دراسات وبحوث

منى زيتون: إنما النسيء زيادة في الكفر

منى زيتونوصلني استفسار تعجبت له من إحدى قريباتي التي تعيش في دولة أجنبية، تسألني فيه عن صحة اعتبار أول هلال في برج الميزان هلال رمضان الحقيقي، ومن ثم بدء صيام شهر رمضان فيه! وعلمت منها أن هناك قوائم سنوية يعدها بعض الناس لموعد الصيام الصحيح على قولهم، ويعقدون الندوات لشرح وجهة نظرهم ولإقناع غيرهم بالصيام وفق منهجهم.

وأنا وإن كنت قد تعجبت عندما علمت بأن هناك من يصومون وفقًا لحساب النسيء باٌلإضافة، فالنسيء ذاته ليس بأمر غائب عن علمي، وإن كنت أوقن أن كثيرًا مما يتعلق بالزمن وحساب الأيام والسنين لا يعلمه أغلب البشر في عصرنا رغم بساطته، وسبق أن تطرقت إلى بعض تلك الموضوعات في مقال سابق لي بعنوان "أيام وليالٍ".

وفي هذا المقال سأحاول شرح معنى النسيء، وكيف ولماذا كان العرب وبعض الأمم التي تعتمد السنة فيها على دورة القمر يضمنونه في تقويمهم، ومن كان يضيفه من العرب، ومنذ متى تم استبعاده من حساب السنوات القمرية عند العرب، وغيرها من الأمور التي لم أحسب أبدًا أن لها قيمة لتُحكى، لكن طالما الأمر صار إلى أن هناك من يتبع تقويم النسيء فقد أصبح الحديث واجبًا ومتطلبًا.

اختلاف السنة الشمسية عن السنة القمرية

نعلم أن الفصول الأربعة ترتبط بدوران الأرض الحقيقي حول الشمس، وحركة الشمس الظاهرية في البروج الاثني عشر، وتكون عدد أيام السنة الشمسية الإجمالية 365 يومًا في السنة البسيطة أو 366 يومًا في السنة الكبيسة التي يتم فيها جمع الكسور المتبقية من حساب السنوات البسيطة.

بينما يتم القمر دورته الحقيقية حول الأرض في 27 يومًا وما يقارب ثلث اليوم، ولكن نظرًا لأن الأرض ليست ثابتة، وتغير موضعها باستمرار بدورانها حول نفسها وحول الشمس، والشمس يتغير موضعها بالنسبة لدائرة البروج، فإن القمر يلزمه يومان إضافيان وسويعات ليتم الحركة الظاهرية حول الأرض ويلتقي بالشمس ليقترنا ويولد هلال جديد، ليبدو للراصد من المكان نفسه على سطح الأرض أن القمر أكمل دورة كاملة، فيستغرق إجمالي ذلك 29 يومًا ونصف يوم، ووفقًا لموعد ميلاد الهلال كل شهر وموعد غروبه في يوم مولده يتحدد ما إن كان الشهر السابق عليه سيُحتسب 29 يومًا أو 30 يومًا.

وينشأ من دوران القمر حول الأرض الأشهر القمرية، وكل اثني عشر شهرًا قمريًا يعادل سنة قمرية واحدة، عدد أيامها 354 يومًا، وبذا فهي تقل عن السنة الشمسية حوالي 11 يومًا، لكن عدة كل منهما 12 شهرًا بعدد البروج. وقد يبدو ظاهريًا أن السنة القمرية لا علاقة لها بالبروج، ولكن الحقيقة أن الهلال الجديد يولد بعد اقتران الشمس مع القمر في البرج الذي تكون فيه الشمس.

