دراسات وبحوث

منهج جديد في تفسير آيةٍ معضلةٍ في القرآن

علاء شدهان القرشيآية عرض الأمانة في سورة الأحزاب مثالًا

«إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ...»، هذه الآية من مشكلات القرآن كما يصطلحون في حقل المعرفة الدينية المتصل بتفسير القرآن وفنونه. فيقول فيها أحد أعاظم المفسرين: «وَقَدْ عُدَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ [عرض الأمانة] مِنْ مُشْكِلَاتِ الْقُرْآنِ وَتَرَدَّدَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَأْوِيلِهَا تَرَدُّدًا دَلَّ عَلَى الْحَيْرَةِ فِي تَقْوِيمِ مَعْنَاهَا [...] وَأَمَّا الْأَمَانَةُ [...] وَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهَا الْمُفَسِّرُونَ عَلَى عِشْرِينَ قَوْلًا»، ابن عاشور 22: 126. وبمراجعة أكثر من ثمانين تفسيرًا أستطيع تبرير قول ابن عاشور حول وعورة هذه الآية وإعضالها وصعوبتها، وربما يمكنني إضافة وجوه أخرى فاتته، أو استجدّت بعد وفاته.

ومن أجل فهمها ينبغي تقديم عدة قواعد توصلتُ إليها بشكل مختلف وقد جربتها في خصوص الآيات المعضلة والمشكلة والمحيرة فأعطت نتائج مريحة وأبعدت الوجوه المحتملة أو قلّصت الاحتمالات إلى احتمالٍ واحدٍ يصلح لأن يكون فرضيةً مُفسِّرةً لمبهم تلك الآيات مُــتّـــفِـــقًـا مع مبدأ التقتير للمحترم وليم من أوكام.

 أولًا: ذكر جزء من السياق الذي انطوى على هذه الآية؛

وثانيًا: ذكر المفردة المُوْهِمة في استعمالات قرآنية أخرى؛

وثالثًا: تعريف المفردات بعيدًا عن إسقاطات المعرفة الدينية السائدة منذ أواخر العصر الأموي والمرواني مرورًا بالعصر العباسي وانتهاءً بعصرنا؛

ورابعًا: ذكر السياق نفسه في الكتب السماوية الأخرى استنادًا إلى: «مصدّقًا لما بين يديه من التوراة والإنجيل ...».

بالنسبة لهذه الآية ستُظهر هذه القواعد الأربعة المعنى، وتدفعه إلى الإعلان عن نفسه بسهولة ويسر، ولكن ليس بالضرورة تطبيق هذه القواعد تراتبيًّا.

بالنسبة لــ «أولًا» [سياقها القرآني]:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً. إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً. لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً». الأحزاب.

يتضح من السياق أنّ للآية علاقة ببني إسرائيل، والأمم يتأسّى بعضها ببعض، كما يحدّث القرآن، ولا يعني ذلك أنّ الآية خاصة ببني إسرائيل، بل تعني أنّها تشمل الأمم المعاصرة للقرآن ومن يأتي بعدهم. وسنرى كيف ستضيء أحداث التوراة على هذه الآية المستَشْكَلة. ويتّضح أيضًا أنّها معنيّة بالقول والعمل والمسؤولية عليهما، أي معنية بالتعاليم والتكاليف والشريعة والقوانين ومدى الالتزام بها والجزاء عليها.

وبالنسبة لــ «رابعًا» [سياقها الكتابي]:

فحادثة عرض التوراة على الأمم المختلفة المتناثرة في الأرض والجبال حظيت باهتمام كبير. والتوراة المقصودة ليست كتابًا واحدًا نزل نزولًا جُمليًّا كما هو الشائع، بل تعاليم عديدة ووصايا نزلت تدريجيًّا. وهي تضم الألواح المكسورة التي كتبها موسى بيده، والألواح السليمة التي كتبها الرب بأصبعه، ومجموع الوصايا الموحاة على طور سيناء، والتعاليم الموحاة في خيمة الاجتماع، وفي صحراء سيناء في زمن التيه، بل تشمل ما أوحي إلى موسى من حين بلغ أشده وبلغ أربعين سنةً كاملةً وانتهاءً بوفاته. وبما أنّ التوراة المعدّلة الرسمية اقتصرت على نصوص معيّنة لتحقيق غايات دينية وسياسية مقصودة، فكان ينبغي الرجوع إلى مجموع الموروث الديني اليهودي للعثور على قصة العرض هذه. وقد وجدتها مجتمعة في كتاب هام لمتخصص في العبرانيات وهو لويس غيزنبرغ، ترجمت ثلاثة أجزاء من عمله الكبير: أساطير اليهود، ولا أدري إن ترجمت أعماله الهامة الأخرى أوْ لا. النص التالي مأخوذ من تلك النصوص الدينية التي يتوارثها الربيّون (المعلمون والمفسرون) منذ قديم الزمان، وهي بمثابة تفسير بالمأثور لنص التوراة الشائع. فالكلام البيني الواقع بين مقاطع من التوراة هو تفسير بالمأثور اليهودي والعبري بشكل عام. وما يليه هو النص بنسخته الإنجليزية وهو متوفر على النت.

