دراسات وبحوث

جواد بشارة: لغز الألوهية (2)

جواد بشارةالعلم والفلسفة يستجوبان الإله:

كيف ولماذا وأين ومتى... أربعة مفردات يستند عليها بنيان العلم والفلسفة والدين والفكر الإنساني برمته. لنركز في هذه المداخلة على مفهوم " الله"، كيف ولدت فكرة " الله؟ ولماذا لابد من وجود " الله"؟ وأين يتواجد هذا " الله" وأين ظهرت فكرة الله وعلى يد من؟ ومتى ظهر الله الواحد الأحد الخالق الكلي القدرة؟ هل هناك من يمكنه الإجابة على هذه الأسئلة الوجودية الجوهرية؟ كلا.. كل الإجابات نسبية، وعلى مر التاريخ. احتكرت الأديان التوحيدية الإبراهيمية، أي اليهودية والمسيحية والإسلام، معرفة حقيقة هذا " الله" وفرضت نفسها ممثلة عنه على الأرض والناطقة باسمه والمنفذة "لإرادته" والمطبقة " لشرائعه" وإخضاع البشرية برمتها لسلطة المؤسسات الدينية التي تنطق وتحكم باسم " الله".

قال الفيلسوف سبينوزا:" في الواقع إن الإيمان بالمعنى التقليدي للكلمة ضروري فقط للعامة، وأما النخبة المثقفة أو الفلسفية فلها طريق آخر يرضيها ويكفيها وهو: طريق الغبطة الفلسفية. بمعنى آخر فإن الدين يكفي للعامة، والفلسفة خصصت للنخبة، ولا ينبغي الخلط بينهما. فالنخبة المفكرة يكفيها العقل كهادٍ ودليل، وليست بحاجة إلى كتب مقدسة أو وحي خارق للعادة أو معجزات... إنها قادرة عن طريق العقل على التوصل إلى الحقيقة من جهة وإلى اتباع الفضيلة والاستقامة في سلوكها اليومي من جهة أخرى".

فالعقل هو الذي يمكن أن يوصل المرء إلى حقيقة الله الرمزية أو المجازية وليس الله أو إله الأديان، أو يثبت له عقلياً إن الله غير موجود أو مجرد فرضية زائدة لا حاجة إليها. وقد ورد في مناظرة مفترضة بين مؤمن وملحد هذا الحوار: -

الملحد: في البداية أسألك هل الله وجود أم فكرة؟

- المؤمن: الله وجود أزلي أبدى خالق السماوات والأرض، أما الزعم بأنه فكرة فهو قول الملحدين.

- الملحد: إذن أنت تعتبر الإله وجود حقيقي مادي، فدعك من قصة الأزلي الأبدي الخالق فسنتطرق لها لاحقاً، فسؤالي عن كونه وجود وموجود ومن هنا أسألك ماهي ماهية وكينونة وذات هذا الإله طالما تزعم أنه موجود.

-المؤمن: نحن لا نعرف ماهية وكينونة وذات الإله وليس لنا أن نسأل في هذه الأمور.

- الملحد: فكيف تؤمن بوجود الإله وكيف تقدمه للذين لا يعلمونه وللذين ينفون وجوده.

-المؤمن: لدينا حججنا المنطقية عن وجود الإله وأتصور أننا في ساحة المنطق والفلسفة.

- الملحد: مؤكد أننا سنتطرق لحججك ولكن ألف باء المنطق هو أن تعرف ماهية ما تتكلم عنه، فمثلا هل الإله مادة أم لا مادة ؟

-المؤمن: الإله وجود غير مادي بالطبع.

- الملحد: من أين عرفت أنه وجود غير مادي وماهو تعريف وماهية اللامادة.

-المؤمن: عرفت أنه غير مادة من فكر المؤمنين الأوائل ومنطقهم، فالإله إذا كان على صورة وجود مادي فيمكن إدراكه علاوة على أنه سيكون وحدة وجودية مادية كأي وحدة وجودية وكجزء من الكون.

- الملحد: إذن معرفتك إستنتاجية وليست وجودية تجريبية، وما الضير من رؤيته وإدراكه، كما أن منطقك هذا دائري فأنت تضع فرضياتك أولا ومنها تستنتج، فأنت لا تملك القدرة على تعريف الإله وماهيته وكينونته، فهل هو مادي الوجود أم غير مادي، أم روح، وحتى كلمة الروح لا تستطيع تعريف ماهيتها، فعندما سأل أحدهم نبي الإسلام لإحراجه عن الروح لم يستطع الإجابة فوراً وبعد فترة أجاب إن الروح من أمر ربي.

