دراسات وبحوث

نقد العقل الديني في التنوع الأسلامي (3): اخوان الصفا

قاسم حسين صالحتحديد مفاهيم

 يقصد بالعقل الديني هنا الأفكار والمعتقدات والتصورات وكل ما يشغل الفرد في مجالات الحياة المتنوعة.. السياسية والاجتماعية والنفسية.

ويقصد بالتنوع الأسلامي.. المذاهب والفرق المتعددة التي نشأت في الدين الاسلامي عبر تاريخه.

ويقصد بالنقد هنا تبيان قضايا الاختلاف بين مكونات هذا التنوع الاسلامي ومواقفها من الحداثة والفكر المعاصر.

 ولا يعنينا هنا ما كتب عن نقد العقل الديني لفلاسفة ومفكرين كبار، من ابن رشد، ابن خلدون.. الى محمد آركون و محمد عابد الجابري، و كثير غيرهم، فما يدفعنا الى كتابة هذه السلسلة هو ان المرحلة الفكرية التي نعيشها الان، يتولى فيها الحكم عقل دوغماتي جامد فكريا ومنغلق ذهنيا على معتقدات وقيم خاصة به، ونظرة الى الامور الجدلية على انها ابيض واسود، وشيوع ثقافة الأحباط واليأس من تغيير الواقع، وتهميش دور المفكرين الحقيقيّن، وظهور اكثر من رجل دين يحترف خطر المجازفة بالعقيدة الدينية ويحتمي بها ويسرق ويقتل وينهب اللقمة من افواه الفقراء ثم ينام على وسادة مريحة ويحلم بالجنة!

*

 يعود تاريخ ظهور(اخوان الصفا وخلان الوفا) الى النصف الاول من القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) في مدينة البصرة، الذي شهد ازدهارا في الحياة العقلية والفكرية ناجمة عن ترجمة مؤلفات ثمينة لفلاسفة اليونان وأدباء الفرس وحكماء الهند، ولسبب سياسي يتمثل بضعف سلطة الخلافة العباسية ومقرها العاصمة بغداد، وظهور فرق شيعية مناوئة للسلطة مثل (الأسماعيلية). واشتهر اخوان الصفا انهم وضعوا كتابا ضم أهم الآراء الفلسفية والعلمية وصفت بأنها تشبه دائرة معارف كاملة لا غنى عنها للمثقف العربي وقتها، هدفت الى تغيير البنية العقلية التقليدية السائدة والمسيطرة في المجتمع العربي التي يشيعها مثقفو السلطة. والمدهش انهم كتبوا مقالات سموها (تحف أخوان الصفا)، امتدت من السياسة الى العلم .. الفلك، الرياضيات، الفن والموسيقى.. هدفت الى (التضافر للسعي الى سعادة النفس عن طريق العلوم التي تطهر النفس).

 يوحّدهم التفكير ويختلفون طبقيا

 مع ان اخوان الصفا تجمعهم (الفلسفة) الا انهم يختلفون طبقيا، فبينهم اغنياء جدا بمستوى امراء ووزراء، وبمستوى تجار، وأبناء أدباء وعلماء وفقهاء، وعمّال وآخرين من عامة الناس. ومع ان رساءلهم الأثنتين والخمسين كانت موسوعة استثنائية في مجالات المعرفة العلمية والأدبية والفنية في عصرهم، فان المؤرخين أختلفوا في تحديد مذهبهم وهويتهم.

 وعلى غرار المعتزلة والقرامطة الذين هدفوا الى التغيير في محتوى وطرائق التفكير، فان الجديد الذي جاء به (أخوان الصفا) انهم استوعبوا الفلسفات اليونانية والفارسية والهندية وعملوا العقل فيها لينتجوا منها فلسفة اسلامية هدفت الى التقريب بين الأديان والفلسفة. والأهم والأخطر انهم اعلنوا ان الأسلام كدين لا يتعارض مع الفلسفة كفكر، وان المتدينين الذين يزدرون الفلسفة يعانون من تخلف فكري.. ولهذا كانوا أشبه بحزب شيوعي في بلد عربي بزماننا، لأنهم اضطروا الى أن يشكلوا خلايا سرية في اجتماعاتهم الفكرية، وأنهم ما كانوا يقبلون انضمام احد لهم الا بشروط تشبه شروط من ينتمي لحزب سرّي في نظام طاغية دكتاتوري.