وترتيب الشهور القمرية الصحيح دون تلاعب (المحرم- صفر- ربيع الأول- ربيع الآخر- جمادى الأولى- جمادى الآخرة- رجب- شعبان- رمضان- شوال- ذو القعدة- ذو الحجة). وقد عرف العرب الأشهر الحُرم في سنتهم القمرية، ولم يختلفوا على أنها رجب الفرد، وثلاثة أشهر متتالية اثنان في آخر العام (ذي القعدة وذي الحجة)، ويليهما المحرم الذي هو أول شهور العام التالي. يقول تعالى: ﴿إِنّ عِدّةَ الشهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشرَ شهْرًا فى كتَبِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السمَوَتِ وَ الأَرْض مِنهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِك الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظلِمُوا فِيهِنّ أَنفُسكمْ وَقَتِلُوا الْمُشرِكينَ كافّةً كمَا يُقَتِلُونَكُمْ كافّةً وَاعْلَمُوا أَنّ اللّهَ مَعَ الْمُتّقِينَ﴾ [التوبة: 36].

ما هو النسيء؟ وما هي صفته؟

من المتفق عليه أن النسيء كان شعيرة يتبعها بعض العرب لشن الغارات وطلب الثارات، ووفقًا للطبري في "تاريخ الرسل والملوك" (ج2، ص 130) ولابن هشام في "السيرة النبوية" (ج1، ص 27) كان بنو فقيم من كنانة –وهم عدنانيون مُضريون- هم النسأة الذين يجتمع الناس إليهم في جمرة العقبة بعد أن يفرغوا من حجهم من كل عام ليحلوا ويحرموا لهم الشهور، فلا تكون ثلاثة أشهر حُرم متتابعة يحرم الإغارة والعدوان فيها، على عكس ما أراد الله عز وجل، ومن ثم فهو كفر بالله تعالى، أو بالأدق فهو زيادة كفر فوق كفر من يفعله.

وقد اختلف المفسرون والمؤرخون في الصفة التي كان بها العرب ينسأون، وبعد مراجعة أقوالهم الكثيرة ورواياتهم في القضية يمكن إجمال ما قالوا في إن بعضهم ادعوا أن العرب كانوا ينسأون بالتبديل بين أشهر الحل وأشهر الحرمة، أيًا كان الإبدال في العام نفسه أو من عام لعام، ومنهم من قال إنهم كانوا ينسأون بالإضافة.

النسء بالإبدال والتأخير

تقول العرب: نسأ الشيء ينسؤه نسًا ومنسأةً ونسيئًا إذا أخّره تأخيرًا.

وهناك من المفسرين والمؤرخين من قالوا إن العرب كانوا ينسأون بتبديل الشهور؛ أي يحتسبونها بطريقة لا تغير من عددها، ولا عدة الأشهر الحرم، فالسنة عندهم اثنا عشر شهرًا، وفيها أربعة حرم، وبذلك يواطئون ويوافقون عدة الشهور وعدة ما حرم الله منها، ولكنهم يحلون ما حرم الله بتحليل شهر حرام وتحريم شهر مكانه من أشهر الحل.

قال الطبري في تفسيره: "وما شابه الشيء، فقد وافقه من الوجه الذي شابهه. وإنما معنى الكلام: أنهم يوافقون بعدة الشهور التي يحرِّمونها، عدة الأشهر الأربعة التي حرَّمها الله، لا يزيدون عليها ولا ينقصون منها، وإن قدَّموا وأخَّروا. فذلك مواطأة عِدتهم عدَّةَ ما حرّم الله".

ويقول ابن هشام (ص 28): "فإذا أراد –الناسيء- أن يُحل منها شيئًا أحل المُحرَّم فأحلوه، وحرّم مكانه صفر فحرَّموه، ليواطئوا عدة الأربعة الأشهر الحرم. فإذا أرادوا الصدر قام فيهم فقال: اللهم إني قد أحللت لك أحد الصفرين: الصفر الأول، ونسأت الآخر للعام المقبل"أهـ. ومما أورده الطبري عن ابن عباس "يتركون المحرم عامًا، وعامًا يحرِّمونه".

ومما أورده الطبري عن ابن زيد أن الرجل من النسأة والذي يُسمى بالقَلَمَّس قال في المحرَّم: "ننسئه العام، هما العام صفران، فإذا كان عام قابلٍ قضينا، فجعلناهما محرَّمَين". قال: ففعل ذلك. فلما كان عام قابل قال: "لا تغزوا في صفر، حرِّموه مع المحرم، هما محرَّمان، المحرَّم أنسأناه عامًا أوَّلُ ونقضيه".