نحن الاسبينوزيون، لا نؤمن، ولكننا نبرهن أن:

الله هو الطبيعة بمعناها الشمولي المطلق أي الوجود الطبيعي، الله هو الطبيعة الطابعة أي النظام الشامل للأشياء، والطبيعة هي الطبيعة المطبوعة.

إله الأديان بالنسبة لنا وكما نفهمه هو إله شخصي، أي أنه مجرد إسقاط بشري، فالمتدينين من العامة يتصورون الله شخصا مفارقا لهذا العالم يجلس على عرشه ويراقبنا في ذهابنا وايابنا، في نومنا وفي يقظتنا، في كل شيء، انه إله يهتم بالتفاهات.

"إلهنا" كاسبينوزين ليست له أي غاية، فهو يتصرف بضرورة طبيعته وحدها، فهو العلة الحرة للأشياء جميعا، والضرورة ضمن طبيعته، فهو لا يتصرف وفق هواه كما هو الحال بالنسبة لإله الأديان.

"إلهنا" ليس له أي انفعالات سلبية فهو لا يشعر بأي انفعالات، كالفرح والحزن، وعليه فإنه لا يغضب ولا يكره ولا يحبنا...  كما يدعي المسيحيون.

نحن الاسبينوزين نحب الله ولا نسعى أن يبادلنا نفس الحب، فيقول سبينوزا:

"من كان يحب الله لا يمكنه أن يسعى إلى أن يبادله الله نفس الحب".

كما أن الهنا لا يمكن أن يكرهه أحد، فيقول سبينوزا:

"لا أحد يمكنه أن يكره الله"

نحن الاسبينوزين؛ مقتنعين أن المعجزات والسحر... مجرد خرافات؛ الجن والملائكة... مجرد كائنات خرافية؛ أما الدعاء والصلاة فهي ليست سوى طقوس مملة لا تنفع ولا تضر في شيء؛ والجنة والنار غير موجودين ومجرد وعد ووعيد لا يصلحان إلا مع العامة فجزاء الفضيلة هنا وجزاء الرذيلة أيضا هنا.على الأرض.

نحن الاسبينوزيون، نعتبر الحرية مجرد وهم وجهل بالأسباب، والسبيل الوحيد نحو الحرية هو الوعي بالضرورة والبحث عن الأسباب وفهمها.

عندما تسمعون الفلاسفة القدماء مثلا يدافعون عن فكرة وجود الإله، فأعلموا، أن هذا الإله لا علاقة له بالإله الشعبي الذي تؤمن به العامة إطلاقا، وإلا فإن:

- الإله الأرسطي هو علة لا تعي إلا ذاتها ومحرك لايتحرك

- إله أفلوطين هو إله يفيض

- إله ابن رشد هو إله لا يعلم الجزئيات

- إله سبينوزا هو الطبيعة

- إله ديكارت هو إله عقلي خالص، علة موجدة يدركها العقل حصرا، لا علاقة لها بالكتاب المقدس ولا بأي دين بعينه.

إله موسى وعيسى المسيح ومحمد كان على صورة البشر وخصاله، فهو كما يقولون خلق الإنسان على صورته، أي لا يتصف بالكمال لأن البشر غير كاملين وإن إدعوا خلاف ذلك، وهم الذين وصفوا ووسموا إلههم بصفاتهم البشرية.

هذا ملخص لفلسفة سبينوزا، لكنكم نسيتم أنه وفقا لفكره فإن الله لا يريد من البشر أي شيء، وكأنه إضافة إلى انعدام الانفعالات والهوى لديه، فهو لا ينتظر شيئا من البشر، وهذا يقود إلى سؤال مهم: حسب سبينوزا لماذا خلقنا؟ هل هي عشوائيات كمثل وجود الحياة في كوكب وانعدامها (مبدئيا) في تريلوينات الكواكب الأخرى والمجرات؟ والجواب أن هذا الإله – إذا كان موجوداً – لم يخلق شيء ولم يخلقه أحد.

إذن، من هو " الله"، ما هو "الله"؟ مشكلة الإجابة على هذا السؤال هي أن لكلمة "الله" معاني مختلفة للغاية.

