دراسات وبحوث

التراث السلجوقي.. مقاربة تحليلية في البنية الثقافية

عبد الامير كاظم زاهدعرف العالم الاسلامي في القرن الخامس الهجري صراعا سياسيا حادا توسل بالايدولوجيا الدينية بشكل لافت ذلك هو الصراع السلجوقي مع الفاطميين: فقد كان القرن الرابع قرن الدول الشيعية فكما يقول ادم متز في كتابه الحضارة الإسلامية فالدولة العلوية في شمال ايران دولة شيعية زيدية وهي دولة الداعي العلوي الطبرستاني 250- 316 هـ والدولة البويهية 334- 447 في العراق التي كان قادتها زيدية تحولوا للمذهب الامامي والدولة الحمدانية في الموصل والشام 317-367 هـ والدولة الفاطمية في مصر وشمال افريقيا 358 هـ - 567 هـ فلما قويت شوكة السلاجقة ودخلوا بغداد عام 447هـ واسقطوا دولة البويهيين دخلوا في صراع سياسي مع الفاطميين وارادوا محو الاثار الفكرية للتشيع البويهي في بغداد وامتدادات الدعاة الفاطميين في العراق وايران، وبدا التنافس السياسي بينهما يرتكز اساسا على مقولات دينية فمتى انتصرت رؤية دينية ينتصر اتباعها سياسيا وقد ادرك هذه الحقيقة الفعلية على الارض وزير الدولة السلجوقية نظام الملك وهو الحاكم الفعلي والرجل الذي عمل وزيرا للسلاطين السلاجقة لمدة ثلاثين عاما كاملة وعاصر اثنين من سلاطين السلاجقة، ألب أرسلان وابنه ملكشاه، وقد أثبت قدرة وكفاءة نادرة في الإدارة ففوق مهامه الإدارية الجسيمة كان رجلا قادر على ان يرسم المستقبل فجعل الخليفة العباسي يكتفى برمزيته الدينية جبرا عليه وفكر باستراتيجية معرفية عميقة باعتماد سياسة العقيدة الواحدة للدولة فتتدخل السلطة في تحديد ما يجب الاعتقاد به وما لا يجب وما يجب التخلي عنه من المعتقدات ( عقيدة الدولة ) على اننا يلزم ان نشير الى ان تجربة سبقت استراتيجية نظام الملك هي تجربة الخليفة القادر بالله العباسي المتوفى في (422 هـ) وتنميطه لعقائد الناس تحت عنوان البيان القادري الصادر في 408 هـ والذي جمع العلماء والقضاة والوعاظ و رجال الدين فاخذ منهم ميثاقا بذلك وامرهم بقراءة البيان في الجوامع وعاقب من لم يلتزم به طوعا او كرها فلما حقق البيان القادري بعض اهدافه في جعل العقل الديني يستوحش من التعددية والاجتهادات في مجال الراي الديني والزامه براي الدولة مهدت الأرضية لاستراتيجية العقيدة الواحدة وكانت تجربة مشجعة لنظام الملك ان يكررها بطريقة افضل ويستفيد من هناتها فقام بتاسيس حاضنة معرفية ذات بعد مذهبي وعقائدي واحد اسماها المدرسة النظامية وكان مركزها في بغداد وفتح لها فروعا في امصار الدولة السلجوقية مثل فرع نيسابور والبصرة وهراة وبلخ واصفهان وغيرها لنشر الفكر الاشعري والفقه الشافعي ليواجه تحديات الفكر الشيعي، ويعمل على تقليص نفوذه المنتشر شرقا وغربا وإيجاد طائفة من المعلمين الاشاعرة المؤهلين؛ لتدريس المذهب الشافعي ونشره في الأقاليم المختلفة والزم من فيها بان يعتمدوا فقط العقيدة الاشعرية – في مجال الكلام - والمذهب الشافعي - في الفقه – ومنع عرض او ذكر اي راي اخر في مجالي الفقه والعقيدة وانفق على المدرسة النظامية اموالا طائلة وادخل فيها طلبة العلوم الدينية الذين يتخرجون منها وعاظا وقضاة ومدرسين وخطباء وائمة مساجد وصناع للراي العام