وهذا يتفق  مع ظاهر معنى الآية الكريمة ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ﴾ [التوبة:37]. فالغرض أن يتم تأخير شهر المحرم وإلغاء حرمته وفقًا لأهوائهم.

النسء بالإضافة

من معاني النسء الإضافة. قال الطبري: و "النسيء" مصدر من قول القائل: "نسأت في أيامك، ونسأ الله في أجلك"، أي:  زاد الله في أيام عمرك ومدة حياتك، حتى تبقى فيها حيًّا. وكل زيادة حدثت في شيء، فالشيء الحادث فيه تلك الزيادة بسبب ما حدث فيه: "نسيء". ولذلك قيل للبن إذا كُثِّر بالماء: "نسيء"، وقيل للمرأة الحبلى: "نَسُوء"، و "نُسِئت المرأة"، لزيادة الولد فيها، وقيل: "نسأتُ الناقة وأنسأتها"، إذا زجرتها ليزداد سيرها.

ومما رواه الطبري عن ابن عباس ويثبت به أن بعض العرب كانت تزيد صفرًا آخر يتلاعبون به بين الحل والحرمة قوله: "فهو المحرَّم، كان يحرَّم عامًا، وصفرُ عامًا، وزِيد صفرٌ آخر في الأشهر الحُرُم، وكانوا يحرمون صفرًا مرة، ويحلُّونه مرة، فعاب الله ذلك. وكانت هوازن وغطفان وبنو سُلَيْم تفعله".

وروى عن أبي مالك: قال: "كانوا يجعلون السنة ثلاثةَ عشر شهرًا، فيجعلون المحرَّم صفرًا، فيستحلُّون فيه الحرمات. فأنـزل الله: ‏﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ﴾‏"أهـ.

وأرى أن التأكيد على ذكر عدتهم في الآية الكريمة ﴿إِنّ عِدّةَ الشهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشرَ شهْرًا فى كتَبِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السمَوَتِ وَ الأَرْض﴾ فيه إشارة إلى أن هناك سنينًا كان العرب يزيدون فيها في شهور السنة فيجعلوها ثلاثة عشر شهرًا.

وعلى هذا القول فالمفترض أنه كانت تتم هذه الإضافة لشهر النسيء في التقويم العربي بين الأشهر الحُرم، وتحديدًا بين شهري ذي الحجة والمحرم، أي بين نهاية سنة وبداية السنة التالية لها، فيضيفون صفرًا نسيئًا، فيتأخر شهر المحرم لتوسط النسيء بينه وبين ذي الحجة، فبعد ذي القعدة وذي الحجة من نهاية السنة يأتي شهر نسيء، ثم يتبعه المحرم بداية السنة التالية ثم صفر آخر!

ومن ذلك نستدل أن بعض العرب قبل الإسلام كانوا ينسؤون بإضافة الشهور، مثلما كان ولا زال اليهود ينسأون بإضافة الشهور. ولكن العرب القدماء كانوا مشغولين بشن الغارات وطلب الثارات وليس بضبط الفصول الأربعة!

وحجة العرب المعاصرين الداعين للنسء بالإضافة أن العرب واليهود أبناء إبراهيم، وهذا الحساب الذي يراعي الأهلة والفصول الأربعة في آنٍ واحد هو حساب إبراهيم القائم على الشمس والقمر، والغرض منه أن يصحح الفروق بين السنة القمرية والسنة الشمسية، فيحافظ على توافق الشهور القمرية مع الفصول الأربعة. واستدلوا على ذلك بأسماء بعض الشهور العربية القمرية التي ترتبط بالفصول الأربعة؛ فقالوا ما سُمي شهر ربيع الأول بذلك إلا لأنه يكون في الربيع.

