دراسات وبحوث

منى زيتون: أكذوبة رضاع الكبير!

منى زيتونفي علم النفس هناك حيلة دفاعية شهيرة تُعرف بالإسقاط، تحدثت عنها تفصيلًا في مقالات سابقة، وملخص ما يُقال فيها أن كل من هو آثم قلبه يظن بالآخرين ما في قلبه، ويبدو أن المنافقين لم يصدقوا براءة السيدة عائشة من حادث الإفك التي نزلت من فوق سبع سماوات، وبقي في نفوسهم عنها بعض الشك والريبة والاتهام، وهذا منطقي فكيف للمنافق أن يكفيه دليل الغيب وهو غير مؤمن على الحقيقة!

وهناك صنف آخر من الناس أصدق وصف له هو "المسارع إلى تصديق الإفك". هم لا يصنعون إفكًا ولكنهم ‏يصدقونه حتى وإن كانت هناك رواية أخرى تبرئ المتهم، وأيًا ما كان هذا المتهم!‏

وسبق أن تحدثت عن تلقائية السيدة عائشة وتصرفاتها الفطرية في مقالات سابقة، وفي هذا المقال وددت العروج إلى أمر آخر يتعلق بتلقائيتها؛ إذ يبدو لي أن تلك البراءة الزائدة فيها هي ما شجعت بعض المنافقين الوضّاعين على الافتراء عليها فيما عُرف برضاع الكبير، فإن كان الله تعالى قد برأها في قصة الإفك فإنها ومع الأسف لم تجد من يبرئ ساحتها من الأباطيل التي ادعوها في مسألة رضاع الكبير، ولم تجد دفاعًا عنها سوى بعض التبريرات ممن صدق هذه الأكذوبة رغم تعارضها مع قوله تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ [البقرة:233]؛ إذ جعل الله الحولين تمام الرضاعة، وكذا تعارضها مع ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من أن "لا رضاع إلا في الحولين"، و "لا رضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام"، وقوله "إنما الرضاعة من المجاعة". واللافت أن السيدة عائشة من أكثر من روى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أحاديث في باب الرضاع! وهي من روت عن رسول الله حديث "إنما الرضاعة من المجاعة"!

وأصل القصة الذي وجد من يحرف فيه بعد ذلك، -والذي يمكن الاستدلال عليه من مجمل الروايات الصحيحة وما حكته السيرة النبوية- أن السيدة عائشة كانت قد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دخول بعض الرجال على النساء ممن لا تربطهم بهن صلة دم ولكن هناك صلة نشأت بسبب الرضاع؛ كأن تكون زوجته أرضعتها أو ما شابه، فأخبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، ثم إنها كانت صغيرة السن عندما تزوجت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثلما تزوجت هي تزوجت صاحباتها وأنجبن، بينما بقيت هي من بينهن لم تنجب، وكانت صاحباتها يدخلن عليها ومعهن أبنائهن، وكانت تلاعب هؤلاء الأطفال، ورأى منها رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلقًا بهم، ولأنه يعلم أن هؤلاء الأطفال سيحرم عليها أن يدخلوا عليها ويزوروها عندما يبلغون وستجد في نفسها لأنها تعتبرهم بمثابة الأبناء أفهمها رسول الله أن الإسلام ليس فيه تبنٍ، وأذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تشرع في تحريم من تحب أن يدخل عليها منذ صغره، فيرضع وهو طفل ليحرم عليها فيدخل عليها بلا تهمة عندما يكبر، واستمر ذلك في غير أبناء صويحابتها، ومع ذلك فلم يُرو أي حديث يُفهم منه -ولو شبهة- أنها قد أرضعت أي طفل بنفسها، بل كانت قريباتها من يرضعن هؤلاء الأطفال.