ومن تطورات المدرسة النظامية ان نظام الملك جعلها مرجعا مدونا للعقيدة المتاحة والمذهب الفقهي المعمول به على صعيد الدولة فطلب من العلماء الكبار ان ينخرطوا في النظامية كمدرسين ومؤلفين ودعاة واغراهم بالاموال الطائلة حتى كان يزن اي مؤلف بالذهب مكافاة للمؤلف

ان من اللافت ان كبار عماء الاسلام في النصف الثاني من القرن الخامس كانوا من اساتذة النظامية ومنهم إمام الحرمين أبو المعالي الجويني. وابي نصر الصباغ والدبوسي الشافعي والسهروردي وابن الجوزي والكيا الهراسي والقفال الشاشي والباقلاني والغزالي والشهرستاني صاحب الملل والنحل والجرجاني صاحب النظم القراني واغلب علماء القرن الخامس الهجري وقد امرهم بان يكتبوا للناس علما يؤدي الى ترسيخ عقيدة الدولة وفقهها ويبرهنوا على بطلان العقائد الاخرى والاراء الفقهية للمذاهب من غير الشافعية وركزوا على التاليف في مجالات الفرق والعقائد او ما سمي بالملل والنحل فكانت كتب الفرق والمقالات ابرز منتجات العصر السلجوقي والتي بدأت غالبا بحديث الفرقة الناجية وهو حديث في اسناده الكثير من العلل وفي متنه مشكلات التعارض الكثيرة مع كتاب الله والمتواتر من السنة بحيث لا يصلح للحجية في الظنيات ناهيك ان البحث العقائدي لا يكتفي الا بالقطعي من المستندات الدينية

لقد رسخت الثقافة المسطرة في المدونات السلجوقية عدة امور منها:

1- انها اقصت من ساحة المعرفة بقية الاتجاهات الفكرية – عدا الاشعرية – وعاملت الاتجاهات العقلية معاملة قاسية كالمعتزلة والماتريدية والشيعة بكل تنوعاتهم ومنعت كتبهم ومدوناتهم ومنعتهم من الحوارات الفكرية مع الاتجاهات الاخرى ومن يتابع ابن النديم في الفهرست سيجد الاف الكتب المنسوبة للعلماء الذين اختلفت اراؤهم مع عقيدة الدولة السلجوقية قد اختفت من الوجود

2- اذ كت هذه الاستراتيجية النزاع الشافعي مع الحنفية الذين تركزوا في القارة الهندية وافغانستان فكتبوا ردودا على الفقه الشافعي وكتب الشافعية نقدا للفقه الحنفي ويمكننا القول ان افضل المناظرات الفقهية المتاحة الان في تراثنا هي تلك التي بين الشافعية والحنفية ومن يرغب الإفادة من تلك السجالات فعليه بكتاب ابن الهمام ( التحرير في أصول الفقه الجامع بين أصول الحنفية والشافعية ) وكتاب الزمخشري (المسائل الخلافية بين الحنفية والشافعية ) ومال الحنفية للماتريدية ومال الشافعية للاشاعرة واختفت عقائد المعتزلة وانكفأ الشيعة خارج الحدث

3- كذلك هناك الحوارات المدونة بين الماتريدية والاشاعرة وادين الاعتزال بمدارسه البغدادية والبصرية و ظهرت الاشعرية في مناظرات عقائدية عميقة كمخرجات للواحدية المذهبية السلجوقية

4- الغى السلاجقة كرسي الكلام الذي انشأه عضد الدولة البويهي وهو اكاديمية للعقائد المقارنة وجعله بعهدة الشيخ محمد بن الحسن الطوسي ت 460 هـ ببغداد واحرق الكرسي وصودرت مكتبة الطوسي وهجر الرجل من بغداد فمنعوا بعد هذا اي حوار بين الفقهاء او المفكرين التزاما بواحدية المسلك العقدي والفقهي للدولة السلجوقية