بداية تجدر الإشارة إلى أن مفردة " الله" هي التسمية الإسلامية لإله التوراة يهوه والرب المسيحي أب يسوع، والمفترض أن يكون هو نفسه الإله الواحد الأوحد الذي يعبده أتباع الديانات الإبراهيمية التوحيدية الثلاثة، بيد أن كل دين يقدم صفات مختلفة عن الدين الآخر لهذا الإله القابع خارج الأرض في الفضاء ويدير ويتحكم بالكون برمته. ولقد برز في الإسلام علم الإلهيات والذي يسميه البعض علم الكلام ليبحث في صفات الله ويرد على الخصوم والملاحدة والدهريين خاصة بعد اتساع رقعة الاسلام ودخول حضارات أخرى مختلفة تحت سلطة الإسلام ما أدى إلى تعدد صور التجليات الإلهية واختلاف التعاريف ونشوب الجدال والسجال بين اللاهوت والناسوت، والمادة والروح، ولقد عرفت الدهرية بنكرانها لوجود الله لأنها ذات نزعة مادية محضة تنكر الاعتقاد بوجود الله وتنكر عملية خلق العالم بقدرة إلهية وإن هناك عناية إلهية تشرف على الكون، ولا يعترفون بما جاءت به الأديان التوحيدية الإبراهيمية كالتشريعات الدينية والعقاب والثواب ويوم القيام والجنة والنار، وقالوا بقدم الدهر أي إن الزمن أزلي وأبدي لا بداية له ولا نهاية، ولقد سبقهم الملاحدة الإغريق الذين كانوا ينفون وجود إله واحد وكانوا وثنيين.

ماذا نعني بالله؟ يقول المتدينون عن طيب خاطر أن "هناك شيء فوقنا"، نوع من "القوة" الغامضة. راسخة وتتمتع بالصرامة، وإن هذه القوة أو الكينونة، يمكن أن تتدخل في حياتنا. والله هو هذه القوة أو الكينونة الغامضة اللامتناهية القدرة. نجد هذه الطريقة للشعور بالله في روحانية العصر الجديد. أدرك أنه يعبر من نواح كثيرة عما نؤمن به بشكل عفوي. لكن من الواضح إن هذا الإله الذي نؤمن به بشكل عفوي لا علاقة له بإله الكتاب المقدس. إنه ليس إلهًا شخصيًا، ليس لديه شعور ولا إرادة ولا مشروع. لا علاقة له بالثالوث الأقدس المسيحي. ليس لديه إمكانية إقامة الموتى وبعثهم وإعادة إحيائهم، أو تحبيل وتخصيب العذارى. وليس من الواضح حتى ما إذا كان قاضيًا أم نعمة ورحمة وخلاص. في الأساس هناك طريقتان مختلفتان تمامًا في داخلنا لإدراك ذلك والتعبير عنه.

لك أن تدرك الله على نحو شخصي بطريقتين. إحداهما عفوية، غامضة، ويتم التعبير عنها بالانطباعات. يثير الله سر القوى الطبيعية، التي نقف إزاءها مبهورين وخائفين إلى جانب غموض عدم استجاباتنا لـ "لماذا؟" وأيضًا اللغز من العنصر الذي يحدد مسار الأشياء. والأخرى مذكورة في التعليم المسيحي الذي تلقاه عدد كبير من أتباع الكنائس المسيحية المختلفة. إذن فالله المسيحي هو الذي يخلصنا بنعمة حبه والذي أرسل لنا ابنه ليخبرنا بذلك وينقذنا من الخطيئة الكبرى بتضحيته كما يردد اللاهوتيون المسيحيون. ما قد يصدم أكثر من واحد هو هذه السذاجة في التصور والاعتقاد. وفي رأيي، ما يربكنا هو مفهومنا العفوي عن الله، أي الخيار الأول، وهو قريب جدًا من روحانية الأديان القديمة. يبدو لي بالفعل أننا لم نقم بذلك على نحو واع. لو افترضنا تقبلنا للطريقة التي يقدم بها اللاهوت المسيحي الله إلينا، ولا سيما فكرة الإله الشخصي وإبنه المخلص، أي الذي لديه صفات الشخص، الإنسان، وعلى وجه الخصوص القدرة على الإرادة، والحب والتوبيخ والغيرة والغضب... إن حقيقة أن تنسب إلى الله وجودًا شخصيًا ومشروعًا وإرادة وربما حبًا بالإنسان، وغيرها من الصفات البشرية، جاءت متأخرة جدًا، قبل خمسة وعشرين أو ثمانية وعشرين قرنًا فقط. يجب الاعتراف بذلك، هذه الفكرة عن إله فريد و"شخصي" لهو أمر مثير للدهشة.

