والأمان من الأمانة، والخوف يكون من الخيانة .

إذ الأمانة تقتضي الاستئمان على الأرواح والأعراض والممتلكات، وهذه صفة قد تجسدت في الأمين صلى الله عليه وسلم عمليا وتطبيقا واقعيا حتى أصبحت هي العنوان الرئيسي الطابع لشخصه وسلوكه، فقد كان من بين إرهاصاتها ومبادئها حضوره الفعلي عند حلف الفضول الذي هو أرقى نموذج للأحلاف الإنسانية الراغبة في السلم والضرب على يدي الظالم لحماية المظلوم.

فالأمن من خوف الجوع والاعتداء أيا كان شكله قد جاء بوجود البيت، والبيت قد بناه سيدنا إبراهيم عليه السلام، وتجديده قد تم بواسطة نبينا سيدنا محمد (ص)، وهو قد كان في صلب إبراهيم a إلى أن خرج للوجود، مولودا طاهرا كاملا، فنشأ كذلك إلى أن جاء وقت التجديد لهذا البيت، فكان ما كان من خلاف حول بنائه، وكان ما كان من حتمية القدر في أن يكون الأمين (ص) هو المؤمن لسلامته، وأيضا ضامنا لسلامة قومه من سلبيات الطائفية وشدة الاختلاف عند أقدس المقدسات في وجدان الأمة .

وعند هذا الركن الثمين، والغالي مجدا وموردا، كان طبيعيا بأن تكون المنافسة والتسابق لنيل الحظوة منه و به، وهو ما سيؤدي إلى تفرقة طارئة قد تفتقد إلى خبير بعلم المعادن لكي يجمع شتاتها ويؤلف عناصرها ويوحد ذواتها، وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر !.كما أنه عند اختبار الحرب والسلم واحتدام الصراع والاختلاف يتبين من كان يبكي ممن يتباكى، و يظهر جليا من كان يريد السلم حقا ممن يسعى لإشعال نارها وإحراق من حوله بها.فهناك من يحرض و يؤجج وهناك من يتحين ويترصد وهناك من يحيد ويتحفظ، وهناك من يسعى فعلا لتحقيق السلم ويجتهد فيه...

ستعلم حين ينجلي الغبار أفرس تحتك أم حمار

قال ابن إسحق: (ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها، كل قبيلة تجمع على حدة، ثم بنوها، حتى بلغ البنيان موضع الركن فاختصموا فيه، كل قبيلة تريد أنت ترفعه إلى موضعه دون الأخرى، حتى تحاوروا وتحالفوا، وأعدوا للقتال .

فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما، ثم تعاقدوا هم و بنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة، فسموا لعقة الدم، فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسا .

ثم إنهم اجتمعوا في المسجد وتشاوروا وتناصفوا، فزعم بعض أهل الرواية أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وكان عامئذ أسن قريش كلها، قال: يا معشر قريش، اجعلوا بينكم – فيما تختلفون فيه- أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه، ففعلوا، فكان أول داخل رسول الله (ص)، لما رأوه قالوا: هذا الأمين رضينا، هذا محمد، فلما انتهى إليهم أخبروه الخبر، فقال (ص) :

(هلم إلي ثوبا " فأتي به، فأخذ الركن، فوضعه فيه بيده، ثم قال: " لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب " ثم ارفعوه جميعا، ففعلوا، حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو بيده، ثم بنى عليه، وكانت قريش تسمي رسول الله (ص) قبل أن ينزل عليه الوحي: الأمين)[1].

وفي رواية الإمام أحمد: " فجاء رسول الله (ص) فقالوا: أتاكم الأمين. فقالوا له، فوضعه في ثوب . ثم دعا بطونهم فرفعوا نواحيه فوضعه هو (ص) "[2].

وحول موضوع الثوب فإن المغلب في والمشهور أنه قد استعمل رداءه كما ذهب إلى هذا محمد الخضري من أنه (لما أخبروه الخبر بسط رداءه وقال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم وضع فيه الحجر وأمرهم برفعه حتى انتهوا إلى موضعه فأخذه ووضعه فيه)[3].

وهذا ما أخذ به طه حسين أيضا حيث يقول: (نزع الأمين رداءه فألقاه على الأرض، ثم وضع الحجر في وسطه...)[4].

وتركيزنا على هذه المسألة له دلالات روحية دقيقة سنراها فيما بعد، كما أن قضية التحكيم هاته ستمثل إلهاما ذوقيا وجماليا للشعراء والأدباء والقصاص حيث يصوغ لنا هبيرة بن وهب المخزومي بقوة هذه الأبيات:

تشاجرت الأحياء في فصل خطة

     جرت بينهم بالنحس من بعد أسعد

تلاقوا بها بالبـغض بعد مودة

     وأوقـد نـارا بينـهـم شرُّ موقــــــد

فلـما رأيـنا الأمر قد جد جـده

     ولم يـبق شيء غـير سل المهـــند

رضينا وقـلنا: العدل أول طـالع

    يجيء من البطحاء مـن غير موعد

فـفاجـأنـا هــذا الأمـين محمد

     فـقـلـنـا: رضـينا بالأمين محمد

بخير قريش كلـها أمـس شـيمة

    وفي اليـوم مع مـا يحدث الله في غد

فجاء بأمـر لـم يـر الـناس مثله

    أعـم وأرضـى فـي الـعواقب والبَدِ

أخـذنـا بأطـراف الـرداء وكـلنا

     له حصـة من رفـعها قبضة اليد

فقال:ارفعوا، حتى إذا مـا علـت به

      أكـفـهم وافى بـه غـير مـسند

و كـل رضـينا فـعله وصـنيـعـه

     فأعـظم بـه من رأى هاد ومهتدي

و تلك يـد مـنه عـليـنا عظـيمـة

     يـروح لـها هذا الزمـان ويـغتدي

فلا يستغربن، إذن، من قريش تنافسهم هذا – كما يقول محمد الخضري: (لأن البيت قبلة العرب وكعبتهم التي يحجون إليها، فكل عمل فيه لهم به الفخر والسيادة ...)[5].