ولكن يبدو أن بعض من يفتقد التمييز والفهم الكافي لم يفهم أن الحديث يدور عن أطفال صغار! وكأن السيدة عائشة كانت تصاحب نساء في عمر أمها كل منهن لديها أبناءً رجالًا بالغين! مع أن الأحاديث في صحيح مسلم وغيره تحكي عن أنها كانت تلعب بلُعبها في بيت رسول الله وتأتيها صواحبها ويلعبن معها! وصاحب هذا الذكاء الفائق يتهم رسول الله بأنه أذن لزوجته بإرضاع رجال بالغين أو أنها فهمت منه مشروعية ذلك!

ولعل أحدًا لن يفهم حقيقة رضاع الكبير إلا من أحاديث كتاب الموطأ لإمام المدينة مالك بن أنس، المولود سنة 93هـ بعد وفاة السيدة عائشة بنحو 36 سنة، والمتوفي سنة 179هـ، وقد عاصر الإمام مالك في أول عمره عَمْرة بنت عبد الرحمن الأنصارية المتوفاة على الأرجح سنة 106هـ، وكانت توصف بأنها "تربت في حجر عائشة"، فسمعت منها الحديث، وتفقهت على يديها، وروى عنها الإمام مالك في الموطأ بواسطة ابنها محمد بن عبد الرحمن، ويحيى بن سعيد، وعروة بن الزبير –وهو ابن أخت السيدة عائشة- ، وابن شهاب الزهري.

كما عاصر الإمام مالك هشام بن عروة بن الزبير وجدته أسماء بنت أبي بكر، وروى عنه بعض الأحاديث في باب الرضاع التي رواها عن أبيه عن السيدة عائشة أخت جدته، وروى كذلك عن نافع مولى ابن عمر، ومعلوم أن أول ما دُون من حديث رسول الله كان حديث أهل المدينة، عندما أمر عمر بن عبد العزيز بجمع الحديث على رأس المئة الأولى، وأمر قاضي المدينة وقتها أبي بكر بن حزم –وهو ابن أخت عمرة بنت عبد الرحمن-  بجمع الحديث وتدوينه؛ لذا فالإمام مالك هو أدرى الأئمة بما كان عليه زوجات رسول الله وسائر أهل المدينة في زمن الصحبة وأول عهد التابعين، ومن أهم الأحاديث التي رواها في باب الرضاع التي تدل على أن ما عُرف باسم رضاع الكبير ما هو إلا أكذوبة مصدرها تحريف الكلم عن مواضعه ووضع الوضَّاعين:

(1740) أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ زوج النبي صَلى الله عَلَيه وَسَلم أَرْسَلَتْ بِهِ، وَهُوَ يَرْضَعُ إِلَى أُخْتِهَا أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَتْ: أَرْضِعِيهِ عَشْرَ رَضَعَاتٍ حَتَّى يَدْخُلَ عَلَيَّ، قَالَ سَالِمٌ: فَأَرْضَعَتْنِي أُمُّ كُلْثُومٍ ثَلاَثَ رَضَعَاتٍ، ثُمَّ مَرِضَتْ، فَلَمْ تُرْضِعْنِي غَيْرَ ثَلاَثِ مَرَّاتٍ، فَلَمْ أَكُنْ أَدْخُلُ عَلَى عَائِشَةَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ أُمَّ كُلْثُومٍ لَمْ تُتِمَّ لِي عَشْرَ رَضَعَاتٍ.

(1741) أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عن عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ أَنَّ كَانَ يَقُولُ: لاَ رَضَاعَةَ إِلاَّ لِمَنْ أُرْضِعَ فِي الصِّغَرِ، وَلاَ رَضَاعَةَ لِكَبِيرٍ.

(1742) أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عن صَفِيَّةَ بِنْتَ أَبِي عُبَيْدٍ أنها أَخْبَرَتْهُ أَنَّ حَفْصَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَرْسَلَتْ بِعَاصِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَعْدٍ بن أبي سرح إِلَى أُخْتِهَا فَاطِمَةَ بِنْتِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ تُرْضِعُهُ عَشْرَ رَضَعَاتٍ لِيَدْخُلَ عَلَيْهَا، وَهُوَ صَغِيرٌ يَرْضَعُ، فَفَعَلَتْ، فَكَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهَا.

