دراسات وبحوث

الفقه وثنائية الحق والتكليف.. مراجعة في ضوء إثارات العقل النقدي

بالنظر إلى ما يواجهه الفكر الديني عموما من نقد وشبهات يتجلى العقل النقدي في أعلى مراتبه عند موضوع القيمة الانسانية ومدى حضور الانسان في بنية التفكير الديني، عبر تتابع وجهات النظر الناقدة حول ما يعانيه مفهوم الإنسان من غياب في البنى الفكرية والمنهجية للعلوم الدينية، وضعف حضور واضمحلال أولوية المكاسب الإنسانية، بالنحو الذي أدى إلى ظهور مسوغات كثيرة للنقد معززة بثغرات ونقاط ضعف يعاني منها الخطاب الديني بنحو عام، والذي كان من أبرز أسبابه ضعف وسائل الخطاب والواصل بين الفكر الديني والعقل المثقف، وهو موضوع فيه من العمق والتفاصيل الجانبية بما لا يسعه حجم المقال.

ومع التركيز على الجانب الفقهي الذي يتضمن الكثير من المضامين التي تمس واقع الإنسان المعاصرر يمكن تقرير أن العقل النقدي لم يغفل ما ينبني عليه الحكم الشرعي المستنبط من فلسفة التكليف التي تحكم مجمل منطلقات الفهم الفقهي للخطاب الشرعي، عبر الاستناد إلى مسلمة فقهية/أصولية مفادها أن الخطاب الشرعي غالبا ما يصدر بصيغة آمرة أو ناهية تفيد بالحث على القيام بالفعل أو تركه، بمعنى أن النصوص الدينية التي تتعلق بالأحكام هي النصوص التي تنطوي على أمر أو نهي وبالتالي فالتكليف هو النتيجة المنطقية لفسلفة الحكم الشرعي، في حين يدعو العقل النقدي إلى مراجعة هذه المسلّمة وفتح المساحات أمام النص الديني الذي يؤسس لمجموعة من الحقوق الإنسانية، ولو بدلالة الإشارة أو الملازمة بالشكل الذي يمكن معه فهم النص الديني في إطار قيمي حقوقي شامل للتكليف من حيث كونه يستبطن حقا من الحقوق، وعلى سبيل الإنصاف فإن العقل الفقهي لم يغفل هذا الاستبطان في أدبياته القريبة من واقع الممارسة الفقهية، لأن الأخيرة تخلو تماما من تلك الرؤية التي تأخذ الحقوق الإنسانية بعين الاعتبار لكن ذلك لا يعني انعدام تلك الرؤية، بل يمكن رصدها في الخطاب الديني بشكل كافٍ على مستوى كتب المواعظ والثقافة الدينية، وهو الذي لم يكن كافيا لدى العقل النقدي في قراءته للفقه بسبب تتبعه الدقيق والحاد بعض الشيء في قراءة المنتج الفقهي ومدى اشتماله على القيم ذات النزعة الإنسانية، فالذين يقدمون نقدهم حول المعرفة الفقهية لم يقرأوا الفقهاء إلا عبر رسائلهم العملية وبحوثهم الفقهية التخصصية مما أدى إلى اقتصار نقدهم على المنتج المعرفي المتخصص، وربما لا يكون كافيا أن نبرر للفقهاء خلو نتاجهم من مفهوم الحق الإنساني واقتصارهم على التكليف، لان مساحة الخطاب التي يشغلها الفقه تفوق مساحة الخطاب الديني العام الذي يشتمل على مفاهيم الحقوق الإنسانية.