ثانيا: الحكمة النبوية في تحويل الصراع إلى تعاون وبناء و استمتاع

هذا التنافس قد كان إيجابيا في بعده، بالرغم مما اعتراه من إشراف على الهلاك والتأهب للحرب الأهلية بينهم، وذلك لأنه قد كان من أجل حماية المقدسات والاستئثار بها، مجدا وخدمة وصيانة...

إذ الذي يريد هذا العز والتفرد من دون بني قومه سيكون بالتأكيد رافضا لغيرهم الاستئثار به، وإذ هو يرفض أن يكون عند الآخر ولو من قومه وعشيرته فإنه سيكون أكثر حرصا على ألا يكون للأجنبي نصيب فيه أو يد للتدخل بأي وجه كان، لأنه غريب، والغريب لا يمنح الأصيل والمقدس ما يستحقه من عناية وحرص وسلامة مقصد وغاية. من هنا فقد كانت قريش أعظم حرصا على أصالة البيت وقدسيته طهارته، كبيت مؤسس من لبنات وألواح وحجارة وطين، وكان أحرص منها في هذا المشهد على سر هذه الطهارة وقدسيتها هو موقف النبي (ص) وحمايته لهذا البيت من أن يلطخ في أسسه وأركانه وبنيته وبنائه بإراقة الدماء من غير حق أو ضرورة .

وأيضا، وهو الأكثر أهمية وغاية، حرصه (ص) على أن لا يدنس بدنس ورجس إبليس اللعين، وخاصة حينما اندس في صورة شيخ نجدي ! كما هي عادته في كل صراع وتآمر على مقدسات الإسلام ورموزه التوحيدية، وهو ما صرحت به الروايات وذكره التاريخ من غير مواربة، قد يأتي في صورة ناصح ومساعد، لكنه في النهاية مدمر ومتنمر وغادر...

إذ كما يذكر طه حسين في حكاية لباخوم أو باقوم البناء، وهي بطبيعة الحال مقتبسة من كتب السير وروحها ومشهدها، أن:(أقبل هذا الشيخ النجدي يناول الأمين حجرا يثبت به الركن الأسود في موضعه فيقبل رجل من عمومة الأمين فيأبى على هذا النجدي وينحيه ويدفع إلى الأمين الحجر الذي يشد به البناء . هنالك غضب الشيخ النجدي فقال له الأمين (إنه ليس يبني معنا في البيت إلا من كان منا "، فجعل النجدي يقول: " يا عجبا لقوم أهل شرف وعقول، وسن وأموال، عمدوا إلى أصغرهم سنا وأقلهم مالا، فرأسوه عليهم في مكرمتهم وحرزهم، كأنهم خدم له، أما والله ليفوتنهم سبقا، وليقسمن بينهم حظوظا وجدودا).

وتسمع قريش حديث النجدي فتسخط عليه وتثور به، وتريد أن تلحق به الأذى، ولكنا ننظر فلا نجد أحدا، ونبحث فما نعرف إلى أين ذهب، كما لم نعرف من أين جاء .

ويقول قائلنا حين استيئسنا منه: (هذا والله إبليس، أراد أن تكون له في بيت ربنا يد، فرد عن ذلك مدحورا)[6].

فليتفطن المجتمع الدولي كله، ممن يريدون السلم أو يتمنونه، إلى خلفيات الحروب والمشعل الحقيقي لها، وليسعوا بحكمة بالغة كلها ينيغي أن تصب في صحن السلم والتفاهم وحقن الدماء والابتعاد عن مسلسل التنابز و التلاوم والتقابح .وليعلم الجميع بأنه كما للبيت رب يحميه فإن نفس هذا الرب الإله الواحد الأحد قادر على أن يحمي أرضه وخلقه وكونه من كل كيد بشر طائش وعابث يسعى لتعميم فساد ودماره أيا كان مذهبه وعرقه جنسه ودينه وديدنه.

" وَلَوْلَا دِفاعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ"

" لَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ" صدق الله العظيم وهو نعم المولى ونعم النصير.

 

الدكتور محمد بنيعيش

كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة المغرب

.......................

[1] ابن هشام: سيرة النبي (ص) ج1ص214

[2] ابن كثير: السيرة النبوية ج1ص281

[3] محمد الخضري بك: نور اليقين من سيرة سيد المرسلين ص25

[4] طه حسين: على هامش السيرة ج2ص410

[5] محمد الخضري بك: نور اليقين من سيرة سيد المرسلين ص26

[6] طه حسين: على هامش السيرة ج2ص 411

 

في المثقف اليوم