دراسات وبحوث

تطور فكرة الشيطان في الأديان (3)

الشيطان في الديانة اليهودية

هذا الجزء هو تتميم للجزء الثاني الذي اعتنى بشرح أقسام التوراة وتبيين أسفارها.

في كتابه "إبليس" يقول العقاد: "إن اسم “يهودية” لا يصدق عليها لأن النسبة إلى يهوذا حدثت بعد موسى، ولا يصدق عليها اسم “موسوية” أيضا لأن موسى قام بالدعوة بعد يعقوب وإسحاق وابراهيم، كما لا يصدق عليها اسم “إسرائيلية” لأنها تنسب إلى إسرائيل، وهو يعقوب بن إسحاق، وكان جد هؤلاء جميعا ابراهيم، الذي يلقب في بعض كتب العهد القديم بـ”العبري”."1".

عبء التوسع في الوثنيات:

"العبرية في نشأتها الأولى، غير ديانة التوراة كما تلقاها المسيحيون الأوائل، وكما انتهت إلى ما وردت عليه في القرآن. هذه الديانة حملت عبء التوسع في الوثنيات الأولى وعقائد التوحيد لوقت طويل، ولم تستقم على عقيدة الإله الواحد المنزه من الوثنية، إلا حوالي القرن الثاني قبل الميلاد."2".

العبرية في هذه المرحلة تأثرت بحضارات وادي الرافدين فغلبت هذه عليها إذ استمرت فكرة السيادة في عبادة الإله على فكرة الخلق فلم ينكر العبريون وجود الآلهة التي تدين بها العشائر الأخرى إنما أنكروا فقط سيادتها ودانوا بالولاء للإله “يهوه”.

ويتضح من مقارنات الأديان أن العقيدة الدينية تعزل قوة الشر وتحصرها في «الشخصية الشيطانية» كلما تقدمت في تنزيه الإله واستنكرت أن يصدر منه الشر الذي يصدر من الشيطان.

ولهذا لم يشعر العبريون الأوائل بما يدعوهم إلى عزل الشيطان أو إسناد الشرور إليه لأنهم كانوا يتوقعون من الإله أعمالا كأعمال الشيطان وكان العمل الواحد عندهم ينسب تارة إلى الشيطان وتارة إلى الإله كما حدث في قضية إحصاء الشعب على عهد داود فإنه في المرة التي ورد فيها اسم الشيطان بصيغة العلم قيل إنه هو الذي أغرى داود بإحصاء الشعب كما جاء في "الإصحاح الحادي والعشرين من سفر الأيام الأول".

ولكن الرواة يروون هذه القصة بعينها في "سفر صمويل الثاني" فيقولون: إنه «حمي غضب الرب على إسرائيل فأهاج عليهم داود قائلًا: امض وأَحْصِ إسرائيل ويهوذا»

وفي التوراة لم يكن الشيطان هو الذي أغوى حواء بالأكل من الشجرة المحرمة بل كانت الحية هي صاحبة الغواية جريا على سنن الأقدمين الذين كانوا يوحدون بين الضرر الحسي وبين الخطيئة الأخلاقية وقبل أن تصبح الحية مجرد رمز إلى الشيطان تُلاحظ فيه المشابهة بين نفث السم ونفث الشر على أسلوب المجاز.

ولم يذكر الشيطان قط في سفر من أسفار التوراة قبل عصر المنفى إلى أرض بابل سنة (٥٨٦ قبل الميلاد) ثم كان ذكره فيها على الوصف لا على التسمية فجاء مرة بمعنى الخصم في القضية وجاء مرة أخرى بمعنى المقاوم في الحرب وأطلق مرة على الملك الذي تصدى لبلعام في طريقه لأنه كان بمعنى المعترض أو الضد أو الخصم المقاوم ولم يذكر بصيغة العلم إلا حيث قيل في "الإصحاح الحادي والعشرين من سفر الأيام": إنه «وقف الشيطان ضد إسرائيل».

وقد كانت قرابين الكفارة تقسم على التساوي بين الإله وبين "عزازيل" رب القفار أو الجني الذي يهيمن على الصحراء وكان إيمانهم بوجود الأرباب الأخرى التي يعبدها غيرهم من الأمم بديلًا من صور الشياطين لأنها كانت تعمل عمل الشيطان كلما صرفت الشعب عن عبادة «يهوه» إلى عبادة غيرها تثير النقمة على العصاة وإنما تأتي النقمة إذن من «يهوه» ولم تأت قط من أولئك الأرباب الأجنبيين البدلاء من الشياطين.

