دراسات وبحوث

عبد الجبار العبيدي: الوصية والأرث بين الرأي الفقهي وحقوق الناس

عبد الجبار العبيديالوصية شكل من أشكال توزيع المال، وهي مفضلة على الأرث لقدرتها على تحقيق العدالة الخاصة المتعلقة بأشخاصٍ بعينهم، لذا فالتماثل معدوم في الوصية.أما لأرث فهو حصة الشخص الموروث، يحدده موقفه من الموروث سواءً من الأب او الزوج.

تعتبر مسألة الوصية والمواريث، كما وردت في الكتاب المقدس من جهة، وطبقت عبر القرون الماضية بحسب فهم الفقهاء لها من جهة ثانية، وكما هي في كتب الفرائض والمواريث المعمول بها من جهة ثالثة، وبما تعلق بها من أعراف في هذا البلد أو ذاك خارج الآيات القرآنية والكتب من جهة رابعة.. مثال لما نقصده من أشكاليات في الحقوق.

سنحاول في هذه المقالة بقدر أستطاعتنا معرفة الاشكاليات التي نتجت عن تطبيق آيات الوصية والمواريث، ونحدد الأشكاليات التي نواجهها نحن مع تفسير الآيات، بقصد فهمها وتطبيقها بعيداً عن منطلقات سادت، معرفية كانت كالاقتصار على العمليات الحسابية، ام اجتماعية كذكورية المجتمع والروح العشائرية والقبلية المتخلفة التي حكمت توزيع الثروة الأرثية في القرون الماضية.

لم يترك الفقهاء ووعاظ السلاطين من المتحكمين في الشرعية الدينية تدعمهم السلطة السياسية من تفسير الآيات القرآنية ودستور المدينة المغيب اليوم عن المسلمين، لصالح التنظير السياسي في الدولة الاسلامية حتى أضاعوا علينا كل ما جاء في النص المقدس من حقوق الحرية والمساواة الاجتماعية بين الذكر والأنثى، لتبرير نقل الشرعية السياسية في حكم الناس من الشورى الحقيقة لمستحقيها الى شورى الدولة المتسلطة على الناس بقانون القوة لا بقوة القانون.كما حدث عند البحث عن شرعية الخلافة للأمويين تارة وللزبيريين تارة وللعباسيين تارة وللطالبيين تارة أخرى.. وهم لا يستحقونها الا بقانون..؟

لو نظرنا في التنزيل الحكيم سنجد للوصية عشر آيات، وللأرث ثلاثاً، بينما نجد ان الآيات القرآنية الكريمة تعطي في أربعة مواضع الأولوية للوصية في توزيع التركة فتقول أحداها: (من بعد وصية يوصي بها، النساء12).

لقد جاءت الوصية في آية صريحة في سورة البقرة لقوله تعالى: (كتب عليكم اذا حضر أحدكم الموت ان ترك خيرأً الوصية للوالدين والأقربين حقاً على المتقين، البقرة 180).

ومع تقديم الوصية على الأرث نجد ان الفقه الاسلامي بكل مذاهبه المتخالفة المطبق اليوم يعطي الأولوية للأرث وليس للوصية وأحكامها، لأصرار الفقهاء على تطبيق ما جاء بحديث منقطع عن أهل المغازي يقول: (لا وصية لوارث).. حديث ليس له من أصل.. كبقية الاحاديث الموضوعة..

كما ان هناك خلطاً بين الحظ والنصيب فيما ترك الوالدان والاقربون كما في قوله تعالى: (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والاقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والاقربون، مما قل منه او كثر نصيبا مفروضاً، (النساء آية 7) وهذه الآية الكريمة جاءت في الوصية لا في الارث كما يعتقدون، لأن النصيب هو حصة الانسان في الوصية، أما الحظ فهو ما يصيب من مجموع الأرث للجميع.كما في آية النساء لقوله تعالى: (بعد وصية يوصي بها، النساء 12). والأية الكريمة حددت ان الوصية مقدمة على الارث.