 والمدهش انهم عملوا العقل في التفكير بكل شيء، من الدين الى الفلك، الرياضيات، الموسيقى، الى مبادئ الموجودات وأصول الكائنات ووجه الأرض وتغيراته، والنجوم وكيف تكونت، الى الحاس والمحسوس، والعلة والمعلول، والعقل والمعقول، والمنطق وفروعه، واختلاف الأخلاق، والبعث والنشور.. الى العشق والحب واخرى كانت لهم فيها افكار ورؤى جديدة تختلف مع ما كان قد اشاعه الدين، ولهذا اختلف علماء الأسلام التقليديون في الموقف منهم، فمنهم من اعتبرهم من اتباع المعتزلة، فيما قال آخرون انهم يتبعون المدرسة الباطنية، وينحدرون من الفكر الأسماعيلي، واتهمهم علماء مسلمون بالهرطقة والإلحاد، و ذهب آخرون الى وصفهم بأنهم زنادقة.

 وهناك من يصف جماعة اخوان الصفا بالخبيثة، مستشهدا بأن من خبائثها.. روايات "الف ليلة وليلة" الشهيرة، التي تتحدث بمعظمها عن السحر وتسخير الجن لخدمة الانسان وما شابه.. وانها ماسونية لأن شركة والت ديزني الماسونية انتجت عدة افلام ومسلسلات من هذه الروايات وخاصة علاء الدين والجني الازرق وبساطه الطائر وسندباد!. فيما وصفهم آخرون بانهم جمعية سرية تتسم بعقائد فلسفية باطنية أسسها الشيطان لتنفيذ أخبث مشروع في تاريخ الرسالات الالهية هو تنفير الناس عن الدين الأسلامي، ومحاربة شرع الله ونصب مكائد للمسلمين وتفريقهم. وهناك من اشاع النقمة على الخليفة العباسي (المأمون) لأنه برأيهم كان السبب في نقل الفلسفة الى اللغة العربية، وذّمه ابن تيمية بقوله: " ما أظن الله يغفل عن المأمون ولا بد ان يعاقبه بما أدخله على هذه الأمة".. ما يعني أن الفلسفة من وحهة نظرهم هي ضد الدين!

 وجاء في ترجمة دائرة المعارف الاسلامية أن اخوان الصفا جماعة ظهرت في البصرة سنة 373 هحرية وصفتها بأنها سياسية دينية ذات نزعات شيعية متطرفة وربما كانت إسماعيلية على وجه أصح، ولسنا نعرف شيئا عن نشاطهم السياسي، اما جهودهم في التهذيب الفطري فقد أنتجت سلسلة من الرسائل رتبت ترتيبا جامعا لشتات العلوم تمشيا مع الاغراض التي قامت من أجلها الجماعة، وكانوا يميلون إلى التعبير عما يجول في نفوسهم بأسلوب غير صريح، اذ وصفهم فقهاء بان بعض كلمات اخوان الصفا يدل على تشيعهم، وبعضها يؤذن بتسننهم، وبعضها يقتضي كفرهم، وبعضها يورث اسلامهم.

نماذج مما كتبوا

لنبتعد عن الذين وصفوا كتاباتهم بالغامضة، ونورد لك نماذج مما كتبوا في العشق والأخلاق:

(إن كثيرًا من الناس يظنون أن العشق لا يكون إلا للأشياء الحسنة حسب، وليس الأمر كما ظنوا؛ فقد قيل: «يا رب مستحسن ما ليس بالحسن.» ولكن العلة في ذلك هي الاتفاقات التي بين العاشق والمعشوق وهي كثيرة، منها المناسبات بين كل حاسة ومحسوساتها.

ثم اعلم أنه من ابتلي بعشق شخص من الأشخاص، ومرت به تلك المحن والأهوال وعرضت له تلك الأحوال، ثم لم تنتبه نفسه من نوم غفلتها فيتسلى ويفيق، أو نسي وابتلي من بعد بعشق ثان لشخص آخر؛ فإن نفسه نفس غريقة في عمائها سكرى في جهالتها.