(1743) أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، أنْ أَبِاهِ أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهَا مَنْ أَرْضَعَهُ أَخَوَاتُهَا، وَبَنَاتُ أَخِيهَا، وَلاَ يَدْخُلُ عَلَيْهَا مَنْ أَرْضَعَهُ نِسَاءُ إِخْوَتِهَا.

(1744) أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ، أَنَّهُ سَأَلَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ عَنِ الرَّضَاعَةِ؟ فَقَالَ: مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ، وَإِنْ كَانَ قَطْرَةً وَاحِدَةً فَهُوَ محَرِّمُ، وَمَا كَانَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ , فَإِنَّمَا هُوَ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ.

(1745) أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ، قَالَ: قال مَالِكٌ: قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُقْبَةَ: ثُمَّ سَأَلْتُ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ؟ فَقَالَ كمَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ.

(1746) أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ: لاَ رَضَاعَةَ إِلاَّ مَا فِي الْمَهْدِ، وَإِلاَّ مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَالدَّمَ.

وأرى أن ما أثار الشبهة في بعض الأحاديث الصحيحة هو عدم تحديد السن الذي كانت تتم فيه الرضاعة لأن الراوي يحسب أنه مفهوم ضمنًا وليس بحاجة أن يُنص عليه، وهو ما استغله المنافقون الوضاعون للبناء عليه والتحريف في أصله ليبدو الأمر على غير حقيقته، ومع ذلك فهناك روايات ألفاظها غاية في الوضوح ففي الحديث (1740) يروي الإمام مالك أن سالم بن عبد الله بن عمر قد أرضعته السيدة أم كلثوم بنت أبي بكر وهو طفل رضيع، ولكنها لم تتم من رضاعته ما يكفي لتحريمه عليها وعلى أختها السيدة عائشة بسبب مرضٍ ألمّ بها، ومن ثم فلم يكن يدخل على السيدة عائشة عندما كبر، والأهم من تحديد سنه في الرواية أن هذه الرواية تثبت يقينًا أن السيدة عائشة لم تكن ترى أن الرضاعة تصلح للكبير، وإلا لكانت قد أمرت امرأة أخرى من قراباتها بإعطائه لبنًا بعد الحولين ليحرم عليها. وفي الحديث (1742) نجد فيه قصة مشابهة تتعلق بالسيدة حفصة. والحديث (1745) فيه فتوى عروة بن الزبير –وهو ابن السيدة أسماء بنت أبي بكر، والسيدة عائشة خالته- بأن الرضاعة لا تكون سوى في الحولين. فكيف يستقيم كل هذا مع ادعاء من ادعى أن السيدة عائشة كانت ترى أن الرضاع يكون للكبير؟!

ومن ثم فإن كان قد ثبت من هذه الأحاديث وغيرها في الموطأ أن الرضاع المقصود لهؤلاء الرجال كان في سن الرضاع في الحولين وليس بعدهما بيوم، فإن غاية ما يُقال فيما روي عن إنكار السيدة أم سلمة ومن معها من أمهات المؤمنين لهذه الطريقة في التحريم أنهن لم يستسغنها رغم ما أخبرتهن به السيدة عائشة من أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، وأن رسول الله قد أجاز أن يدخل على المرأة حتى زوج المرأة التي أرضعتها، وعمها وخالها من الرضاع، ولكن التحريف في ألفاظ بعض الأحاديث ووضع أحاديث أخرى هو ما أوصل البعض إلى الاعتقاد بأن لأكذوبة رضاع الكبير أصل في الإسلام.

