دراسات وبحوث

تطور فكرة الشيطان في الأديان (1)

هذه الدراسة هي الجزء الثاني لدراستي الأولى المعنونة "الله والإنسان إشكالية العلاقة" والمنشورة في صحيفة المثقف.

https://www.almothaqaf.com/research/964596

وهذه الدراسة تعتني بفكرة الشيطان- إله الشر- عند الإنسان وكيف تطورت في سيرورة الأديان.

- الفوضى والنظام

نظام الحياة- أي حياة- لا يمكن أن تزدهر وتستمر في الفوضى فلابد من نظام يكفل بقائها حفظا وادامة. حفظا من الخارج العدائي وادامة من الداخل الفيسولوجي لان نظام الحياة يحتاج إلى مدخلات ومخرجات متوازنه حتى تدوم الحياة إلى حين.

1- من النافع والضار إلى الخير والشر:

ترقت مدارك الإنسان البدائي- رغم أنه لم يكن فيلسوفا- إلا أنه شغل نفسه بمحاولة معرفة أمور هي فلسفية بحد ذاتها فمن فكرة الضرر والنفع ترقى إلى فكرة الخير والشر فما ينفعه وضعه في خانة الخير وما يضره وضعه في خانة الشر كتصنيف عقلي ثم بدأ يتسائل: أيهما كان أولا؟ العدم أم الوجود؟

الضار أم النافع؟

الخير أم الشر؟

وبهذا التساؤل بلغ مرحلة أرقى نسبيا على مدارج إدراكه أدت به إلى تقسيم قوى الطبيعة إلى قوتين تعملان في اتجاهين متعاكسين:

- قوة إيجاب فيها النفع والحياة والوجود والضياء ممثلة في عطاء الطبيعة وخصب الأرض وفيض النهر وتكاثر الحيوان النافع وكان هذا هو الخير بالنسبة له.

- والقوة الأخرى قوة سلب فيها الضرر والموت والعدم والظلام ممثلة في إمساك الطبيعة عن العطاء وجفاف الأرض والنبات والنهر وما يصحب ذلك من سكون وخمود من حوله وهذا هو الشر بالنسبة له لذلك نجده يتجه بالعبادة ووسائل التقرب لمظاهر الطبيعة المختلفة للظواهر الخيرة ليزداد خيرها وللظواهر التي يرهب جانبها ويخشى بأسها وبطشها ليتحاشى شرها ونقمتها ويقلل من ضررها.

وقد جاءت نقلته التطورية الأخرى بعد مشاهدات لعل أهمها: أنه لاحظ اختفاء أكثر مظاهر الحياة أمام ناظريه بحلول الظلام وأنه لا يستطيع أن يأمن على نفسه من الضواري ليلا فاستشعر أن الظلام تصحبه الفوضى وانعدام الأمان فربط بين الظلام وبين العدم والموت والفوضى وخاصة بعد تأكده أن غياب الشمس والضياء يعني بدء دورة جديدة للحياة فربط الظلام بالشر والضياء بالخير لذا يُلاحظ أن أغلب عبادات الشعوب القديمة شمسية تمثل بالشمس إلهها الأكبر. وهذا يؤكد أن الدين بدأ حسيا فقد عبد الإنسان أولا الشمس والقمر والحجر والشجر. لكنه لاحظ أن الضياء لايدوم ويلحقه الظلام الموحش المخيف

ومن هنا افترض أن الحالة الأولى للكون كانت تسيطر عليها قوى الشر (الظلام، العدم، الموت، الفوضى) وبعدها ظهرت في الوجود قوى الخير (الضياء، الوجود، النظام).

ومع تناوب فصول السنة وما يستتبعه ذلك من موت وجفاف وعودة للنمو والخصب بالتناوب فقد افترض العقل البشري وهو يرتقي درجة أخرى على سُلمه التطوري أن هناك صراعا قائما بين قوتي الخير والشر فقام يشمر السواعد مساعدا قوى الخير بزيادة الجهد المثمر في الأرض والتقرب إليها بأبكار ثماره وماشيته مع طقوس وعبادات خاشعة بينما اتجه نحو قوى الشر متزلفا بوسائل السحر اتقاء لشرها وإبعادا لغضبها.

