دراسات وبحوث

معنى القضاء والقدر وليلة القدر في القرآن الكريم

عبد الجبار العبيديانا أنزلناه في ليلة القدرِ، وما أدراكَ ما ليلةُ القدرِ، ليلةُ القدرِ خيرُ من الفِ شهرٍ، تنَزلُ الملائكة والروحُ فيها بأذن رَبِهِمِ من كلِ ِآمرٍ، سلامُ هي حتى مطلِع الفجرِ. (سورة القدر).

سورة قرآنية معظمة، نزلت في ليلة معظمة، وسميت بليلة القدر، والقدر هو القدير القادر، وهي صفة من صفات الله عز وجل. لان الله مقدر كل شيء وقاضيه. وفيها يفرق الله كل آمر حكيم.

وليلة القدر خير من آلف شهر، اي انها ليلة خير من الف شهر ليس فيها قدر، والقدر جمعه أقدار، وهي الليلة التي تقدر فيها الارزاق وتقضى الحاجات. وجماعة القدرية ليست لها علاقة بالقدر الرباني، لانهم قوم يجحدون بالقدر وينسبونه الى التكفير، بما قدر الله من الاشياء، وقيل أنهم ينفون القدر لانهم يريدونه لانفسهم، ويقول التفسيرللقرآن الكريم:  ان علم الله سبق في البشر، فمنهم من كفر، ومنهم من آمن وأمتثل. ويفسر البعض بأن كل البشر يريدهم الله في هذه اليلة سائرون نحو السعادة والشفاء، لان مفهوم الخير عند الله مطلق لكل الناس. وان الخير يقابل بالخير من ناحية الناس والسلطة الحاكمة بالجزاء العظيم من الله جلت قدرته العظيمة ان هي أخلصت ووفت للعدل والحقوق، ويقابل نقيضه الشر للسلطةالحاكمة والناس ان هم ظلموا وأساؤا معاً، وهذه المعاني كلها نجدها في أسس نشوء القوانين والتشريعات منذ ان عرف الناس ان الله وأحكامه قدر.

من هنا ندرك ان ماجاءت آية قرآنية حدية او حدودية الا ومنافعها معها للبشرية جمعاء، وهذا هو السر في الاعجاز القرآني العظيم. فليلة القدر هي اعظم واجل من ان تقرأ وتنسى، وانما من واجبنا وضعها على راس المنهج الدراسي في المدرسة الابتدائية بكل شروحها لتكون طريقا قويما للطالب منذ الصغر، ففيها من المعاني ما تعجز عنها التربية المعرفية.

يقول البعض انها سميت بليلة القدرمن الشرف، فالشرف قدر عظيم عند الله والانسان فلايجب خيانته. وقيل انه يقدر فيها ما يكون في تلك السنة من الخير والبركات للناس آجمعين. وهي حكمة من حكم الله عز وجل. وقيل لان للعبادة في هذه الليلة قدر عظيم لقول رسول الله(ص) (من قام ليلة القدر ايمانا وأحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) وانا لا اعتقد ان الله يغفر الذنوب لمن تقصدها عمدا، فخونة الاوطان والفاسدين وسراق المال لعام وقتلت العلماء والمفكرين خارج القصد.. ولقد اكثر العلماء في علاماتها المقارنة واللاحقة لكنها كلها من باب الحدس والتخمين وقوة التصاقهم بالايمان المفرط والذين في غالبيتهم بعيدون عنه، فهي واضحة لاحاجة للمقارنة والتخريجات فيها..

ولهذه الليلة المباركة فضائل كثيرة ذكرت في القرآن:  منها انها ليلة التبريك للمسلمين والمؤمنين وكل من آمن بالله واليوم الاخر، وقيل ان فيها تكتب الارزاق والاجال (فيها يفرق كل أمر حكيم). وفيها تنزل الملائكة الى الارض بالخير والبركة والرحمة والغفران لقوله تعالى(تنزل الملائكة والروح فيها بأذن ربهم من كل امر). ليلة خالية من الاثام والشرور وتكثر فيها اعمال الخير والطاعة والسلامة من العذاب لكل من اخلص وعدل وهي كلها سلام.. (سلام هي حتى مطلع الفجر).

وعلى ما تذكره المصادر الثبت ان رسول الله(ص) قال:  " يُحيي المسلمون ليلة القدر بذكر الله تعالى وعبادته فيكثرون فيها من الصلاة وتلاوة القرأن الكريم وعمل الخير. ويدعو المسلم بما شاء من طلب الخيرات في الدنيا والاخرة، لنفسه ولوالديه ولاهله وللمسلمين وتقام في مساجد الله بالدعاء الكثير.. وطلب الرحمة من الله القدير.. و الله عز وجل هو المستجيب.. لمن يستحق الأجابة..

وعلى ذكر الاحاديث النبوية الشريفة، ان التوراة أنزلت لست مضين من رمضان، وانزل الانجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان، وانزل القرآن لأربعٍ وعشرين خلت من رمضان. والحديث الشريف يعلمنا بأن القرآن نزل بهذه الليلة المباركة من رمضان، وهناك وجهات نظر اخرى في تحديد الليلة، لكن الثابت ان القرآن الكريم نزل في العشر الاواخر من رمضان.. وليس لانه لا تكون الا فيه، والا فأنها قد تصادف الليلة الاولى او الثانية او غيرهما والحكمة من اخفائها كي يتحقق اجتهاد العباد في ليالي رمضان كلها طمعا ًمنهم في أدراكها وجني ثمارها.