واليهود يضيفون شهرًا واحدًا يُسمى النسيء مرة كل ثلاث سنوات قمرية كما لو كانت كل سنة من الثلاث سنوات أُضيفت لها عشرة أيام، بحيث تكاد تساوي الثلاث سنوات القمرية إضافة لشهر النسيء (37 شهرًا قمريًا) ثلاث سنوات شمسية، وأحيانًا يتم إضافة شهر النسيء مرة كل سنتين لتسوية الكسور، ويكون ذلك وفق نظام ثابت يتكرر كل 19 عامًا. ففي تقويمهم تتم إضافة 7 ‏أشهر نسيء في 7 أعوام كبيسة من بين كل 19 عامًا، ما يعني أن هناك سنينًا عند اليهود تكون بسيطة وعدتها 12 شهرًا يظهر فيها 12 هلالًا، ‏وسنينًا أخرى كبيسة يظهر فيها 13 هلالًا.

ورغم أن السنة القبطية سنة شمسية لا علاقة لها بالأهلة (شهورها 12×30يوم)، وتبدأ يوم 11 سبتمبر من كل عام، فإن اليهود يتفقون مع المصريين في بداية العام، فالسنة العبرية تبدأ في تشريه تزامنًا مع بداية السنة القبطية، ‏وتحديدًا مع ميلاد أول هلال في الخريف (في الفترة من ثلث سبتمبر وحتى أوائل أكتوبر)، حيث يعتقدون وجميع الأمم التي اعتبرت الميزان بداية العام أن الرب يحاسب العباد عما فعلوه في العام المنصرم. ولكن يُضاف شهر النسيء في السنة العبرية في منتصف الأعوام السبعة الكبيسة في ‏الربيع (بين مارس وأبريل)، بينما تُضاف 5 أو 6 أيام نسيء في التقويم القبطي في آخر العام القبطي (6-10 سبتمبر).

تلاعب العرب بالنسيء في موسم الحج

رأينا أن اليهود اتخذوا نظامًا ثابتًا لإضافة شهر النسيء لضبط شهور التقويم اليهودي على الفصول الأربعة، ولكن العرب في الجاهلية تلاعبوا بالنسيء بتبديل الشهور، كما صار يتم التلاعب أحيانًا بالإضافة، ولم تكن الفصول الأربعة هي الغرض من نسئهم، بل السبب الأوحد في هذا التلاعب أن العرب كانوا يحللون النسيء، فيحاربون ويغيرون ويعتدون فيه، على عكس الواجب اتباعه في الأشهر الحرم التي يتوسطها.

ووصل التلاعب إلى موسم الحج. روى الطبري عن مجاهد: قال: "حجوا في ذي الحجة عامين، ثم حجوا في المحرم عامين، ثم حجُّوا في صفر عامين، فكانوا يحجون في كل سنة في كل شهر عامين, حتى وافقت حجة أبي بكر الآخرَ من العامين في ذي القعدة، قبل حجة النبي صلى الله عليه وسلم بسنة. ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم من قابلٍ في ذي الحجة، فذلك حين يقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض"أهـ.

وأعتقد أن ما رواه مجاهد بن جبر صحيح لأنه صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أواخر السنة التاسعة من الهجرة النبوية الشريفة بعد عودته من غزوة تبوك، قد أمرّ الصديق أبا بكر على الحج، ثم نزلت سورة التوبة، فبعث النبي الإمام علي بأربعين آية من صدرها ليقرأها على الناس في الموسم ﴿وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ۙ وَرَسُولُهُ﴾ [التوبة: 3].

ومن بين الأربعين آية الآيتان الكريمتان المتتابعتان التي تحدد أولاهما أن عدة الشهور اثنا عشر شهرًا، وتؤكد على حُرمة الأشهر الحرم -فالحديث عن السنة القمرية لا الشمسية-، رغم تأكيد الآية أيضًا على ضرورة قتال المشركين في غيرها ﴿إِنّ عِدّةَ الشهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشرَ شهْرًا فى كتَبِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السمَوَتِ وَ الأَرْض مِنهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِك الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظلِمُوا فِيهِنّ أَنفُسكمْ وَقَتِلُوا الْمُشرِكينَ كافّةً كمَا يُقَتِلُونَكُمْ كافّةً وَاعْلَمُوا أَنّ اللّهَ مَعَ الْمُتّقِينَ﴾ [التوبة: 36].

والآية الأخرى التالية لها تتحدث عن النسيء وتلفت نظر المؤمنين للضرر المترتب على النسء واستحلال الأشهر الحرم ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ﴾ [التوبة:37].