ومع كل هذا التحديد والوضوح في الايات القرآنية الحدية في تفضيل الوصية على الارث فأن الفقه المطبق اليوم يعطي للارث صفة التفضيل. ويصر على نسخ لآيات الوصية وبخاصة قوله تعالى: الوصية للوالدين والاقربين.علما ان الناسخ والمنسوخ فهم على غير حقيقته وأهدافه الذي جاء من أجلها، فهو لا وجود له في القرآن بل وهَمٍ، لأن النسخ جاء في الرسالات وليس في الآيات القصار.. "المسيحية نسخت اليهودية، والاسلام نسخ الكل.. أي أكملها من كل ما كان يجب ان يكون حقوقا للناس" لذا فهم لا يميزون بين العدالة في آيات الارث والعدالة الخاصة في آيات الوصية، من حيث ان العام لا يغطي الخاص.

وهناك قضية اخرى مهمة وهي ان الفقهاء أعطوا حصصا من الارث لاشخاص غير واردين البتة في آيات الارث كالاعمام وغيرهم وهذا من اثار المنطلقات الاجتماعية والسياسية التي اشرنا اليها والتي يصر الفقه الموروث على تجاهلها، وعدم رؤيتها أصلاً.هنا ظلم فاحش للمواريث الذين يحرمون من الارث بانتقاله للاعمام والاخوة والاخوات دون بنات المتوفي في حالة عدم وجود الذكور معهن، لكن المذهب الجعفري لا يجيز هذا الحكم الشرعي الذي به يدعون، وانما التركة تعود بالكامل للورثة أناثاً كانوا ام ذكورا. مما دعى الكثيرون من المذهب الحنفي الانتقال الى المذهب الجعفري لضمان انتقال ثرواتهم بعد الوفاة الى بناتهم وليس لغيرهم كما عند العراقيين والمصريين اليوم.وهذا هو الصحيح اذ ليس من المعقول نقل تركة المتوفى للأخرين من الأقربين وترك الأصل.

وفي الختام نقول: ان الوصية هي الاساس الاول لانتقال الملكية، وهي المقدمة في النص القرآني لانها تأخذ في الأعتبار الشروط والظروف الموضوعية الخاصة بالموصي، وتحقق العدالة التامة على مستوى الافراد، لان الله تعالى احترم ارادة الموصي في توزيع تركته من بعده. كما ان بامكان الموصي ان ينفذ وصيته وهوعلى قيد الحياة، وهذ هو الذي جعل البعض يهرب من قاعدة لا وصية لوارث فهل من مخلص لدراسة الحالة الشرعية ومنح الاستقرار للنفس الانسانية في هذا الجانب المادي من الحياة.. أين رواد القوانين؟

اما الارث فهو قانون عام أوصى به الله تعالى لكل أهل الارض، لذا فهو قانون احتياطي يعمل به في حال عدم وجود الوصية.ان القوانين الاوربية والامريكية المتقدمة تاخذ بنص الوصية ولا أثر لقانون الارث عندهم وهذا هو الصحيح.نحن بحاجة ماسة الى تشريع قانون يعتمد على النص القرآني المحكم الذي ينصف الورثة في استحقاقاتهم من الموروث دون مشاركة الاخرين معهم وفي كل المذاهب الاجتهادية التي نتمنى لها واحلال القانون بديلاً.. لينعم الناس بالحقوق دون تفريق..

ان البحث عن الحقيقة هو الاساس حتى لا تدفن الحقوق في الاوهام.. ورحلة البحث عن الحقيقة لا يسلكها الا الذين امنوا حقا وحقيقة دون ضغط او اكراه.. نحن نحترم شجاعة من يقول الحقيقة.. أو بعضها.

 

د.عبد الجبار العبيدي

 

في المثقف اليوم