2- إله الشر الأسطوري:

وهذه المعاني نجدها غالبة في أساطير الشعوب الزراعية القديمة في الشرق الأوسط. ففي حضارة وادي الرافدين القديمة يترجم «د. أنيس فريحة» ملحمة Enuma Elish- هناك ترجمات أخرى متعددة- التي تحكي أن «تيامت Tiamat» رمز القوى العمياء الشريرة في الوجود كانت هي البحر الأول المظلم في الوجود- ولم يزل اسمها علما على السهل الحجازي تهامة- حتى جاء النور ممثلا في «مردوك Marduk» رب الضياء فدخل معها صراعا عنيفا انتهى بالقضاء عليها ومن ثم فرغ لتنظيم السموات والأرض بعد أن باركها لتكثر خيراتها."1".

والأمر نفسه نجده في مصر القديمة- كانت مصر ولم تزل هبة النيل- نجد «أوزيريس Osiris» إلها للنيل والخير والخضرة والنماء بينما كان «ست Seth» إله القفار والصحراء وكان أيضا زعيم الأشرار يحاول دائما إحباط أعمال أخيه النافعة الخيرة. في كنعان (فلسطين والأردن وسوريا ولبنان) إن الأصل كان غمرا مظلما مسيطرا هو «يم» يفرض السكون والفوضى على الوجود حتى ظهر الإله «بعل» فقضى على «يم» من أجل تثبيت النظام والخير في الأرض لكن أتباع «يم» قاموا يحاربون البعل بقيادة الإله الشرير «موت» من أجل أن يستعيد الموت والسكون سيادة الدنيا. فتصدى لهم البعل مرة أخرى لكن ليدخل مع «موت» هذه المرة في صراع أبدي ويتناوبان الهزيمة والنصر فمرة ترجح كفة «بعل» فيكسب الجولة فتسود الدنيا الخيرات نماء وخصبا ومرة ترجح كفة «موت» فيغشى الأرض سكون الموت وفوضى الجفاف."2".

ولنا أن نرى في هذه الأسطورة خطوة ارتقائية أخرى للعقل البشري سوغت له تفسير التناوب الفصلي لشهور السنة وما يستتبعه من تأثيرات على الأرض إن خصبا أو جدبا وما زالت اللغات السامية ومنها العربية تستعمل اسم الإله «موت» للدلالة على حالة السكون أو الموت كبقايا أثرية أو حفريات لغوية لتدلل على المراحل التطورية التي مرت بها العقلية البشرية ارتقائيا.

3- الشيطان الفارسي:

الضياء أحب إلى النفس واقرب إلى الروح وهو باعث البهجة والفرح والسرور ولذلك لم يستسغ العقل البشري الاستمرار في الاعتقاد بأن أصل الوجود هو الشر والظلام فأراد أن يعطي إله النور والخير أولوية الوجود وفي الوقت نفسه يسوغ بطريقة ما وجود إله الشر.

وأول هذه المحاولات التي قاربت بعدا فلسفيا قد جاءت في عقيدة «كيرمرث» الفارسية.

ويلخص لنا «د. علي النشار» عقيدة «كيرمرث» فيقول: «إن أول الموجودات كان إله النور والخير «هرمز» ففكر في ذاته متسائلًا: لو كان لي منازع كيف يكون؟ وبمجرد أن طرأت هذه الفكرة على خاطره حتى وجد هذا المنازع فعلا، فظهر الظلام بعد أن كانت الدنيا دائمة الضياء، نتيجة مجيء إله الشر «أهرمان» إلى الوجود، فقام إله الخير «هرمز» بخلق كل الملائكة والبشر ليساعده ضد غريمه «أهرمان»، لكن «أهرمان» قام بخلق كل الكائنات الضارة، وأخذ يؤثر بأتباعه الأشرار على البشر لينضموا إليه، وهكذا بدأ الصراع بين إله الخير أو النور، وبين إله الشر أو الظلام.»"3".