ففيهما إبطال ما كانت تفعله العرب من النسء في الجاهلية، وبعد أن قرأهما علي قال للناس إنه لا يحج بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان؛ فأُبطل كل ما استحدثوه في جاهليتهم، وبعد أن عاد كل شيء إلى أصله حج رسول الله بالناس في السنة العاشرة.

هل حساب السنوات القمرية على عهد الرسول فيه نسء بالإضافة؟

إن كان قد ثبت أن بعض العرب من كنانة وغيرها كانت تنسأ، على خلاف بين العلماء في الكيفية التي كانوا ينسأون بها، فإنه لم يرد مطلقًا أن قريشًا كانت تنسأ بتبديل أو بإضافة. وقد ثبت أن قريشًا شاركت في الجاهلية في حرب الفِجَار، وقيل سميت بالفِجَار لما استحل فيه ‏المتحاربون من المحارم بينهم في الأشهر الحرم، فلا أبدلت قريش ولا أضافت، ولكن هوازن وغطفان وبني سُليم ‏الذين كانوا يحاربون كنانة –ومنهم قريش- كانوا يفعلون.‏

ومراجعة التواريخ الهامة في السيرة النبوية وتواريخ ما قبلها من حوادث هامة جرت قبل ميلاده صلى الله عليه وسلم يتفق مع حساب السنين القمرية؛ من ذلك أن ميلاد رسول الله كان في 20 أبريل عام 571م الموافق 10 ربيع الأول من عام الفيل، وكان بعد تولي كسرى الأول أنوشروان بأربعين سنة ميلادية أو 41 ونيف سنة قمرية. ووفاته بعد ذلك في ربيع الأول سنة 11هـ الموافق يونيو 632م، وعمره 61سنة ميلادية شمسية وحوالي 45 يومًا، والتي تعادل 63 عامًا قمريًا، ولما كان المشهور بين المسلمين أنه صلى الله عليه وسلم توفى عن عمر 63 عامًا تأكد لنا أن حساب السنين على عهد النبي كان بالقمر وعلى عدة اثني عشر شهرًا.

وكذلك فتواريخ المعارك التي جرت بعد وفاته صلى الله عليه وسلم مع الفرس والروم بالتقويم الجولياني الشمسي يتفق مع تاريخها المعروفة به في التاريخ الإسلامي وفقًا لسنين قمرية عدة كل منها اثنا عشر شهرًا.

والتاريخ الهجري الوحيد الذي شذ في الحساب عندما راجعته ولم يتوافق مع ما يلائمه من تاريخ شمسي ميلادي كان تاريخ غزوة تبوك، فوفقًا لما ورد في السيرة النبوية فإن تلك المعركة حدثت في رجب سنة 9هـ، وغرة رجب في هذه السنة يوافقها 16 أكتوبر سنة 630م، ولما كنا نعلم يقينًا أن هذه المعركة عُرفت بغزوة العسرة لأن النفرة فيها كانت في الحر، مع طول السفر اللازم لبعد تبوك عن المدينة المنورة، فإن تاريخها قد أشكل علي، ولكن مراجعة التواريخ قبلها وبعدها أكد لي أن الخطأ في تاريخ هذه الغزوة تحديدًا وليس غيرها، ومنشؤه التاريخ الهجري الذي دونه الرواة عن بدئها، والذي قالوا إنه كان في رجب، وليس الخطأ في التاريخ الميلادي المقابل.

وبمراجعة ما كُتب عن معركة العُسرة سنجد أن التجهيز لها كان في شدة الحر، ومعلوم أن هذا لا يكون سوى من أواخر يوليو والثلاث أسابيع الأولى من أغسطس، واستغرق التجهيز وقتًا لكبر عدد الجيش وقلة المال، ثم إن الرسول قد نفر مع الجيش، وطال المسير إلى تبوك، وأقام بها مع الجيش حوالي عشرين يومًا، وجرت مكاتبات وعهود وغيرها هناك، ثم قفل الرسول راجعًا مع الجيش، ووفقًا للمؤرخين فقد كان الزمن من خروجه إلى قفوله ما بين خمسين إلى خمسة وخمسين يومًا. وعليه فقد خرج رسول الله إلى تبوك أواخر الأسبوع الثالث من أغسطس على التقريب، والذي يوافق 4 جمادى الأولى، وعاد في منتصف أكتوبر، وهو ما يوافق غرة رجب، فكأن رجب كان وقت عودة النبي منها وليس خروجه إليها.