دعونا نضيف هذا. إن نشأة الإيمان بالله، حتى بالنسبة للبشر اليوم، ليس أمراً فكريًا. إنها ليست قضية نفسية أو سيكولوجية أيضًا ولا إيكولوجية بيئية فحسب، بل ضرورة معنوية للتوازن: الله ليس أولاً وقبل كل شيء، هو الحل لحاجتنا إلى أن نكون محبوبين. كما قلنا، فإن جذور الإيمان بالله تكمن في الروحانية *. إنها تنطلق من شكل من المفاجأة والخوف والترهيب أمام القوى التي تزعج العالم الكوني وتحرك البشر وتؤدي إلى أحداث غير متوقعة. إنه ناتج عن شكل من أشكال الدهشة والصدمة أيضًا.

ولهذا السبب، حتى بالنسبة لنا، فإن الطريقة الأكثر عفوية لتعريف الله هي تعريفه كقوة، ليس بالضرورة طاقة أو مادة. بالنسبة لـعقيدة ألــ "إيمان المركبة"، فإن الله هو القوة التي تتدخل في العالم لتمنح يد العون عند الضرورة.

شخصيات ووجوه الله المختلفة:

لذلك تم تصور الله لأول مرة من خلال النزعة الأرواحية أو الإحيائية animisme، ومن ثم من خلال اليهودية القديمة، كقوة تعمل في الظواهر الطبيعية إلى حد ما في هذا العالم *. الله هو القدير، أي القوة التي تعمل في كل ما يحيا، وتعمل ولها في حد ذاتها شكل من أشكال القوة. وهذه هي القدرة الإلهية التي تم تفكيرها وصياغتها من قبل الميتافيزيقيا (وخاصة اللاهوت السكولائي). تم تصورها على أنها القوة والسبب الأول لكل ما هو موجود وكل ما يحدث في العالم. بطريقة ما، أي إن الميتافيزيقيا تنحدر من الروحانية.

بالنسبة للميتافيزيقا، الله هو سبب كل الأسباب. إنه السبب الأول لكل ما هو موجود، للعالم المرئي وعالم القوى غير المرئية (التي حلت محل "الأرواح" القديمة). "إنه خالق الكون من العدم. إنه هو الذي يجب أن يكون مصدر كل الكائنات، فهو العقل الذي يمكّننا من التفكير، والنور الذي يمكّننا من الرؤية، والمحبة التي تمكّننا من الحب. كل ما هو موجود يشارك فيه، تمامًا كما الماء جزء من المصدر والنبع، وفق تعبير أهل الإيمان المسيحي.

وهذا الإله يُعرَّف بأنه يختلف عما يمكن أو لا يمكن التفكير فيه بما هو أعظم" (سينيكا، القديس أنسيلم)، مما يعني أن الإنسان لا يمكنه حتى التفكير فيه على هذا النحو. إنه أبعد من كل ما يمكن التفكير فيه. فكل ما تعرفه عنه فهو مخالف لذلك. هذه هي الطريقة التي ننتقل بها من إله الميتافيزيقيا المادي إلى إله التصوف. إن إله التصوف "فوق الكل" (القديس غريغوريوس النزينزي). كما أنه لا يتحدث بدقة عن إله "شخصي". هذا الإله لا يسكن عالمنا، لا يحكمه، لا يخلقه. لا يمكننا قول أي شيء عنه. بالتأمل أو بالنشوة، وبالاتحاد والحلول، نفتح أنفسنا له دون أن نعرفه أو نتعرف عليه.

هو أيضا وراء الزمن، إنه خارج الزمن. إنه خلود الزمن. إنه "الشامل" (راجع كارل ياسبرز). هناك نعمة تشمل، مثل قوس قزح ضخم، مجموعة الأوقات والأزمان والأماكن.