إن رسم العلاقة بين الدين والإنسان ليس بالأمر اليسير، ذلك أن للإنسان متطلباته وللدين متطلباته، وحتى مع القول باستبطان التكاليف الدينية للحقوق الإنسانية فإن ذلك لا يعد حلا حاسا لإشكالية الحقوق في التشريع الديني، لأننا أمام فرضين أساسيين لا ثالث لهما : إما أن نتصور أن العلاقة بين الإنسان والدين هي علاقة عبد مكلف من قبل خالقه الآمر والناهي بالدرجة الأولى، أو نتصور أن العلاقة بين الإنسان والدين هي علاقة إنسان له حقوق بخالق راعٍ ومدبر، ومع إمكان اجتماع الفرضين برغم اختلاف مصاديقهما فإن ذلك لا ينفي وجود سمة غالبة لأحد الفرضين، فإما أن تكون سمة التكليف والأمر هي الغالبة على الخطاب الديني (الفقهي) أو تكون سمة (الحق) هي الغالبة..، تلك السمة التي تكشف عن حجم مراعاة المتطلبات الإنسانية المتجددة مع الزمان والمكان، فالمراعاة المتصورة لم تكن شيئا منافيا لحقيقة الدين، بل نجد أن الذين يكتبون حول فلسفة الدين وضرورة وجود الأديان في حياة الإنسان يأكدورن مرارا وتكرارا على وجود تلك المراعاة للواقع الإنساني وكيف أن الدين جاء ليلبي متطلبات الإنسان، في حين يجانب الخطاب الفقهي تلك التأسيسات مجانبة قسرية بسبب المنطق الذي يحكم العقل الفقهي، ذلك المنطق الذي طالما طاله النقد، وهو المشكلة الأساس في نتاجات الخطاب الفقهي، في طريقة قراءته للنصوص التشريعية، فالمحور الذي يدور حوله الفقه اليوم لا يعدو كونه جدلية قائمة بين المكلَّف والمكلِّف لا أكثر، جدلية ثنائية تقتصر على ما يجوز وما لا يجوز، على الحلال والحرام، وهي ثنائية حادة، لا تستوعب أي طرف يتوسط بينها، ولا حد ثالث يضمن وجود المكلف وحقه في الحياة، لكنها ليست مشكلة عقيمة، بل يمكن تجاوازها عبر تفعيل أدوات حية للخطاب تستثمر وجود مساحات رحبة تكتنز أجلى قيم الإنسانية بالنحو الذي يتيح للفقه أن يستعين بخطاب مكمل له يقترب جدا من مجال فلسفة التشريع وبيان مقاصد الأحكام وغاياتها عبر التوسل بمصطلح (الحكمة من التشريع)، ومع أن أحكام الدين غير معللة في الغالب، فإن ذلك لا يمنع من تعزيز الحكم الفقهي بما يؤول إليه من جلب المصالح ودرء المفاسد، باتجاه تشكيل وعي تشريعي يمنع من تسرب الشبهات إلى الفطرة السليمة المودعة لدى الإنسان الملتزم بأحكام الدين.

مضافا إلى ذلك فإن العقل النقدي ربما لا يستوعب وجود (مكلف) في الخطاب الفقهي، بل يدعو إلى وجود إنسان مسؤول تجاه ربه، وتجاه نفسه، وتجاه أخيه الإنسان، وتجاه البيئة التي تشتمل على موارد عيشه ومكتسبات وجوده، والمسؤولية تختلف عن التكليف في مدلولها اللفظي، فهي أخف وطأة من التكليف، لأن الأخير يكاد يخلو من قيمة الحرية، وهي المشكلة التي تستدعي تناولا مستقلا، ويشير التكليف إلى آلية المكلف، فالمكلف يقوم بما كلف به على نحو آلي، قريب من منطق إفعل ولا تناقش، في حين يقترب لفظ المسؤولية من مفهوم الحرية، لأن الحرية لاتكون مقبولة عقلا ما لم تكن حرية مسؤولة، والفعل المسؤول يشير إلى وجود صلاحية وكيان مستقل من قبل المسؤول وهو طالما سوف يسأل عما فعل لأنه كان حرا في فعله..

***

د. أسعد عبد الرزاق الأسدي

 

في المثقف اليوم