دراسات وبحوث

منى زيتون: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ

منى زيتونيقول تعالى في كتابه: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: 85].

وما قيل في مناسبة نزول الآية أن اليهود قد سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح اختبارًا لنبوته، وقيل بل طلبت اليهود من قريش أن يسألوه، وأنه عليه الصلاة والسلام قد أجابهم بما ورد في الآية.

ثم إن مفسرينا قد اختلفوا على ماهية الروح المسئول عنها في الآية؛ فمنهم من قال إن المقصود عيسى عليه السلام وقد سألوه عنه، ومنهم من قال القرآن، ومنهم من قال إنه مَلَك سألوه عن صفته، ومنهم من قال إنها خلق كما أن الملائكة والجن خلق، ومنهم من قال إنهم سألوه عن الروح التي تحل في الجسد وتكون بها حياته.

وبالنظر إلى الإجابة التي أجابها الرسول صلى الله عليه وسلم فإن المسئول عنه يمكن أن يكون المسيح أو القرآن أو الروح التي تدب بها الحياة في أبداننا، وبما أن السؤال مصدره اليهود، فلا سبيل إلى الاعتقاد بأنهم سألوه صلى الله عليه وسلم عن المسيح؛ من ثم فالمسئول عنه هو روح البدن، وربما كان القرآن الكريم. وسأشرح لماذا وكيف يتفق هذا مع الإجابة في الآية.

لقد فهم مفسرونا الإجابة الواردة على أن الروح لا يعلمها إلا الله، لأن الروح في البدن لا تدركها حواسنا فهي مما يغيب علمه عن البشر؛ أي أنهم رأوا فيها  إجابة مبهمة تعكس عجز الإنسان عن إدراك كل شيء في الكون.

لكن إن أخذنا في الاعتبار أنه من أهم المباحث الفلسفية عند القدماء قضية القديم والمُحدَث، وأنهم تكلموا كثيرًا في قضايا قِدَم العالم وقِدَم الروح، تكون الإجابة ﴿مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ تعني أن الروح التي تحل في البدن مُحدَثة مخلوقة، وليست قديمة، فهي خلق من خلق الله ‏﴿‏إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ‏﴾‏ [يس: 82].

ولنعلم أن من أساطير الأولين –والتي ربما كانت من آثار النبوة الأولى- أن الله تعالى خلق عالم الأرواح أولًا قبل خلق أجساد البشر، وأنه عندما يقضي الله تعالى بخلق إنسان يبعث الملك لنفخ روحه في هذا الجسد الذي يتكون، فالروح أقدم في الخلق من الجسد، ولكنها ليست قديمة بالمعنى الفلسفي، فلا قديم سوى الله سبحانه. كان الله ولا شيء معه، وكل ما في الكون هو سبحانه من أوجده، فالعالم بكل ما فيه مُحدَث والروح مُحدَثة.

والأرواح كلها طاهرة مؤمنة شهدت لله بالتوحيد عندما كانت في عالم الأرواح، وتبقى طاهرة حتى وإن حلت في جسد كافر، لذا فهي لا تُعذب يوم الحساب. ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا﴾ [النبأ: 38].

ومن ثم فكل روح تمر بحياتين، حياة في عالم الأرواح، وحياة أخرى عندما تحل في جسد وتُنفخ فيه، وهذا أحد أوجه تفسير قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ) [الأعراف: 172]. وقوله: (قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا) [غافر: 11]. وقوله تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾[البقرة: 29].

أما بالنسبة للمسيح عليه السلام فهو الآخر مخلوق مُحدَث، وإن كان قد خُلق بكلمة الله، وكلام الله قديم، وسنناقش هذا المعنى في مقال "المسيح كلمة الله القديمة".

وقد كان القرآن الكريم -لأنه أيضًا كلام الله- مما ثار الجدل حول كونه قديمًا أم مُحدثًا مخلوقًا، لأن نزوله على رسول الله صلى الله عليه وسلم محدث، وثارت فتن وجرت محن بسبب القضية التي عُرفت بـ "خلق القرآن"، وقد تناولت هذه القضية بشروحها العقدية والتاريخية في كتابي عن التطرف لمن أراد الاستزادة.

واختصارًا فإن قول علماء السُنة أن القرآن والمسيح كلام الله، ولكن القرآن قديم وإن كان نزوله على رسولنا مُحدَث، والمسيح مُحدَث مخلوق بكلمة الله القديمة، ولو دققنا سنجد أنه لو كانت الروح المسئول عنها في الآية هي المسيح أو القرآن، فالجواب القرآني ﴿مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ هو أفضل جواب يُرد به بدلًا من الرد الفلسفي الذي سبب الخلاف والالتباس بأنه قديم أو مُحدَث.

 

د. منى زيتون

الأربعاء 26 يناير 2022

أحد مقالات كتابي "تأملات في كتاب الله"

 

في المثقف اليوم