أو أن تجهيز الجيش قد استغرق وقتًا أطول مما ظنناه، وأن رسول الله أراد أن يمتحن المنافقين ببدء تجهيز الجيش في الحر، ولكن ما تحرك الجيش من المدينة حتى هل هلال رجب، وكان هذا في منتصف شهر أكتوبر وانكسار الحر. وإن كان قوله تعالى: ﴿فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ ۗ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا ۚ لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ﴾ [التوبة: 81] يرجح القول الأول بأن الجيش نفر في الحر ولم تنكسر الحرارة بعد.

كيف كان يستدل العرب على الفصول الأربعة؟

لو عدنا إلى الحجة الرئيسية التي يحتج بها المطالبون بالنسء بالإضافة نجدهم يدعون أن أسماء الشهور العربية تتوافق مع فصول ‏‏السنة، ولكن نظرة سريعة على أسمائها ستلفتنا إلى أن أغلب تلك الأسماء لا يظهر منه علاقة أكيدة بشهور السنة، ثم كيف يتفق أن جمادى قد سُمي ‏‏كذلك على قولهم لجمود الماء فيه لأنه يأتي في الشتاء، بينما ترتيبه بعد شهري ربيع أول وربيع آخر! فهل ‏‏الشتاء يحل بعد الربيع!‏

والملاحظ أنه مع عدم إضافة النسيء فإن كل 32 سنة شمسية وستة أيام تعادل 33 سنة ‏هجرية، ‏بمعنى أن الدورة الفلكية ستتم في كل حال. وكل 32 سنة تنتظم الشهور بحيث يكون هلال المحرم في برج الدلو، وقد كانت سنة ‏‏‏571م التي وُلد فيها رسول الله من السنوات التي بدأت السنة مع هلال الدلو، فجاء شهر ربيع الأول في الربيع، وحل ‏‏رمضان في الميزان. وفي عام 1973 كان رمضان في ‏الميزان (6 ‏أكتوبر= 10 رمضان).‏ وفي عام 2005 توافق يوم ميلاد الرسول الهجري والميلادي تقريبًا فكان يوم 10 ربيع الأول 1426هـ موافقًا 19 أبريل 2005م.

ومما أعلمه يقينًا أن العرب كانت تستدل على الفصول الأربعة وتغيرات المناخ من خلال طلوع منازل القمر وقت الفجر، ومنازل القمر هي أجزاء من دائرة البروج، وكل فصل من فصول السنة الأربعة يضم ثلاثة بروج، بإجمالي 90 درجة من دائرة ‏البروج، وتتوزع في درجات البروج الثلاثة سبع منازل من منازل القمر.

وعلى هذا فإن من يدعي أن العرب كان يلزمهم تثبيت الشهور القمرية ما أمكن بإضافة النسيء لضبط مواعيد الفصول الأربعة لأجل تحديد موعد رحلتي الشتاء والصيف وتثبيت المواسم الدينية ليست لديه فكرة كافية عن حياة العرب في الجاهلية، فالعرب لم يكن يلزمهم في شيء أن تأتي شهور معينة في الشتاء أو الربيع أو الصيف أو الشتاء، ولي مقال موسع عن "منازل القمر" في كتابي "نحو مجتمع عربي متحضر" لمن أراد الاستزادة.

ومما أحفظه من أقوالهم التي كانوا يعبرون بها عن تغيرات المناخ وفقًا لطلوع المنازل وقت الفجر: قالت العرب عن طلوع نجوم منزلة الدبران‎:‎ إذا طلع الدبران يبست الغدران، وهان الزمان، وعطشت العربان‎.‎ وقالوا عن ظهور الهقعة فجرًا: إذا طلعت الهقعة أدرستِ الفقعة، وتعرض الناس للقلعة، ورجعوا ‏عن النجعة. وقالوا في الذراع: إذا طلع الذراع حسرت الشمس القناع، وأشعلت في الأفق شعاع، وترقرق السراب بكل ‏قاع.