وتفسير هذا التشنيع على السيدة عائشة تحديدًا أنها دخلت في آخر سنين عمرها في عداء مع كلا المعسكرين المتحاربين؛ فعاداها من تشيعوا للأمويين –في ذلك الزمان وليس بعده- ومن تشيعوا للإمام علي على السواء، وفي المعسكر الأموي في ذلك الزمان كان هناك وضاعون يضعون الأحاديث لتقوية جانب الأمويين وذم من يبغضون، ثم كان في المعسكر الشيعي مثل هؤلاء الوضّاعين في زمن لاحق بعد أن غيّب الموت بقية الصحابة وأصحاب علي من بينهم، ولأني أشتم رائحة خبث الأمويين في هذه الفِرية، وأعرف أن إرضاع الأطفال الغرباء مما يُعاب على المرأة عند أهل الشام وليس أهل العراق، والرضاع وما يختص به يدخل في باب العادات والأعراف الاجتماعية وليس فقط الحِل والحرمة، فأنا أرى أن مصدر الأحاديث في باب رضاع الكبير في كتب أهل السُنة كان بلاد الشام قبل أن يتلقفها الشيعة بعد ذلك ويضعوا في الباب إضافاتهم في كتبهم. ولأن سبب خلافها مع الإمام علي معروف، ولأن وضع الأحاديث عنها وعن غيرها بالمدح والذم كان في عهد دولة بني أمية، وأحسب أن كثيرين ليس لديهم علم بسوء علاقة السيدة عائشة بمعاوية ومروان بن الحكم وأسبابها، فيلزمني التعريف بهذا.

 بدأ سوء علاقة السيدة عائشة بمروان بن الحكم بسبب الكتاب الذي ختمه مروان بختم الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه بعد أن كان عثمان قد ولّى أخاها محمد بن أبي بكر ولاية مصر بدلًا من عبد الله بن سعد بن أبي السرح عامل بني أمية عليهم الذي شكاه أهلها، فلما سار محمد ومعه رجال في صحبته ليصل ولايته، أقبل عليهم في الطريق رجل يسرع كأنه مُلاحَق مطلوب، فاستوقفوه لشكهم فيه وسألوه فاختلط ما بين أنه مولى لعثمان أو لمروان، ففتشوه واستخرجوا كتابًا مختومًا بختم الخليفة مرسل إلى والي بني أمية على مصر يأمره بأن يحتال على محمد بن أبي بكر ومن معه ويقتلهم ويبقى في عمله! وهذا الكتاب كان سبب الفتنة الكبرى التي قُتل فيها سيدنا عثمان.

ثم إن أخاها محمد بن أبي بكر بعد ذلك قد قُتل، والمؤرخون مجمعون على أن معاوية وحزبه من قتلوه. ووردت أحاديث منها ما رواه الإمام أحمد في المسند (16775) عن سعيد بن المسيب أن معاوية دخل على عائشة –وكان قد قدم المدينة حاجًا-، فقالت له: أما خفت أن أقعد لك رجلًا فيقتلك؟ فقال: ما كنتِ لتفعليه وأنا في بيت أمان". وفي رواية أنها قالت له: "أمِنتَ أن أخبأ لك رجلًا يقتلك بأخي محمد؟".

وإضافة لذلك ووفقًا لرواية أخرجها الحاكم في المستدرك (8483/191) عن محمد بن زياد قال: لما بايع معاوية لابنه يزيد قال مروان: سُنة أبي بكر وعمر، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: سُنة هرقل وقيصر، فقال: أنزل الله فيك ﴿وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا﴾ [الأحقاف: 17] الآية. قال: فبلغ عائشة ‏رضي الله عنها فقالت: "كذب والله ما هو به، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أبا مروان ومروان في صلبه، فمروان قصص من ‏لعنة الله عز وجل".‏ وأخرج ابن مردويه، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لمروان بن الحكم‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏‏ لأبيك وجدك‏ إنكم الشجرة الملعونة في القرآن‏".

من ثم فقد تجددت العداوة بين السيدة عائشة ومروان ومعاوية ويزيد عندما تهكم أخوها الآخر عبد الرحمن بن أبي بكر على أخذ معاوية البيعة لابنه اللعين من بعده، وحاول مروان التشنيع على عبد الرحمن والادعاء عليه زورًا أن آية التأفف قد نزلت فيه! فكذَّبت السيدة عائشة مروان وذكرت ما سمعته من لعن رسول الله لأبيه وولده، ويبدو أن مقالتها تلك قد جرأت من سمع لعن الرسول للحكم أبي مروان بأن يروي ما سمعه، فانتشرت أحاديث لعن مروان بين المسلمين، وهو ما سنسوق بعضه في مقال "آل البيت والشجرة الملعونة".