التجربة الصوفية هي شكل من أشكال الانفتاح على ما وراء كل شيء. إنه تأمل الصمت الأبدي، في الليل المظلم، في الفراغ اللامتناهي لما وراء هذا العالم. والسر الذي يفقد نفسه بالله ويذوب فيه. فالله يبعثر نفسه في مخلوقاته كما يقول المتصوفة المسلمون.

ولادة شخصية الله:

لنقم بعودة إلى إله الروحانية، ونرى فيه قوة الله الغيبية. لذلك كان له أصل أول: إله الميتافيزيقيا والتصوف. ولكن كان له أيضًا أصل ثاني: إله النواهي والوصايا والتشريعات والشرائع. وهو الذي، على عكس إله الميتافيزيقيا والتصوف، سيصبح إلهًا شخصيًا.

في الواقع، قوة قدرة الله تتجلى، منذ البداية، من خلال المحظورات، والمحرمات: عدم قتل كذا وكذا حيوان، عدم أكل لحم الخنزير عند اليهود والمسلمين، وعدم شرب الماء من هذا المصدر، وعدم شرب الخمر، وعدم نطق اسم الله عبثًا على سبيل المثال لا الحصر، فهي لا تعد ولا تحصى.. تعتبر هذه المحظورات اليوم بمثابة خرافات. في الواقع، تعبر تلك الممنوعات والمحرمات عن شكل من أشكال الخوف أمام ما يمسك بالمانا MANA (القوة، الروح). وهكذا، لأنهم حاملون لقوة غامضة، فإن بعض الحيوانات، ومصادر معينة، وبعض الكلمات تصبح من المحرمات. إنها ممنوعة ومقدسة. نفس الشيء الذي يغلف ويتغاضى عن أن تتكشف الهيئة الجسمانية، وبنفس الطريقة التي تغلف وتتدلى في كشف الطريقة وللأسباب نفسها، فإن الملك من المحرمات، والأجنبي أيضًا (ومن هنا جاء حكم الضيافة)، والمرأة أيضًا (ومن ثم ارتداء ريشة عند بعض القبائل).

هذا الخوف من المانا MANA وهذه القوة للممنوع موجودة في الكتاب المقدس، بعهديه القديم والجديد، منذ صفحاته الأولى. من أولى تجليات إله الكتاب المقدس تحريم أكل ثمر شجرة المعرفة. ما هو محظور هو ما هو مقدس، ما يحمل في حد ذاته قوة معينة هي على وجه التحديد قوة الله. في الواقع، التحريم هو حظر الاستيلاء على سلطة الآلهة.

في وقت لاحق، يصبح الحظر أمرًا لا مفر منه، وصفة طبية، قانون. لكن هذه الوصفات ليست متطلبات أخلاقية. بدلاً من ذلك، يأمرون بطقوس وشعائر وتضحيات تستند دائمًا إلى نوع من الخوف من قوة الله وجبروته وعدم القدرة على التنبؤ بها.

لذلك نخاف الله ونتقيه. إنه الغموض الغامض للاهوت والارتعاش إزاء الناموس. لذلك يجب أن نحاول أن نكون على علاقة جيدة معه لأنه قد يكون أحيانًا تهديدًا، وأحيانًا منقذًا. وهكذا نشأت فكرة "العهد" معه والميثاق. هذه الفكرة هي جوهر العهدين القديم والجديد. لكنها توجد أيضًا في أماكن أخرى وفي أديان أخرى، في روما القديمة على سبيل المثال. اتفق الناس والآلهة معًا على مراقبة السلوك الحازم. قدم الناس تضحيات واتبعوا القوانين. من جانبها، ضمنت الآلهة خصوبة الحقول والنصر في المعارك... وبالتالي، اعتبرنا أن الله يمكن أن يغير موقفه اعتمادًا على الطريقة التي نتصرف بها. لقد أصبح "شخصًا" يمكننا أن نصلي له ونعبده ونترجاه. وها قد ولد الله الشخصي.

لذلك فإن فكرة التحالف هذه هي التي قادت إلى أن ينتقلوا من قوة الله الروحانية والميتافيزيقا والتصوف إلى إله شخصي، لديه إرادة وحرية ولديه القدرة على التدخل، بأشكال متنوعة ومختلفة، في سياق التاريخ.