5- ادت مدونات العصر السلجوقي التي انتشرت والزم بها الناس وبقيت متوارثة لكثرة نسخها وانتشارها وتوظيفها الى خلق عقل ديني طائفي متزمت يؤمن باحتكار الحقيقة الدينية ويرى انه الصحيح مطلقا وغيره ايا كان باطل مطلقا وكان ذلك سابقة مهمة لكل محاولات سحب الشرعية الدينية من الاخر كمحاولة ابن تيمية والحنابلة والسلفيات المعاصرة فيما بعد

6- لقد كتب الغزالي للسلاجقة تهافت الفلاسفة الذي كفرهم في ثلاث مسائل وفسقهم في بضع عشرة مسالة وكتب لهم فضائح الباطنية لادانة الإسماعيلية والجام العوام عن علم الكلام و فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة وغيرها من كتب تؤكد أيديولوجية السلاجقة

7- ادت الثقافة السلجوقية الى تمهيد الاجواء لابن الصلاح الشهرزوري 654 هـ لفتواه الشهيرة والمدمرة بتحريم الاجتهاد الفقهي خارج الاراء التقليدية لائمة المذاهب الاربعة فاوقف بذلك تطور العقل الاسلامي الذي كان يجب ان يوازي التطور الحياتي فغلب الواقع الحياتي احاطة الفقه به وتخلف الفقه عن الحياة واقيمت الفجوة التاريخية بين الاراء الفقهية لعصورها وما يجب ان تكون لعصرنا فادت الى فشل تجارب الدولة الدينية في العالم الاسلامي الحالي لانها ملتزمة بالفقه التقليدي وتريد من فقه القرون الوسطى ان يدير بجدارة واقع القرن الحادي والعشرين الميلادي بكل تطوراته التقنية والمنهجية والفلسفية ويمكن التدليل على ذلك بتجربة السعودية والسودان ومصر محمد مرسي وتونس الغنوشي وافغانستان طالبان ودولة داعش في العراق والشام اما ايران فقد عانت من هذه الفجوة واختارت منهجا اجتهاديا براغماتيا واسست منظومة فقهية اسمتها تشخيص مصلحة النظام اي مصلحة الحاضر علما ان الفقه الشيعي قد اعانته نزعته الاجتهادية التي لم يلتزم فقهاؤه بوقف الاجتهاد وان كان جو ايقاف الاجتهاد قد سرب عدوى كبيرة للاستنباط الشيعي ومنه مثلا النزعة الاخبارية وما ترتب عليها حاليا.

8- اسست الثقافة السلجوقية عقلا دينيا طائفيا زرع الكراهية والادانة الايديولوجية للمنهجيات العقلانية فالشيعة اليوم يعانون من ترسخ اتهامات غير صحيحة نسبت لهم في المدونات السلجوقية وترسخت في العقل السني من دون تمحيص وتثبت ومقارنة.

9- لقد اكمل الشهرزوري اضلاع المحاصرة للعقلانية فافتى بتحريم المنطق وتحريم الاشتغال بالفلسفة وسماها اس السفه.

10- من الواجب الإشارة الى ان حملات الفكرة الواحدية تدرجت ففي عصر معاوية نشات الجبرية والزم الناس بها وفي عصر الزهري كانت احاديث عدالة الصحابة وانهم خير القرون وانهم مناجم الحقيقة الدينية وفي عصر المتوكل اضطهدت السلطة الاتجاه العقلاني فحوكم المعتزلة وشردوا واحرقت كتبهم ثم جاء السلاجقة فاكملوا الحلقات لتاسيس فكر احادي.

***

الاستاذ المتمرس الدكتور عبد الامير كاظم زاهد

في المثقف اليوم