ومن الجدير بالذكر الإشارة إلى اعتقاد قدماء الفرس في إله نور وخير قبل «هرمز» اشتهر باسم «ميثهرا» وهو إله زراعي أي إله خصب ونماء وضياء."4".

ويؤكد الباحث «عصام ناصف» أنه كان يُحتفل بعيد ميلاده في ٢٥ كانون أول أي بالضبط عندما تبدأ الشمس قوة دورتها الجديدة، فهو إله الضياء أو الشمس."5".

وقد عبد الهنود بدورهم هذا الإله واعتقد عُبَّاده أنه يدخل سنويا في معركة مع آلهة الموت والظلام وأنه كان يتعرض في هذه المعركة للأسر ثم الاستشهاد موتا على الصليب فيصيب الأرض الجفاف ويتوقف النسل لكنه يقوم من الموت في الحادي والعشرين من شهر آزار عند المنقلب الربيعي فتعود بقيامته المجيدة الحياة للأرض خيرا ونماء.

ويشير «عباس العقاد» إلى طقوس من ديانة «ميثهرا» نجد فيها شبها كبيرا بما في المسيحية ولك أن تلاحظ أن احتفال المسيحية بعيد ميلاد إلهها الشهيد «يسوع المسيح» في "25" كانون أول وهو موعد ميلاد «ميثهرا» نفسه، وأن احتفالها بعيد قيامته المجيد يوم (20) آذار، هو بدوره نفس موعد قيامة «ميثهرا» المجيدة."6".

ويقول «عصام ناصف»: «وقد اقتبست المسيحية بعض ما في المثروية، ومن ذلك مفتاح دار النعيم ومفتاح الجحيم، وتيجان الأساقفة وأحذيتهم الحمراء، ولقب بابا، وكان يلقب به كبير كهنة «ميثهرا»»."7".

ومن الطريف أن أتباع «ميثهرا» اتهموا المسيحيين الأوائل باقتفاء أثرهم واقتباس عقائدهم منهم إلا أن الأطرف فعلا هو أن الآباء الأوائل … عندما جابهوا هذه المشكلة لم يخطر ببالهم سُنة العقل البشري التطورية وما تستتبعه جدلية التطور من تأثير العقائد في بعضها فعللوا المسألة بأن الشيطان بدأ محاربة الإيمان المسيحي من قديم الزمان فجعل ديانة «ميثهرا» تسبق المسيحية في الظهور وتتصف في مجمل طقوسها وفي الأحداث التي جرت لبطلها المعبود بما جاء فيما بعد في المسيحية."8".

يتبع.

***

سليم جواد الفهد

...............

1- د. أنيس فريحة، ملاحم وأساطير من الأدب السامي، دار النهار، بيروت، ط٢، ١٩٧٩م، ص٩٢–١٠٦.

2- فراس السواح، مغامرة العقل الأولى، دار الكلمة، بيروت، ١٩٨٠م، بدءا من ص٢٧٢.

3- د. علي سامي النشار: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، دار المعارف، مصر، ط٧، ١٩٧٧م، ج١، ص١٩٠.

4- د. أنيس فريحة، دراسات في التاريخ، دار النهار، بيروت، ١٩٨٠م، ص٢١.

5- عصام الدين حفني ناصف: المسيح في مفهوم معاصر، دار الطليعة، بيروت، ط١، ١٩٧٩م، ص٦٤–٦٦.

6- عباس محمود العقاد، الله، كتاب الهلال عدد ٤٢، القاهرة، سبتمبر ٥٤، ص١١١، ١١٢.

7- عصام الدين حفني ناصف: المسيح في مفهوم معاصر، دار الطليعة، بيروت، ط١، ١٩٧٩م، ص١٣٧.

8- الأسطورة والتراث، سيد القمني.

في المثقف اليوم