إله الكتاب المقدس:

هل كان " الله" حراً في خلق العالم؟ يشرح علماء الأنثروبولوجيا الآخرون ظهور الإله الشخصي (أي، إله لديه إرادة وشكل من أشكال الحرية) بشكل مختلف. بالنسبة لهم، الإيمان بإله شخصي هو نتيجة لظهور النبوة. في الديانة الوثنية، لم يكن هناك أنبياء، ولم يكن هناك سوى كهنة مكلفين بتلقي وتقديم التضحيات والقرابين إلى القوى الإلهية. لكن النبي يتحدث باسم الله الذي له مطالب ويمكن أن تتغير مطالبه. يتحدث عن إله شخصي. إله الكتب المقدسة هو إله شخصي، وقد يقول البعض أنه مجسم * كما تقول فرقة المشبهة في الإسلام. لديه إرادة خاصة به، ويختبر مشاعر مثل الغضب أو الحب أو المكر. لديه خطط وتفضيلات. اختار إله العهد القديم الوقوف إلى جانب شعب إسرائيل الصغير. إن الله الذي يطرحه لنا يسوع في الأناجيل لديه ميل خاص للصغار والفقراء والخطاة. إنه إله أخلاقي أكثر من كونه ميتافيزيقيًا وعالميًا حقًا. وإله القديس بولس هو أولاً من يحيي تضحية، يسوع المسيح، لأنه بريء.

لا أود أن أنغمس في هذه المعمعة الماروائية والتعبير عما أشعر به حقاً. أحيانًا تبدو الطريقة التي يقدم بها الكتاب المقدس الله لنا أكثر خرافية ولا يمكن تصديقها، وأكثر لا عقلانية وأكثر إيمانًا بالخرافات من الروحانية. ومع ذلك فأنا أحاول أن أفهم أيضًا إله الكتاب المقدس القديم التوراة وإله يسوع المسيح والإنجيل أو العهد الجديد وإله محمد، هذا الإله الذي هو من أجل الصغار والخطاة. لكن إله الكتاب المقدس هذا ليس مثل آلهة المصادر والخصوبة والشفاء في الديانات الوثنية.

في الواقع، أنا مقتنع بأنه حتى أكثر المسيحيين اقتناعًا غالبًا ما يكون لديهم مفهومان متنافسان ومتناقضان عن الله، أحدهما يتوافق مع صورتهم التلقائية عن الله (صورة الأرواحية أو التصوفية) والآخر يعبر عن نفسه في تصنيفات الرسالة الكتابية المنقحة والمصححة من خلال التبشير بالتعليم المسيحي اليوم. ومع ذلك، لا يبدو أن هذا الانقسام يزعجهم.

نحتفظ من الكتاب المقدس بالعبارات التي تقول "العقيدة البطيئة " الأفضل توافقاً مع مفهومنا التلقائي عن الله. هذا هو السبب في أن المزامير عزيزة على قلوبنا بشكل خاص. تصبح أغنيتهم شكلاً من أشكال الموسيقى، والتصوف والشاعرية للتعبير عن تحالف السماء مع الأرض، والخلود مع التاريخ، والنور الذي يأتي من بينهم مع ظلمة جادة الطريق. فهذا الجزء من البشر يشعر بأن الله هو الوعد الذي سيزيل المعاناة عنهم.

من الكتاب المقدس، نتذكر بشكل خاص أن هناك شيء أو شخص فوقنا يشفق على بؤس حياتنا وجبن قلوبنا. وهذا غالبا ما يكون كافيا بالنسبة لنا. نحن نعيد تفسير ما يقوله لنا الكتاب المقدس لنجعله نوعًا من الاستجابة التي تعكس حدسنا الروحاني أو المؤمن بوحدة الوجود أو بالوجود الروحاني. في الواقع، نحن نعتبر أقوال الكتاب المقدس والوعظ المسيحي أدوات وكلمات وصور ورموز، هي التي تسمح لنا بالتعبير عن عطشنا لله، وفكرتنا عن الله كقوة تتدخل بطريقة خفية في العالم.

