دراسات وبحوث

تداعيات محنة علي في التاريخ

عبد الامير كاظم زاهدبعد تجربة النبوة في شطريها المكي والمدني لم تبق الثوابت محددات للسلوك العقدي والسياسي فبعد ان توفي الرسول الاعظم محمد (ص) اجتمع عدد من المهاجرين والانصار في سقيفة بني ساعدة ليرتبوا امر خلافة النبي (ص) اجتماعاً سريعاً غير معد مسبقاً حتى ان الروايات لا تذكر عدد الذين حضروا الاجتماع وتنوعاتهم ولا تذكر سوى بعض الاشخاص البارزين من المهاجرين والانصار، وتظهر الوقائع أن الانصار الذين خافوا ان يخطفها منهم اخوانهم المهاجرون بادروا الى ذلك، ويلفت النظر في الروايات ان عمر بن الخطاب كان المتحمس الاكبر في هذه الممارسة وهو الذي أخبر ابا بكر وابا عبيدة بالأمر وذهب بهم الى السقيفة مسرعين لتدارك الامر الخطير الذي سبقهم اليه الانصار .

وقد وردت في البخاري روايات طويلة تصف ما جرى من الجدل السياسي في اجتماع المهتمين بشان الخلافة في سقيفة بني ساعدة، وكانت الآراء ثلاثة احداها تتجه لانتخاب سعد بن عبادة، والاخرى تريد ابا بكر والثالثة تريد تقاسم السلطة بين المهاجرين والانصار، وبالتالي بويع ابو بكر وتخلف عن بيعته عدد من الصحابة وآل البيت

وقد تعددت الآراء في تقييم تشكل أول سلطة بعد النبي (ص) فبعضها قال أنها فلته، وأخر ذهب الى أنها حدث مفاجئ، وثالث ذهب الى أنها تمت بالإكراه والقوة (1) ورابع اعتبرها ممارسة شورية تضع المجتمع امام مسؤولياته في اختيار الحاكم

وفي هذه الواقعة المهمة تفاصيل وآراء واشكاليات جمه لا تزال كتب الاحكام السلطانية تجتهد فيها اجتهادات عدة بيد أن الذي يهمنا منها ان البدايات التاريخية لظهور الفرق كانت منها على عكس ما يذكره المؤرخون من ان ظهور الفرق كان ايام عثمان ابان الثورة عليه، وليس من وقائع اخرى حصلت فيما بعد مقتل عثمان كحرب النهروان كما يذهب عدد من كتاب الفرق والمقالات و تكشف السقيفة عن ان المسألة الاساسية المهمة وراء التشكل المذهبي هي السلطة ونوع الدولة وانها تحدد الدوافع والرؤى البعيدة  ثم تتوالى العوامل والظروف التاريخية لتكون تفاصيل المذاهب بصيغتها المعتمدة

ومن أبرز ما افرزته السقيفة من معطيات نظرية ومنهجيه: انها اظهرت السقيفة ان بعض كبار الصحابة  كانوا يرون ان السلطة في الاسلام لم يوضع لها معيار شرعي أو قانون قراني أو رؤى دستورية دينية على عصر النبي، وعليه فالخلافة متروكة للمصالح العامة وهي مسؤولية مراكز القوى لانها القوى الفاعلة انذاك

فصارت فرصة لأهل الغلبة، ولافتقاد المعايير لمشروعية السلطة سواء  الإلهية (بالنص) والاجتماعية (بالأفضل) فقد صارت محلا للاجتهاد الشخصي، وسواء تم تغييب هذين المعيارين او تم التغاضي عنهما فقد اضحت الخلافة مطلبا ورغبة لكل من تؤهله (قوته) للظفر بكرسي الحكم لذلك ساد فيما بعد نمط الحكام المتغلبين في القرون اللاحقة على دول المسلمين وقد افرد الماوردي في كتابه الاحكام السلطانية مبحثا خاصا في مشروعية المتغلب.