«قبل أن يعطي الرب بني إسرائيل التوراة اقترب من كل قبيلة ومن كل أمة وعرض التوراة عليهم لكيلا يقولوا فيما بعد: لو كان القدوس تبارك وتعالى عرض علينا التوراة لكنا قبلناها. هكذا ذهب الرب إلى ذرية عيسو وقال لهم: هل تقبلون التوراة؟ فأجابوه قائلين: وما المكتوب فيها؟ فأجابهم الرب: لا تقتل. قالوا: إذًا ستحرمنا من البركة التي بورك بها أبونا عيسو إذ قيل له: بسيفك ستعيش؟ لا لن نقبل التوراة ولا نريدها. عند ذلك ذهب الرب إلى ذرية لوط وقال لهم: هل تقبلون التوراة؟ فسألوه: وما المكتوب فيها: أجابهم: لا تتركوا العفة. فقالوا: لقد ولدنا من الفاحشة ونعيش فيها، لا لن نقبل التوراة ولا نريدها. عند ذلك ذهب الرب الى ذرية إسماعيل وقال لهم: هل تقبلون التوراة؟ فسألوه: وما المكتوب فيها: فأجابهم: لا تسرق. فقالوا: إذًا ستحرمنا من البركة التي بورك بها أبونا إذ قيل له: ويدك تكون على كل رجل، لا لن نقبل التوراة. وعند ذلك ذهب الرب إلى جميع الأمم الأخرى وعرض عليهم التوراة لكنهم رفضوها قائلين: إننا لن نستغني عن القوانين التي وضعها لنا آباؤنا، لا لن نقبل التوراة، إذهب فاعطها إلى شعبك إسرائيل. وعند ذلك أتى الرب إلى بني إسرائيل وقال لهم: هل تقبلون التوراة؟ فسألوه: وما المكتوب فيها: أجابهم: ستمئة وثلاث عشرة وصية. فقالوا: كل ما أمرنا به الرب سنفعله، يا رب العالم لقد عملنا بأحكام التوراة من قبل أن تنزل علينا»، أساطير اليهود: 3: 85- 86

المقطع الأخير الذي يحمل عنوان: تنافس الجبال، يدور حول تنازعها وجدالها فيما بينها طلبًا للتشرّف بنزول التوراة عليه، وأيها أجدر بذلك وأولى، فاختار الله جبل سيناء [سيناء أو سين بحسب التوراة] لأنَّه أشدهنَّ تواضعًا، ونجد نظير هذه المحاورات في التراث الإسلامي فيما يختص بطور سينين: «أوْحى اللَّهُ إلى الجِبالِ: إنِّي مُكَلِّمٌ عَلَيْكِ عَبْدًا مِن عَبِيدِي، فَتَطاوَلَتِ الجِبال لِيُكَلِّمَهُ عَلَيْها، وتَواضَعَ الطُّورُ، قالَ: إنْ قُدِّرَ شَيْءٌ كانَ. قالَ: فَكَلَّمَهُ عَلَيْهِ لِتَواضُعِهِ»، الدر المنثور 3: 542.

تم العرض إذًا على الأمم جميعها، وكنّى عن هذا المعنى في القرآن بالجبال والسموات والأرض، فلا معنى لعرض الأمانة على غير العاقل المريد المختار. ولا معنى أيضًا لعرضها على جبالٍ لو قبلتْها لم تتمكن من أداء ما فيها من وصايا وتعاليم، ففيها: لا تقتل، لا تسرق ...الخ.

وبالنسبة لــ «ثالثًا» [التعريفات]:

هذه التعريفات مرّت بعملية استقراء لأغلب استعمالاتها في القرآن، مع الأخذ بعين الاعتبار السياق الذي وردت فيها تلك المفردة:

الإنسان: في القرآن هو الكائن البشري قبل أن يلتزم بما يدينه، أي: بـ «الدين» .

الأمانة: هي الشريعة، وهي مجموعة من الالتزامات المكتوبة والمتفق على أدائها، لذلك تقرن الأمانة بالأداء دائمًا، فيقال: أداء الأمانة، وهي تساوي التكاليف، أو القوانين أو الإسلام نفسه بمعناه الأصيل قبل مذهبته أمويًّا أو عباسيًّا.

الوثني: في التوراة وفي القرآن هو الذي يعيش بلا دين، والذي رفض تعاليم التوراة والإسلام. فالوثني في التوراة يساوي الإنسان في القرآن. وذكرت ذلك لما كان له علاقة في فهم النص المقارن في الكتب العبرية.