إله المدن وإله الحقول والأرياف:

في الواقع، حتى بالنسبة لنا اليوم، فإن الله هو أولاً وقبل كل شيء "إله الحقول". دائمًا ما يتعلق الأمر بجمال السماء والنجوم التي تجعلنا نحلم، بالكوارث التي تخيفنا، بالمحاصيل التي تذهلنا وأيضًا بطاولات الدوران التي تبدو ساحرة بعض الشيء بالنسبة لنا. إنه إله وحدة الوجود والروحانية والإحيائية. لكن معظمنا أصبح من سكان المدن: فقدنا الإحساس بالصلات الاختيارية التي تتعامل مع العالم الطبيعي والخارق. بسبب عبودية القطران أو القير والعمل والوحدة، وصلنا إلى كرب العبث والقلق العبثي ومسألة المعنى. وهذا هو السبب في أن سؤال الخلاص، الذي كان أولاً وقبل كل شيء يتعلق بالشفاء والطعام، أصبح بالنسبة لسكان المدن أملاً في أننا لسنا وحدنا وأننا محبوبون حتى عندما نكون غير سعداء، نعيش المعاناة، نعاني أو مذنبون. لقد أصبح الله وجه النعمة والمغفرة والمحبة والتبرير ومعنى الحياة.

في الواقع هذا التحول في صورة الله بدأت في وقت مبكر جدا. وهي التي تستطيع شرح الانتقال من الروحانية أو الإحيائية إلى الإيمان الأحادي أو التوحيد (حتى لو ظلت الروحانية الإحيائية دائمًا أساسية). بدأ هذا التطور بمجرد توقف الناس عن كونهم مزارعين وصيادين ليصبحوا بناة أبراج. يقول كل من الكتاب المقدس وبابل البابلية ومصر الفرعونية ذلك كل بطريقته الخاصة. صار الله ربًا يحمي أتباعه ويطلب طاعتهم.

وكان إله المدن موحدا أو توحيدياً لذلك فهو غيور. وقد أمر على الفور رفض الآلهة الميدانية من خلال اعتبارهم أصنامًا. لكن آلهة الحقول تبقى حية فينا. نبقى إلى حد ما، دون أن نعترف بذلك لأنفسنا، أنصار الأرواحية أو الإحيائية l’animisme.

القدرة المطلقة لغياب الله:

بعد هذه المحاولة لشرح ميلاد الله اليوم، أعود إلى السؤال الأساسي: ما هو الله في خاتمة الأمر؟

في الواقع، يبدو لي أن اعتبار الله كقوة أسهل من اعتباره وجودًا. فمشكلة معرفة كيفية "وجود" الله معقدة للغاية. من ناحية أخرى، من الممكن تمامًا النظر إلى الله كقوة غامضة تطاردها وتستحوذ عليها. كل البشرية، بطريقة أو بأخرى، يكافحون مع "الله" سواء كانوا يعتبرونه موجودًا أم لا.

يمكننا مقارنة العلاقة بين البشر والله مع معركة يعقوب مع الملاك (سفر التكوين 32،23-32). يبقى هذا الملاك غير معروف أو مجهولاً ليعقوب. لم يكشف عن اسمه. ربما يمكننا القول إنه غير موجود. لكن مهما يكن. فهو يطاردك ويهاجمك.

بنفس الطريقة التي يحارب بها يعقوب ملاكًا لا يعرف اسمه والذي هو مجرد شكل من أشكال الظلام الذي يختفي بمجرد أن يضاء المكان، فإننا نكافح مع "الظل القدير لـ الله "في نوع من القتال اليدوي الذي يتسم بالعاطفة والمواجهة.

أود أن أضيف كلمة شخصية أكثر حول كيف أرى قدرة الله المطلقة. أصررنا على أن هذه القوة المطلقة كانت ذات حضور مهووس وموسوس. لكن هذا الوجود القوي لــ الله، هو أيضًا ناجم عن غيابه.

نحن لا نلعب على الكلمات. الغياب (المختفي أو المتوفى، على سبيل المثال) يمكن أن يحدث في منزل بالنسبة لأقاربه لكنه يمثل، حضورًا شديدًا، وحتى قوة بسبب غيابه ذاته.

وبالمثل، إن غياب الله عن هذا العالم هو الذي يعطيه حضورًا تامًا. الغياب بالمعنى الاشتقاقي  étymologique هو "أن تكون على مسافة". عندما أقول إن الله غائب، أعني أنه يهرب مني دائمًا، وأنه يلاحقني بغيابه، وأنني أطارده بالادعاء بوجوده. في الواقع، إنها تجربة أيوب. وعلاوة على ذلك نستنتج، إن لقب العلي القدير يُعطي على وجه الخصوص في سفر أيوب لــ الله، وأن أيوب ينسبه إلى الله على وجه الخصوص عندما يصارع غيابه ويدعي تدخله الخلاصي.