والفرق بين الخاص والعامة، أن العامة إذا رأت مصنوعًا حسنًا أو شخصًا مزينًا تشوقت نفوسهم إلى النظر إليه والقرب منه والتأمل فيه، وأما الخواص فتتشوق نفوسهم إلى الصانع الحكيم والمبدع العليم والمصور الرحيم).

 وفي الصداقة.. كتبوا ما يعد سابقة في علم النفس بقولهم:

(واعلم بأن من الناس من هو مطبوع على خلق واحد أو عدة من أخلاق محمودة ومذمومة، فينبغي لك إذا أردت أن تتخذ صديقًا أو أخًا أن تنتقده كما تنتقد الدراهم والدنانير والأرضين الطيبة التربة للزرع والغرس. واعلم بأن من الناس من يتشكل بشكل الصديق ويتدلس عليك بشبه الموافق، ويظهر لك المحبة وخلافها في صدره وضميره. واعلم بأن الإنسان كثير التلون قليل الثبات على حال واحد، وذلك أنه قل من الناس من تحدث له حال من أحوال الدنيا أو أمر من أمورها إلا ويحدث له خلق جديد وسجية أخرى، ويتغير خلقه مع إخوانه ويتلون مع أصدقائه، إلا إخوان الصفا الذين ليست صداقتهم خارجة من ذاتهم إنما هي قرابة رحم، ورحمهم ما من يعيش بعضهم ببعض ويرث بعضهم بعضًا، وذلك أنهم يرون ويعتقدون أنهم نفس واحدة في أجساد متفرقة، فكيفما تغيرت حال الأجساد بحقيقتها فالنفس لا تتغير ولا تتبدل).

ومن جميل ما قالوا.. ينطبق على واقعنا الآن: (واعلم أن في الناموس أقوامًا يتشبهون بأهل العلم ويدلسون بأهل الدين: لا الفلسفة يعرفونها، ولا الشريعة يحققونها، ويدعون مع هذا معرفة حقائق الأشياء، ويتعاطون النظر في خفيات الأمور الغامضة البعيدة، وهم لا يعرفون أنفسهم التي هي أقرب الأشياء إليهم، ولا يميزون الأمور الجلية ولا يتفكرون في الموجودات الظاهرة المدركة بالحواس المشهورة في العقول، ثم ينظرون في الظفرة والقلقة والجزء الذي لا يتجزأ، فاحذرهم يا أخي فإنهم الدجالون).

الحقيقة الخفية

 ما استعرضناه في هذه السلسلة التي تناولت (المعتزلة والقرامطة وأخوان الصفا) يوصلنا الى حقيقة خفية صادمة هي ان العقل الديني عبر تاريخ الأسلام حصر التفكير ضمن حدود الدين، واعتبر الفلسفة عدوة للدين وخطرة لأنها تحفز العقل على التفكير بما يدعو الى التغيير فيما الدين يعمد الى خلق مرجعيات تفكر بدلا عنه فتلغي بذلك عقله. وبسبب ذلك أصيب العقل العربي بالدوغماتية التي تعدّ من وجهة نظر علماء النفس والاجتماع السبب الرئيس للخلافات السياسية التي غالبا ما تنتهي بحروب، و(مرض) خالقي الازمات من القادة السياسيين، لأن الدوغماتيين يرفضون الافكار الجديدة مهما كانت قوة الادلة التي تسندها ويتشبثون بمعتقداتهم القديمة حتى ان ثبت خطؤها.. وهذا هو سبب تأخر بلدان العالم العربي مع ان بينها (مصر والعراق) كانوا اهل حضارات متعددة. والعلة في ذلك أن العقل السياسي في الأنظمة العربية وظّف الدين عبر تاريخ الأسلام لترويض وتخدير العقل الجمعي لبقاء الحاكم في السلطة حتى لو كان على شاكلة الخليفة الأموي الفاسق يزيد او نظيره الخليفة العباسي المعتمد على الله.. او على غرار حكّام أحزاب الأسلام السياسي في العالم العربي، الذين حكموا باسم الدين وأثبتت وقائع وأحداث الألفينات انهم افشل وافسد واقبح من عرفهم التاريخ!.

وتبقى المفارقة الأخيرة، هي ان الثلاثة: (المعتزلة والقرامطة وأخوان الصفا).. نشأت جميعها في البصرة، ووصلت أفكارها الى الكثير من بلدان العالم!

***

أ. د. قاسم حسين صالح

 

في المثقف اليوم