وبالنسبة لــ «ثانيًا» [المفردة الموهمة]:

فالآية التي يمكن أن تقوم بعملية التناصّ مع هذه الآية ينبغي أن تكون منطبقةً لفظيًّا، كما ينبغي أن تكون منطبقةً سياقيًّا على هذه الآية، فيجب أن يكون لها علاقةٌ ما باليهود، وليست سوى هذه الآية من سورة الجمعة:

(مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ ثُمَّ لَمۡ يَحۡمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلۡحِمَارِ يَحۡمِلُ أَسۡفَارَۢاۚ بِئۡسَ مَثَلُ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ. قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ هَادُوٓاْ إِن زَعَمۡتُمۡ أَنَّكُمۡ أَوۡلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ ٱلنَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ ٱلۡمَوۡتَ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ) الجمعة.

والخلاصة:

سيكون معنى: ظَلُوْمًا جَهُوْلًا: أي: قبل تحمّله للأمانة والقوانين، وقبل تحوّله إلى مسلم يتدين بدينٍ ما ويلتزم به، أي: ما زال إنسانًا كما في التعريف السابق، ولكنّه بعد تحمّله للأمانة وقبوله إياها سيخرج عن كونه: طلومًا جهولًا. ويكون معنى: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ مترتبًا على هذه الأمانة ومقدار الالتزام بها. ويكون معنى الأمانة: الشريعة أو التكاليف أو الكتاب بما هو نص ينطوي على أمثلة للقوانين التي أنتجها العرف البشري العاقل وأمضاها جمعهم وتعاهدوا على الالتزام بها ومجازاة من يخالفها. والمعنى واحد.

والنتيجة:

الأولى: لا معنى لكثرة التفسيرات التي أنتجتها المعرفة الدينية التفسيرية، ولا معنى لتلك النتائج التي توصلت إليها المعرفة اللاهوتية الكلامية لفرق الإسلام، ولا معنى لما ترتّب عليها من مبانٍ فلسفية ارتكزت على تأويل هذه الآية بما ينسجم مع أصولها النظرية.

الثانية: إنّ تغييب الوجه الأقوى وربما الوحيد لتفسير هذه الآية عمدًا أو سهوًا أعطى لكل اتجاه أو مدرسة فكرية إسلامية الفرصة ليأولها بما ينسجم مع اتجاهه ومدرسته.

الثالثة: لا علاقة لهذه الآية بآية خلافة آدم «إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلۡأَرۡضِ ‌خَلِيفَةً». فهذا مَثَل أدّى غرضًا معينًا متصلًا بخلافة آدم لمن قبله من أجيال البشر، وآية الأمانة مَثَل أدى غرضًا مختلفًا وقد تبيّن أعلاه.

ومثال آخر يشبه ما مرّ أعلاه - ويشبه آية الذر التي كرّرتُ عدة مرات نشر فهمي لها - هو ما نراه في سورة الزلزلة:

«إِذَا زُلۡزِلَتِ ٱلۡأَرۡضُ ‌زِلۡزَالَهَا. وَأَخۡرَجَتِ ٱلۡأَرۡضُ أَثۡقَالَهَا. وَقَالَ ٱلۡإِنسَٰنُ مَا لَهَا. يَوۡمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخۡبَارَهَا. بِأَنَّ رَبَّكَ أَوۡحَىٰ لَهَا. يَوۡمَئِذٍ يَصۡدُرُ ٱلنَّاسُ أَشۡتَاتًا لِّيُرَوۡاْ أَعۡمَٰلَهُمۡ فَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَيۡرًا يَرَهُ. وَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ».

«ومثلما اضطرب سكان الأرض وفزعوا عند نزول الوحي اضطربت الأرض هي الأخرى وفزعت وظنت أن القيامة قد قامت وأن الموتى سيبعثون وأنها ستُسأل عن القتلى الذين امتصت هي دماءهم وعن جثثهم التي غطتها هي بترابها. ولم تهدأ الأرض ويذهب عنها الروع إلا بعد ما سمعت الكلمات الأولى من الوصايا العشر»، أساطير اليهود: 3: 94.

ويمكن إجراء تلك القواعد في هذا الموضع أيضًا، والخروج بنتائج تتفق مع مبدأ التقتير أو البساطة أو المشهور بــ «نصل أوكام» Ockham's Razor))، لأنّ الاحتمالات الأخرى وهي التفسيرات العديدة جدًّا والمختلفة جدًّا ستتساوى، فيرتفع رصيد هذا الوجه الأخير المختلف معها، والمتماسك منطقيًّا، والأكثر معقولية، والأبسط والأشد تقتيرًا، أي الأقل مؤونة ووجوهًا من الوجوه الأخرى التي فشلت في توضيح القصد من هذه الآية المعضلة المستشكلة «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ».

***

علاء شدهان القرشي

......................

* لمراجعة النص الأصلي لكتاب: أساطير اليهود المذكور في النص أعلاه:

https://www.gutenberg.org/files/2881/2881-h/2881-h.htm#chap18

في المثقف اليوم