ولعل لحظة السقيفة هي اللحظة التي تحول فيها الفكر الديني من حقائق الهية الى ايديولوجيا سياسية فصارت الشورى (مسوغاً) وليس مفهوماً دينيا، وكانت السقيفة هي اللحظة المنتجة للسلطة التي يؤسسها المهاجرون فقط وكانت الحاسمة مع عدم اختيار الرجل الاول في الاسلام

وبسبب افتقاد الالية وجدنا تعدد معايير اختيار الحاكم فيما بعدها فقد اوصى ابو بكر لعمر بلا انتخاب ولا شورى ثم اوصى عمر الى (الستة) (2) فكانت السلطة غاية تتعدد الوسائل للوصول اليها. لكنها عقلا لا يصح تصورها بلا قوانين ضابطة ، لكن الذي حصل انها بيعة السقيفة تحولت رغم كونها استثنتاء لظروف خاصة الى اصل يقاس عليه غيره من الاحداث وأن كتّاب ومؤلفين وضعوا ادبيات السلطة تلك بوصفها اصول يستند اليها بعد عدة قرون كالماوردي[i] في الاحكام السلطانية وابو يعلى الفراء وابو عبيد القاسم بن سلام.(2)

يلفت الأنظار ايضاً أن فترة خلافه عمر التي امتدت أكثر من عشر سنوات لم تلق أي احتجاج من اي فريق سواء من رفض قرار السقيفة من الانصار أو العلويين او من غيرهم الا ما نقل من نصائح لعلي بن ابي طالب لسلطة عمر وكانت توجيهات وارشادات لكن الذي حصل في الشطر الثاني من خلافة عثمان هياج وثورة ومحاصرة واسقاط السلطة بقتل الخليفة .

وكانت هذه الاحتجاجات ليس على مفهوم الخلافة الذي صاغته السقيفة انما على السياسات التي سار عليها عثمان وحيث ان الخلافة قد اضفوا عليها صفة القداسة فقد اضعف التمرد هذا تلك الصفة

د - وتظهر التجربة المبكرة لتشكل السلطة لجوء القوم بعد مقتل عثمان الى الطلب من علي (ع) أن يتولى الامر بعد مقتل عثمان وقد جاء الاختيار لعلي ع اضطراراً من مجموعات الضغط لوجود فراغ سياسي ورفض علي ع الامر ويمكننا تفسير الرفض بان ما انتهى اليه الواقع بسبب رداءة الادارة السابقة التي اسست قيما جديدة واستحكمت في المجتمع فلا يمكن ان تصلح الامور بين ليلة وضحاها، وفعلا فقد تواترت الآخبار في أن علياً (ع) كانت لديه تطلعات عديدة للتغيير لكنه لم يتمكن من انجازها لمعارضة العامة التي تأسس وعيها المشوه في ربع قرن خلت ومن جراء البدء بالاصلاحات كان تمرد اصحاب الجمل الذي يعد انشقاقا خطيرا ثم تمرد معاوية الذي لم يقف ضده المهاجرون والانصار رغم معرفتهم بمعاوية وتاريخه المضاد للاسلام وللنبي وقفة جادة

وبعد الموافقة على التحكيم في حرب صفين رفضت مجموعة هذا الاجراء وطالبت باستمرار القتال وتشكلت على هذا الموقف (فرقة) كلامية اسموها الخوارج وكان تمرد اصحاب النهروان ، و اخيرا نشهد سقوط تجربة التصحيح واستشهد الامام علي ع فكان شهيد الحق والاصلاح وشهيد الاسس التصحيحية التي كان يريد ان يضع الامة عليها فقد كان ظهور الخوارج احدى تلك المخرجات وقد يخطر ببالنا سؤال

