دراسات وبحوث

خصائص الخطاب النبويّ

مجدي ابراهيمألفاظ القرآن ألفاظ "حقائق"، وليست ألفاظ "لغة"، أي ليست مُجَرَّد عبارات وضِعَتْ في قوالب لغوية. فهل نعتبر هذه الخَاصَّة خاصة نبوية، أي خاصة وحي تتصل بالنبوة والتبليغ مباشرة؟ إذا نحن اعتبرنا هذه الألفاظ القرآنية ألفاظ حقائق ليست بألفاظ لغة وجب أن تكون هذه الخاصة ذاتية مخصوصة بالخطاب النبوي لا تنسحب على سواه، غير أن هذه الخاصة النبويّة الفريدة يستنبطها الإمام القشيري فلا يتركها بغير إشارة، وذلك في معرض حديثه عن كثرة العبارات كونها للعموم. والرموز والإشارات تأتي للخصوص حيث يقول:" أَسْمَعَ موسى كلامه في ألف موطن، وقال نبيَّنا صلوات الله وسلامه عليه: "أوتيتُ جَوَامع الكَلِم فاختُصرَ لي الكلام اختصاراً"؛ فكأنما يُشير من بعيد إلى أن ألفاظه عليه السلام، إنما هى ألفاظ "حقائق" مادام قد أُعطىَ "جوامع الكَلِم"، وليست مُجَرَّد لغة تتردد على الألسنة دون أن تنفذ بين شغاف القلوب، فتحولها من حال في الحياة إلى حال.

بيد أنها تعبيرٌ عن "حقيقة" ربما يجهلها المرء؛ لبعده عن ذوق طريق الله؛ ولكونه ممن لا يدركون من الكَلِم سوى شكله البَرَّاني لا حقيقته الخبيئة لكنه من المؤكد يعلمها فيما لو كان داخل رحاب المعيّة الإلهية لا خارجها.

وبما أن الكلام لا يكون إلا على ضَرْبين: ضرب أنت تصِل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده؛ كقولك: "خرج زيد"، "وانطلق عمرو". وضرب آخر أنت لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، ولكن يَدُلك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة، ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانية تصل بها إلى الغرض، ومدار هذا على "الكناية" و"الاستعارة" و"التمثيل" كما يقول الجرجاني صاحب دلائل الإعجاز؛ فقد جرت العادة بأن يُقال في الفرق بين "الحقيقة" "والمجاز": أن الحقيقة، أن يُقَرَّ اللفظ على أصله في اللغة. والمجاز أن يُزَال عن موضعه، ويستعمل في غير ما وُضِعَ له؛ فيقال "أسدٌ" ويُرَاد "شجاع"، و"بحر" ويُرَادُ جواد"؛ فلئن كان الأمر بهذه المثابة فهو تجوّز في معنى اللفظ لا اللفظ نفسه، وإنما يكون اللفظ مُزَالاً بالحقيقة عن موضوعه، ومنقولاً عما وضِع له، فإن مآل الأمر إلى القصد فيه هو المعنى.

غير أن هذا المعنى لا بدّ أن يؤدي إلى حقيقة. مع ملاحظة أن هذه الحقيقة التي يؤدى إليها المعنى غير الحقيقة الأولى التي تعطيها دلالة اللفظ وحده مما يقرّه اللفظ على أصله في اللغة، فإذا كانت الحقيقة الأولى حسية منظورة؛ فالحقيقة الثانية التي يؤديها المعنى روحية مغيبة، باقية ثابتة، ذات دلالات ووجوه متصلة بالعطاءات الإلهية وتجلياتها.   

ومن جانب آخر، يصف الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي في كتابه "إعجاز القرآن والبلاغة النبوية"، هذه البلاغة النبويّة وصفاً يمنع عنها اللغة بالمفهوم السلبي للغة، ويضفي عليها لفظ الحقيقة، فيقول:" لقد رأينا هذه البلاغة النبويّة قائمة على أن كل لفظ فيها هو لفظ الحقيقة لا لفظ اللغة، فالعناية فيها بالحقائق، ثم هى تختار ألفاظها اللغوية على منازلها، وبذلك يأتي الكلام كأنه نطق الحقيقة المُعَبّر عنها. ومعلوم أنه عليه السلام لا يتكلف ولا يتعمّل ولم يكتب ولم يؤلف، ومع هذا لا تجد في بلاغته موضعاً يقبل التنقيح، أو كلمة تقبل التغيير، كأنما بين الألفاظ ومعانيها في كل بلاغته مقياسٌ وميزان".

ولكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن من أول وهلة: هل هذا يكفي؟ هل كل ما كان "الرافعي" ذكره، يكفي لإماطة اللثام عن الفرق بين لفظ الحقيقة ولفظ اللغة؟

عندي أن ذلك وحده لا يكفي، ولا يُقرِّر غور هذا الفرق في واقعه المُقرَّر في التاريخ وفي التجربة؛ فألفاظ الحقيقة توضحها التجارب ويثبتها التاريخ؛ بل تثبت بالتجربة وتثبت للتاريخ. فنحن هنا بإزاء ثلاثة مستويات: مستوى اللفظ، ومستوى المعنى، ومستوى الحقيقة. والحقائق في عظمتها وجبروتها لا تدرك كل الإدراك ولا يُحاط بها كل الإحاطة، وليس يشم منها أحد رائحة سوى بمقدار ما تتجلى به عليه. هنالك معاني لها، هذا صحيح، لكنها معاني تقريبية للحقيقة، أو هى صور ضئيلة جداً للحقائق تماماً كما أن الألفاظ في مستواها إنْ هى إلا صور ضئيلة جداً للمعاني؛ فاللفظ في ذاته يصور جزءاً من المعنى، ولا تصور الألفاظ المعاني كلها. والمعاني في مستواها كذلك لا تصوّر الحقائق من جميع أطرافها وجوانبها؛ ولا تدركها كل الإدراك ولا تحيط بها كل الإحاطة.

والدليل على أن الألفاظ تقدّم صوراً ضئيلة جداً من المعاني: أن أبا الفتح عثمان ابن جنّي، صاحب "الخصائص"، كان يعتقد "أن اللغة، بأصولها وأصواتها التي تمثلها الأبجدية، إنما تقدّم احتمالات لا نهاية لها من الألفاظ التي ترمز إلى معاني، وأن تقلبات اللفظ الواحد تؤدي إلى معان متقاربة اعتماداَ على ما كان قرَّره من وجود علاقة بين اللفظ ومدلوله". وأبلغ منه وأوضح دلالة ما يقوله "عبد القاهر" من أن الألفاظ لا تعطي ما ورائها من الحقائق ولا تتجاوز مستواها، فكأنما هى محدودة بحدودها:"إنما الألفاظ أدلة على المعاني، وليس للدليل إلا أن يعلمك الشيء على ما يكون عليه. أمّا أن يصير الشيء بالدليل على صفة لم يكن عليها؛ فما لا يقوم في عقل ولا يتصوَّر في وهم".

وأنت حين تقول لفظة "التاريخ" مثلاً، مطلق التاريخ قلت حقيقة. وحين تقول كلمة "التجربة"، مطلق التجربة قلت حقيقة. ولكن الذي ينقصك التَّحقق بالتجربة والثبوت في التاريخ؛ فإذا تحققتَ بالتجربة وثبتَّ في التاريخ بلغت الحقيقة. لكنك حين تقول: "التاريخ المصري ليس هو التاريخ الذي يُدرَّس الآن في المدارس والجامعات!"، قلت "لغة"، ولم تقل "حقيقة"، أو قلت لفظاً بلا معنى وبلا حقيقة.

هذه اللغة يصدق عليها الخطأ كما يصدق عليها الصواب، يصدق عليها الباطل كما يصدق عليها الحق. وحين تقول مثلاً:"تجربتي عن هذه الحياة إنها عابثة، وكل من فيها يعبث!" قلت "لغة"، ولم تقل "حقيقة" أو قلت لفظاً بلا معنى وبلا حقيقة، هذه اللغة تقبل الكذب كما تقبل الصدق: "وقيل: منها لغِي ولغَى إذا هَذَى، ومصدره اللَّغا". و"لغا يلغو" أتى باللغو من الكلام، وهو ما لم يعتد به، ولا يحصل منه على نفع ولا فائدة.

والخطاب النبوي ليس كذلك، ولكنه خطاب حقائق، صحيح على الدوام، صادق على الدوام، حق على الدوام.

لم يعرف العرب خطاباً أقدر على البلاغة وجمال العبارة في إيجاز لا يخل كما جاء في الخطاب النبوي: ويظهر ذلك في الكتب والرسائل التي كانت تصدر عن النبي صلوات الله وسلامه عليه، كما يظهر فيما جدَّ من تعبيرات وأساليب جديدة كقوله عليه السلام:"الآن حمى الوطيس"، "مات حتف أنفه"، "لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين"، "إياكم وخضراء الدّمن"؛ إلى غير ذلك مما رواه الثقات أنه لم يسمع من أحد قبله عليه السلام؛ الأمر الذي لا يشك أحد في أنه بلغ الغاية في الفصاحة؛ لأنه نبت من قريش وهم أفصح العرب، واسترضع في بني سعد وهم من الفصاحة بمكان؛ إلا أن ذلك لا يمنع من أن يُظاهر القرآن الوراثة والبيئة.

وليس من شك في أن للقرآن الأثر الأكبر في فصاحته عليه السلام؛ فلولاه لكانت فصاحته عليه السلام في حدود بيئته، فلا نسمع منه مثل هذه المعاني الإسلامية في تلك الأساليب القرآنية ممّا لم يكن يعرفه العرب، ولم يختبروه.