تعودنا على تقديم الله على أنه من يأتي إلينا ويلتقي بنا ويباركنا، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد كما يثول القرآن. لكن يمكننا أيضًا أن نقول إنه هو الذي يهرب منا عندما نمد أيدينا إليه. ندعو الله مثل المصاب بالربو الذي يدعو ويطالب بالأوكسجين. يشعر بأنه قوة لديها القدرة على إنقاذنا. ولأن المريض على وجه التحديد يفتقر إلى الأوكسجين، فإنه يعتبر أن للأوكسجين فضيلة قوية بالنسبة له. ولأننا نخنق بدون الله، ندعوه هو القدير. لو لم ينقصنا الله لما دعوناه بــ القدير. لو كان الله حاضرًا في كل مكان لما كنا ندعوه القدير le Tout-Puissant.

الله كلي القدرة من خلال النقص الذي يخلقه فينا *. قد تكون قدرة الله المطلقة هي الفراغ الذي يخلق دعوة للهواء. يمتلك الفراغ بالفعل قدرة مطلقة غير عادية. سيكون الله واحد لكنه "الفراغ" الذي يسبب فينا "نداءً" كما لو أننا نفتقد للهواء. دعوة الله هي بمثابة المطالبة ببحر الأنفاس. الكتاب المقدس صحيح في مقارنة الله بالنفس، كما أنه من الصواب مقارنته بالنور. الله هو النفس والنور الذي ينقصنا. وهذا هو سر قوته المطلقة. إنه أمر حيوي بالنسبة لنا. هو الحياة بالنسبة لنا كما يقول الثيولوجيون المتدينون.

ولأنه هو بالنسبة لنا الحياة والنور والنفس الذي ينقصنا، ندعوه لخلاصنا ونعمتنا وقيامتنا. هكذا نصوغ كل الصفات التي نرغب بها لنصف بها الله ولقد منحنا له حقيقة أننا نفتقده وأنه الغائب.

الإيمان، من أجل الاعتراف بالله، يقوم على غياب الله. الله مؤسس بغيابه ذاته. يصبح كلمة، دينونة، حكم، نعمة Grace، خلاص، بغيابه ذاته. ليظل الله بلا شك قوة أكبر من قوة المليك الضعيف roitelet الله كلي الوجود.

* قد يكون أن كلمة "God" تأتي من الكلمة اللاتينية dies التي تعني "day" أو بشكل أكثر تحديدًا من الجذر الهندو-أوروبي dei الذي يعني "التألق

* حتى اليوم، فإن المضيف الإفخارستي "من المحرمات" (لا يمكن استهلاكه إلا في ظل ظروف معينة)، ونص الكتاب المقدس نفسه "من المحرمات" (ليس لدينا الحق في إعتباره سبب).

** سر كلِّ الآخر هو الذي يخيف الإنسان ويجذبه بنوع من الافتتان.

*** يأتي Numineux من numen، وهو مصطلح يفضله

رودوف أوتو (عالم اللاهوت والفيلسوف الألماني، 1869-1937) في عمله Le Sacré. يشير numen إلى مظهر من مظاهر المقدس ينتج عنه مزيج من الذهول والخوف والافتتان

* نحن نعرف العبارة الشهيرة لفولتير: "نتظاهر بأن الله خلق الإنسان على صورته. ثم أعاد الإنسان له تلك الصورة.

* وهكذا، عندما اختفى الجنرال ديغول لمدة 24 ساعة، في نهاية مايو 1968 (علمنا بعد ذلك أنه ذهب إلى بادن بادن لمقابلة الجنرال ماسو)، منحه غيابه نوعًا من القدرة المطلقة، وأعطى سلطة كبيرة للخطاب الذي ألقاه عند عودته. استعاد قوته من خلال غيابه.

* في مصر القديمة كان ذلك أثناء الجفاف، رمسيس، عندما لم يسقي النيل الأرض، كان ذلك ودعا وادعى بأنه الله

* كذلك عندما يقول الملاك عن المسيح القائم: "إنه ليس هنا، إنه يسبقك إلى الجليل"، يكتسب المسيح قوة، وهي قوة قيامته، بحقيقة أن القبر فارغ.

 

د. جواد بشارة

 

في المثقف اليوم