لماذا لم يظهر الخوارج في زمن عثمان رغم الاستئثار بالمال وسوء الادارة وولاية الامصار بالمحسوبيات لبني امية بينما ظهروا بشراسة وعلنية وتخطيط ورؤى في زمن علي (ع) ؟ هذا ما يجب أن نبحث له عن تفسير واشير هنا الى ان بعض الكتاب قد ذكر ان ذي الخويصرة كان مع الذين قتلوا عثمان ومع ذلك لم يتشكل الخوارج كجماعة منظمة في زمن عثمان، ثم تزعم جهذا الرجل جماعة من الخوارج فيما بعد ويساق هذا الخبر للتدليل ان تأسيسهم كان ابان الثورة على عثمان وهذا الراي ضعيف جدا والدليل ان كتب التاريخ لم تسم الذين خرجوا على عثمان خوارج، انما انحصر الاسم بمن خرج محتجاً على التحكيم لأنهم تحولوا الى فرقة منظمة لها اتجاهها السياسي ورؤيتها الخاصة .وفي الازمنة اللاحقة ومع اصطدام الخوارج ببني امية روى أهل الحديث عشرات الاحاديث في ذم الخوارج على اني أظن أن بعضها قد صدر فعلاً عن النبي، لكن جزءاً اخر منها كان الدافع فيه استمرارهم بقتال دولة بني أمية، فكان الامويون يدفعون المال باتجاه تشويه معتقداتهم وإظهار السوء فيهم كما هي سياستهم مع معارضيهم مؤكدين على أن ما صدر عنهم من سلوكيات القتل والنكاية والتمرد والجهل واللجوء الى التأويلات السطحية المتسرعة،افعال شائنة تكفي ادلة لادانه منهجهم ومسلكهم.([3])

- ولعل من الصحيح القول أن علياً (ع) انما قاتلهم فلأنهم (مجرمون وقتلة) أي لدواعٍ جنائية كونهم قد ارتكبوا اصناف بشعة من الجريمة المنظمة، اما اراؤهم فهي عند علي لاتزال في نطاق الخلاف المشروع والحوار المقبول لذلك كلف الامام علي ع أبن عباس بالحوار معهم على قاعدة انه طالما كان الخلاف فكريا فلم يمنعهم من التواجد في مساجد المسلمين ولم يحرمهم من نصيبهم من الفيء، ولم يقاتلهم حتى ارتكبوا جناية القتل وله (ع) في ذلك للامام ع كلمة مشهورة فقد قال (أن لهم علينا ثلاث، الا نبدأهم بقتال مالم يقاتلونا، والا نمنعهم من مساجد الله ان يذكروا فيها اسمه، والا نحرمهم من الفيء مادامت ايديهم مع ايدينا) ([4]) . وقال فيهم ايضا كلمة غاية في الاهمية (ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فادركه) لذلك نهى أن يقاتل الخوارج بعده فقال لا تقاتلوهم بعدي

- لقد وظف الخوارج مقولات دينية عديدة توظيفاً ايديولوجيا منها مفهوم الهجرة والتفاصل، ووجوب الأمر بالمعروف وانكار الباطل والظلم في جميع الاحوال بلا حساب للنتائج والمالات، واطلقوا شعار الحكم بما أنزل الله على عمومياته البدائية مؤسسين نظرية (الحاكمية) التي ستظهر فيما بعد عند الجماعات التكفيرية ولم يبالوا انهم وقعوا في الغلو الفاضح، والجهل المركب بالدين وشق عصا الطاعة على امام يتفرد بان بيعته استوفت تمام الشرعية، ثم استحلوا دماء المسلمين واسسوا لمنهجيات العنف الديني الذي ظهر في العصور التي تلت ظهورهم

***

ا. د. عبد الأمير كاظم زاهد

.....................

(1) راجع ظ الطبري: تاريخ الامم ح2 ص 216 - 220 .

ظ محمد رضا المظفر: السقيفة ص

حسن ابراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي  ص .

(2) حسن ابراهيم حسن: تاريخ الاسلام السياسي

2) ظ الاحكام السلطانية للفراء والماوردي وكتاب الاموال لابي عبيد

(3) محمد علي الصلابي، الخوارج نشأتهم وعقائدهم ص 110 .

* انوه هما الى ان بعض الكتاب العرب والمستشرقين كانوا يجمعون الى جنب الخوارج الشيعة في كتاب واحد، وهدفهم واضح !!!

(4) ابن شيبه: المصنف 7/562 .

 

 

في المثقف اليوم