ان نزول آية القدر في رمضان في الديانات الثلاثة تعني ان كل الديانات واحدة واتباعها اخوة لا فرق بينهم. سوى الزمن ونزول الايات فيه.. ولقد أكد القرآن هذه النظرية في سورة الاحزاب آية 35 حين قال الحق: "ان المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات أعد الله لهم مغفرةً وأجراً عظيما.. وهذه الاية تدحظ كل اراء الفقهاء والمحدثين فيما رووه في الاختلاف بين اصحاب الديانات.

وما دمنا في ليلة القدر علينا ان نعرج على القضاء والقدر كما ورد في القرآن الكريم لنتعرف على النص القرآني ونبتعد عن الفرضيات المتناقضة التي تشوبها العاطفة الدينية لنلجأ الى التفسير العلمي للمصطلحين وكيفية ورودهما في القرآن،

أبتداءً نقول ان كل الايات القرآنية التي نزلت على رسول الله تمثل قوانين الوجود وظواهر الطبيعة واحداث التاريخ التي حصلت فعلا في عالم الانسان. لان الحدث التاريخي هو قضاء قبل وقوعه وقدر بعد وقوعه. لذا فأن قوانين الحدث صارت حتمية بعد وقوعها وسجلها القرآن ليس على سبيل العضة والاعتبار، ولكن على سبيل التحقق المادي للحدث التاريخي المذكورلاثبات صحة النص القرآني، فهنا يظهر لنا ان القضاء هو حركة انسانية واعية بين النفي والاثبات ضمن الوجود، أما القدر فهوالوجود الحتمي الملموس للاشياء لكنه خارج الوعي الانساني، كما في أهل الكهف والجنة والناروغالبية القصص القرآنية، اي ان القدر لا يدركه العقل الا بعد وقوعة. فأذا تعمقنا في الايات القرآنية نراها مواعظ واحكام ووصايا ونصائح وتعليمات تصب في السلوك الانساني لمنفعة البشرية بعامة وليست بخاصة، وهنا تكمن قيمة النص القرآني الحضارية التي لا تفرق بين الاجناس والديانات في الواجباتوالحقوق ابدا.

وهذه هي حرية الاختيار الانساني بأجلى صورها. ولهذا جمعت الايات القرآنية القضاء والقدر معا، لان القدر وجود موضوعي والقضاء سلوك انساني، وهنا تتكامل النفس البشرية لاداء مهمتها الانسانية، فالنص القرآني ملزم للتطبيق لانه قانون للبشر لا يجوز اختراقه بشكل كيفي ابدا، لا من الفرد ولا من السلطة الحاكمة، لانه مقيد بقانون آلهي ملزم. ولو ألتزمنا به نحن المسلمون لما ضعفنا ووهنت عزيمتنا وتحكم فينا من لا يؤمن بالقيم الآلهية المقدسة، وهي مفارقة لا تقبل علينا ابدا، وليس لها من تبرير امام الله والتاريخ. والقرأن يرفض ان نكون خاضعين لغيرنا في السلم والحرب، رغم انه يحثنا على السلام ومعايشة الناس بالحسنى والوئام، لكن الخضوع شيء وتطبيق النص الملزم شيء اخر.

ان القضاء والقدر، والحرية والعدالة، هي اساس الحياة البشرية، وكلها جاءت تقريرية وحدية ملزمة في القرآن، أنظر النساء 79، 78، الاسراء 23 والكهف 29، فكم نحن بحاجة الى تأويل جديد للقرآن الكريم لألزامية النص في التطبيق.. يستند على الفكر العلمي لكي يصبح القرآن قانونا يطبق وليس أقولاً تردد، ولاكتاباً يقرأ، مزيلاً لكل الفوارق بين المسلمين التي خلقتها الفرق الاجتهادية ناقصة الخبرة في التفسير.. منطلقة من فكر أحادي منغلق وزادت عليها من عندها الكثير بعد ان دلست النص القرآني لصالح التفسير الاحادي واستخدمت قاعدة الترادف اللغوي التي تتعارض وتاويل النص.

. ولقد نبهنا الى ذلك العلامة أبي علي الفارسي في منهج مدرسته اللغوية وأبن جني في نظريته الخصائص والجرجاني في دلائل الاعجاز ان اللغة ظاهرة اجتماعية وهي متلازمة مع التفكير ومن هنا انكروا الترادف، لم تكن ليلة القدر مخصصة للعبادة فحسب بل للعبادة وتحقيق حياة الناس في الامان والعيش الرغيد وتحقيق العدالة المطلقة من قبل الحاكم للناس..

فليست ليلة القدر فيها عفو الذنوب.. ولا الحج فيه غسل الذنوب كما تروجه مرجعيات الدين. ، ولا الادعية كلها مستجابة، الا لمن عمل واخلص لله والناس والوطن.

فسلام على ليلة القدر يوم كتبت في اللوح المحفوظ.. ويوم نزلت على رسول الله (ص).. ويوم بشر بها القرآن لفظاً وتطبيقاً لا قراءة وتجويدا.. لكن غالبيتهم صُم بُك، عُمي لا يعقلون..

فهل يدرك من يحكمون اليوم وصايا القرآن السرمدية في العدل المطلق وحقوق الناس بعد ان أعتدوا على الوطن.. وخانوا أمانته.. وفرطوا بحقوق الناس.. ؟

***

د. عبد الجبار العبيدي

 

في المثقف اليوم