وعليه، يكون الخطاب النبوي خطاب حقائق، دائم الصحة وصادقها، وهو حق في حق من حق، وليس هو بخطاب لغة يتقرّر فيها الخطأ والصواب، والحق والباطل سواء. ولنا أن نتأمل قوله تعالى:"وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغَوْا فيه لعلكم تغلبون"؛ فماذا تجد؟ تجد "اللغة" هنا إتيان بالباطل من القول، واللغو الصاخب في أثناء القراءة صرفاً للناس عنه وطلباً للغلبة، ومثاله في القرآن كثير: أعني مثال "اللغو" الذي ذكرت فيه اللغة اللاغية بسخيف الأقوال بُله الأفعال، نماذجه في أكثر من عشرة مواضع في الكتاب الكريم. نأتي على خمسة منها فقط، وبقيتها توضيح يفرضه سياق الآية في مناسباتها الواردة فيها.

ففي "القصص" آية (55) قوله تعالى:"وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهليين"؛ فاللغة هنا لغو يلحق السماع؛ فبمجرّد سماعه يستحق أن يُلغى من فوره بالإعراض عنه، والاكتفاء بالعمل خالصاً حين يشهده الله من المخلصين، ثم إبداء السلام على شرعة الإعراض أيضاً، طلباً للسلامة وتحقيقاً للإخلاص، لكنه هنا إعراض عن العبث وسخف القول وهما بُغية الجاهليين.

وفي "المؤمنون" آية (3) قوله تعالى: "قد أفلح المؤمنون. الذين هم في صلاتهم خاشعون. والذين هم عن اللغو معرضون"؛ فاللغة هنا لغو أيضاً ليس فيه فائدة لا من قول ولا من عمل، فليس اللغو هنا مقصوراً على اللفظ وكفى، ولكنه أيضاً يتضمّن العمل. ولن يفلح مؤمن وهو في صلاته ليس بخاشع، وهو عن اللغو ليس بمعرض.

وفي "البقرة" آية (225) قوله تعالى:"لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم". اللغة فيه سبق اللسان لغواً ممَّا لم يقصد به جزم اليمين؛ فسبق اللسان باللغو بالحلفان لغة صادرة عن اعتقاد الصدق وهى تتضمن البطلان !

وفي "الفرقان" آية (72) قوله تعالى:"والذين لا يشهدون الزور وإذا مَرُّوا باللغو مَرُّوا كراماً": مرُّوا كراماً على ما ينبغي أن يُطرح بعيداً من قول أو فعل، مرُّوا كراماً لأنهم ارتفعوا عن اللغة التي تصيبهم بالدُّون ممَّا ينبغي أن يُلغي من الأفعال والأقوال، مرُّوا كراماً فما ينالهم إلا ما ينال الكريم من العزوف والإعراض، مرُّوا كراماً والكريم إذا مَرَّ باللغو لم يبال بصاحبه ولا بما يلغو فيه، مرُّوا كراماً فكرمتْ لديهم أنفسهم، وهانَ عندهم اللغو، وسقطت لديهم لغة المحجوبين.

وفي" الطور" آية (23) قوله تعالى:"يتنازعون فيها كأساً لا لغوٌ فيها ولا تأثيمٌ". نعم! يتنازعون في الجنة ويتجاذبون فيها الكؤوس تنازع محبة وأنس لا تنازع شقاق وخلاف. كلٌّ منهم يجذب الكأس من يد صاحبه تلذُّذاً وتأنُّساً، فليس المقام مقام لغو ولا تأثيم، ولا هو بمقام لغة فاحشة وكلام قبيح، كما تفعل كؤوس الدنيا بذويها، فتمنع ألسنتهم عن الصواب بعد أن تعقل عقولهم عن الصحة والسلامة بل: (لا تسمع فيها لاغية) من باطل ولا لاهية من لغو.

وعليه يتبيّن؛ أن ألفاظ اللغة ليست في كل حال صادقة؛ بل من اللغة ما هو باطل وقبيح، وما هو شاذ وساقط، ومنها ما يشتمل على سخيف القول وفضول الكلام .

وقد صَوَّر هذا المعنى شيخ المعرة، إذ قال:

(ومن النَّاس مَنْ لفْظُهُ لؤُلؤٌ يُبَادُرُه للَّقْطِ إذْ يُلفَظُ .. وبَعْضُـــهُم قــوله كالحصَـا .. يُقَال فَيُلْغَى ولا يُحفَظُ)

كما أن ألفاظ اللغة تلك ليست في كل حال صادقة على الواقع التاريخي الذي يشهد الحالة كما يشهد الواقعة تجربة وحدثاً في مجراه العميق الطويل، لكن رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه، الذي اختاره الله لرسالته، واصطفاه لدعوته، وأرسله إلى الناس كافة مبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات، ويحرّم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم: لم تكن دعوته مجرَّد لغة، ولم تكن ألفاظه كلمات كسائر الكلمات، ولكنها كانت "حقيقة" لا مجرد "لفظ"؛ كما كانت دعوته واقعاً تجري فيه حقائق الحياة والكون وتشهدها وقائع التاريخ وتجاربه الحيَّة، ممارسة وفعلاً وحياة.

***

بقلم: د. مجدي إبراهيم 

في المثقف اليوم