والتشنيع بالافتراء والكذب من صفات الشياطين، وتظهر هذه الصفة من قوله تعالى: ﴿مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ ۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾ [البقرة: 102]. وذكرنا هذا في مقال "صفات الشياطين".

وقد كان التشنيع بإطلاق الأكاذيب سلاحًا يستخدمه بنو أمية كثيرًا على من أرادوا كف بأسه وإسكاته من الصحابة. وسأورد بعض الروايات لرواة مختلفين رووا أخبار تشنيع بني أمية على أشخاص مختلفين ممن لا يختلف عاقل على فضلهم؛ لتبيين أن هذه الصفة كانت بائنة واضحة فيهم.

فمما روي من أشهر تشنيعاتهم بالباطل ما رواه عطاء بن السائب عن أبي يحيى، قال: كنت بين الحسن والحسين ومروان، والحسين يُساب مروان، فنهاه الحسن، فقال مروان: أنتم أهل بيتٍ ملعونون. فقال الحسن: ويلك قلتَ هذا! والله لقد لعن الله أباك على لسان نبيه وأنت في صلبه".

وممن حاولوا التشنيع عليه بأنه يهودي! ولكنه رد بما أخرسهم، سيد الخزرج وابن سيدها، صاحب رسول الله وابن صاحبه، الأمير قيس بن سعد بن عبادة. روى الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء (ج3، ص 111) أن معاوية قال لقيس بن سعد: إنما أنت حبر من أحبار يهود؛ إن ظهرنا عليك قتلناك، وإن ظهرت علينا نزعناك، فقال له قيس: إنما أنت وأبوك صنمان من أصنام الجاهلية، دخلتما في الإسلام كُرهًا، وخرجتما منه طوعًا.

وعندما أتى الكريم بن الكريم عدي بن حاتم الطائي معاوية يدعوه إلى بيعة الإمام علي اتهمه معاوية بأنه من قتلة عثمان بن عفان! وقال له تحديدًا: "إنك والله لمن المجلبين على ابن عفان رضي الله عنه وإنك لمن قتلته"! وهذا الذي حكاه معاوية باطل فعدي لم يقتل عثمانَ ولا أجلب عليه، بل إنه مما ذكره الذهبي في ترجمته في "سير أعلام النبلاء" (ج3، ص 165) أنه خرج من الكوفة مع بعض صحبه وقالوا: لا نقيم ببلد يُشتم فيه عثمان.

والفارق بين السيدة عائشة وهؤلاء الرجال أنهم ووجهوا بما شُنِّع عليهم وأمكنهم الرد عليه، ولكن ربما هي قد ماتت ولم تعلم بما يشنعه المنافقون، وكون أن أحاديث الرضاع في كتاب موطأ الإمام مالك واضحة ليس فيها لبس فهذا يؤكد أن هذا التشنيع عنها لم يصدر من المدينة المنورة وإنما من خارجها.

وفي مقال "ما بين فضائل علي وفضائل معاوية" سنقف على بعض مما وضعه الوضاعون المستهزئون بالله ورسوله لرفع درجة معاوية، وأتساءل: هل يصعب على من تجرأوا على وضع أحاديث تدعي أن الله يحب فلانًا وأن حبه فرض على عباده وأنه يُبعث بصورة كذا وكذا وحكموا بأنه في الجنة، هل يصعب عليهم أن يشنعوا على أم المؤمنين عائشة فينسبوا إليها هذه الفرية القذرة ليشينوها، ليجدوا في المعسكر الآخر من يتلقفها ويزيد من حجمها! وكأن الله يبتليها بإفك جديد!

 

د. منى زيتون

..........................

* منقح ومزيد الأحد 23 يناير 2022

من مقالات كتابي "تأملات في كتاب الله"

 

في المثقف اليوم