وقالوا في العواء: إذا طلعت العواء، ضُرب الخِباء، وطاب الهواء، وكُره العراء، وشَنّنَ السِقاء‎. وتقول العرب إذا طلع السِماكْ: ذهبت العكاكْ، وقلّ على الماء اللكاكْ. أي: ذهب الحر وقل ازدحام الإبل ‏على الماء‎.‎ وقالت عن طلوع الغفر‎:‎ ‎إذا طلع الغفر، اقشعرّ السفر، وتربّل النضر، وحسن في العين الجمر.

وقالت عن قلب العقرب: إذا طلع القلب، جاء الشتاء كالكلب، وصار أهل البوادي في كرب‏. وقالوا ‎ عن شولة العقرب: ‎ إذا طلعت الشولة، أعجلت الشيخ البولة، واشتدت على العائل العولة؛ ذلك أنه يطلع فجرًا في قلب الشتاء، وتقل قدرة الناس على العمل فتزيد المطالب على الفقراء.

قول المطالبين بإضافة شهر  النسيء في آيتي التوبة

يدعي أصحاب دعوى إضافة شهر النسيء لتصير بعض السنين الهجرية ثلاثة عشر شهرًا أن الآيتين في سورة التوبة ليس فيهما ذم عام لإضافة شهر النسيء، ومن ثم فهما لا تحرمان إضافته، وأن الزجر الذي وجهه الله سبحانه وتعالى كان مخصوصًا بسبب التلاعب فيه، بغرض استحلال الأشهر الحرم.

فعلى قولهم يكون وصف النسيء بأنه كفر لمن يقومون بتبديل الأشهر  لمواطأة العدة، وليس إضافة شهر النسيء لضبط الفصول، ويزعمون أنه رغم نزول الآيتين في السنة التاسعة للهجرة بعد عودة الرسول من غزوة تبوك إلا أن النسيء بقي ‏يُحتسب حتى سنة 17هـ.

ويستدلون على ذلك بتاريخ معركة تبوك 9هـ ومعركة اليرموك 15هـ وفقًا للتقويم اليولياني، فكلتاهما –وفقًا للمؤرخين المسلمين- حدثتا في رجب، وقد وافق رجب 15هـ أغسطس 636م، بينما وافق رجب 9هـ أكتوبر 630م لو حسبنا السنين القمرية على عدة اثني عشر شهرًا، ونظرًا لأنه ثبت من القرآن والسُنة أن النفرة في غزوة تبوك كانت في الحر فهم يرون في هذا دليلًا على أن رجب 9هـ كان في أغسطس، واستمراره بعد ست سنوات سنة 15هـ ليأتي في أغسطس يعني أنه كان يُضاف شهر نسيء بعد نزول آيتي تحريم النسيء!

ويقولون إنه لو كان المراد بالآيتين تحريمه لحرّمه الرسول صلى الله عليه وسلم ومنع إضافته، ‏ولكنهم يستدلون من توقيت الغزوة على أنه تم الإبقاء على النسيء واستمرار إضافته ما بين عامي 9هـ و 17هـ، ما أبقى الارتباط بين شهور السنة القمرية ‏والفصول الأربعة.‏

وسبق أن أوضحت أن جميع التواريخ في السيرة النبوية لا مشكلة في توافقها مع التقويم الجولياني باستثناء التاريخ الذي ذكره مؤرخو المسلمين لغزوة تبوك، وأن تفسيري للالتباس الواقع أن رجب 9هـ الموافق أكتوبر 630م كان موعد عودته صلى الله عليه وسلم منها، أو أن التاريخ صحيح لكن رسول الله جهز الجيش في الحر امتحانًا للمنافقين، ولم يخرج إلا بعد أن انكسر الحر.

وقولهم في المسألة هو توسع مبالغ فيه في الاستدلال، فتاريخ واحد وجدوه غير مضبوط جعلوه دليلًا عامًا على أن النسيء قد بقي بعد تحريمه! بينما هم بحاجة لإثبات أنه كان يُضاف! فالثابت أن شهر النسيء لم يُضف من الأساس قبل سنة 9هـ ولا بعدها!

وعلى قولهم فإن حذف شهر النسيء كان بدءًا من السنة السابعة عشرة من الهجرة، في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما وُضع التقويم الهجري، احتسابًا ‏من عام هجرة الرسول، وظلت السنة الهجرية القمرية تبدأ بالمحرم، رغم أن هجرة الرسول كانت في ربيع الأول ‏بالاتفاق، واعتبر المحرم من العام الأول لهجرة الرسول بداية التقويم، كما اتفق رأيا سيدنا عمر وسيدنا علي على ‏أن استمرار إضافة النسيء مرة كل ثلاث سنوات سيخرب التقويم، وربما عاد العرب للتلاعب في إضافته في أعوام ‏لا يلزم إضافته فيها لأجل استحلال الأشهر الحرم، فتم استبعاده، وصار الوضع على ما هو عليه إلى يومنا هذا، ‏فكل سنة هجرية قمرية تتكون من 12 شهرًا قمريًا فقط، وصارت الشهور القمرية تتقلب وليست ثابتة مع فصول ‏السنة الأربعة.‏

أما عن سبب طرح القضية من وجهة نظرهم وعلاقتها بصيام شهر رمضان المعظم، ‏فهم يقولون إنه بسبب إضافة شهر النسيء مرة كل ثلاث سنوات قديمًا في التقويمات ‏القمرية فقد كان موعد رمضان يكاد يكون ثابتًا مقترنًا بهلال برج الميزان، ولكن رمضان بعد حذف النسيء صار ‏يلف على فصول وشهور العام كلها، وتطول وتقصر ساعات الصوم، بينما ارتباط الصوم بالاعتدال الخريفي ‏يجعل ساعات الصوم تكاد تكون ثابتة وتختلف اختلافًا طفيفًا بين البلدان.‏

ولكن هؤلاء يتجاهلون أن العرب –ووفقًا لنص الآية الكريمة- كانوا يتلاعبون في ‏النسيء، ولم يكن الوضع مثاليًا كما يصورونه. ‏وعن نفسي –ومن باب التنزل لا الاقتناع- فلو صح أنه كان يتم إضافة شهر نسيء إلى أن ألغي عند وضع التقويم الهجري، فأنا أتفق مع الاجتهاد بحذف النسيء تمامًا، وليس فقط ضبطه ‏وعدم التلاعب فيه، وأعتقد أنه الرأي الأفضل، ولولا ذلك لكان النسيء من مساخر العرب عبر التاريخ، ‏ولنتخيل ماذا كان سيكون الوضع لو أراد العباسيون إضافته في عام ليعلن الفاطميون مخالفتهم فيه، وربما رأى ‏الأميون في الأندلس رأيًا آخر لمزيد من تعزيز الخلاف، وحتى في العصر الحديث ما كان العرب والمسلمون ‏ليتفقوا أبدًا، وكنا سنرى أهل بلد يصومون في شهر باعتباره رمضان بينما أهل بلد آخر مفطرون باعتبار أنهم في ‏شعبان لأنهم احتسبوا النسيء قبل المحرم في بداية العام وربما كان لدينا عدة مواسم حج في العام الواحد!‏

وسواء اتفقنا أو اختلفنا حول هل أضافه الرسول أو لم يضفه من الأساس، وهل أنه أُبطل في عهد الرسول صلى ‏الله عليه وسلم أواخر السنة التاسعة للهجرة بعد نزول آيتي التوبة أم أبطل عند وضع التقويم الهجري بعدها بسنوات، ‏فاتباع الجماعة في الصوم هو الصحيح، وقد استقر المسلمون على هذا التقويم منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة، ‏وفكرة انتظار أول هلال في الميزان ليصوم فيه بعض المقتنعين بنظرية إضافة النسيء باعتباره هلال رمضان الحقيقي لو ‏كان النسيء موجودًا أمر لا أراه صحيحًا.

 

 

في المثقف اليوم