"وقد تمثل الشيطان في صورة الواشي الموغر للصدور في قصة أيوب ولم يكن منعزلًا عن الملائكة، بل دخل معهم إلى الحضرة الإلهية، وجرى سياق القصة على النحو الآتي كما جاء في الإصحاح الأول من سفر أيوب: «وكان ذات يوم أنه جاء بنو الله ليمثلوا أمام الرب، وجاء الشيطان أيضًا في وسطهم، فقال الرب للشيطان: من أين جئت؟ فأجاب الشيطانُ الربَّ وقال: من الجَوَلان في الأرض ومن التمشِّي فيها، فقال الرب للشيطان: هل جعلت قلبك على عبدي أيوب؟ إنه ليس مثله في الأرض رجل كامل ومستقيم يتقي الله ويحيد عن الشر، فأجاب الشيطانُ الربَّ وقال: هل مجانًا يتقي أيوبُ اللهَ؟ أليس أنك حميته بحياطتك إياه، وحياطة بيته وكل ما يملك من ناحية؟ … باركت أعمال يديه فانتشرت مواشيه في الأرض …»

ثم تبتدئ المحنة بتسليط الشيطان على أيوب لامتحان تقواه وصبره على ضربات المرض، والبلاء، والفقر، والحرمان"."3".

وكان الرهان بين الله والشيطان على صبر إيوب ولما أتم إيوب صبره خسر الشيطان الرهان.

 تأخر تفصيل الحديث في التوراة عن“الشيطان”:

تأخر المصادر التي فصلت الحديث عن الشيطان يدل على تأخر العبريين في بلورة هذه الفكرة. ففي الروايات التلمودية المتأخرة فقط سيبدأ التفصيل في العداوة الشيطانية للإنسان وأثر هذه العداوة في خروج آدم من النعيم.

هكذا قفزت التوراة فلم تعد الحية هي التي وسوست لآدم إنما “مشطيم” اسم الفاعل من “شط” في اللغة العبرية الذي يقابل فعل “شيطن” في اللغة العربية.

يشير العقاد الذي أخذ في هذا الصدد عن كتاب "الشيطان": "لمؤلفه إدوارد لانغتون، إلى أن كتاب أخنوخ، يحتوي في هذا العصر على حديث عن الملائكة الهابطين بقيادة كبيرهم المطرود من رحمة الإله؛ ويقول أيضا إن الموت نزل على الدنيا من جراء حسد الشيطان.

ومع ذلك، فإن الشيطان بخلائقه التي تنافر الأخلاق العليا، إنما كانت تزداد فكرته وتتمكن، كلما استعار العبريون شعائرهم ومأثوراتهم من أبناء الحضارات الكبرى، فأنبياؤهم الذين أكدوا لهم عقيدة التوحيد والتنزيه، لم يجدوا لهم سميعا قبل القرون الثلاثة الأخيرة التي سبقت المسيحية.

هكذا، لم يكن تمييز الشيطان، بخلائقه المنافرة للخير، “عقيدة رسمية” يقرها الرؤساء المسؤولون، وفق العقاد، لكنه كان من قبيل التراث المحفوظ الذي قد تعرف مصادره حينا، أو الذي نقل من مصادر غير معلومة أحيانا أخرى."4".

من أين أتى إبليس في الأصل؟

يعطينا سفر "إشعياء الإصحاح الرابع عشر وسفر حزقيال الإصحاح الثامن والعشرين" صورة لوجود الشيطان في البداية كما خلقه الله في الأصل وتمرده وسقوطه. وكما نعلم أن الله لم يخلق الشيطان بالشكل الذي هو عليه اليوم لأن كل ما خلقه الله في البدء كان حسنًا (تكوين 1: 10 و12 و18 و21 و25؛  يعقوب 1: 17).

يصف الكتاب إبليس في سفر حزقيال 28 قبل سقوطه وطرده من السماء.

حزقيال 28: 12- 16.

1- هَذَا مَا يُعْلِنُهُ السَّيِّدُ الرَّبُّ: كُنْتَ خَاتِمَ الْكَمَالِ، مُفْعَمًا بِالْحِكْمَةِ وَكَامِلَ الْجَمَالِ.

2- كُنْتَ فِي جَنَّةِ اللهِ عَدْنٍ، حِجَابُكَ كُلُّ حَجَرٍ كَرِيمٍ… أَنْشَأُوا فِيكَ صَنْعَةَ صِيغَةِ (مزمار) الفُصُوصِ وَتَرْصِيعِهَا يَوْمَ خُلِقْتَ. 3-وَمَسَحْتُكَ لِتَكُونَ الْكَرُوبِيمَ الْمُظَلِّلَ وَأَقَمْتُكَ عَلَى جَبَلِ اللهِ الْمُقَدَّسِ، وَتَمَشَّيْتَ بَيْنَ حِجَارَةِ النَّارِ.

4- كُنْتَ كَامِلاً فِي طُرُقِكَ مُنْذُ يَوْمَ خُلِقْتَ إِلَى أَنْ وُجِدَ فِيكَ إِثْمٌ.

5- إِنَّمَا بِسَبَبِ كَثْرَةِ تِجَارَتِكَ امْتَلأَ دَاخِلُكَ ظُلْمًا، فَأَخْطَأْتَ. لِهَذَا أَطْرَحُكَ مِنْ جَبَلِ اللهِ كَشَيْءٍ نَجِسٍ، وَأُبِيدُكَ أَيُّهَا الْكَرُوبُ الْمُظَلِّلُ مِنْ بَيْنِ حِجَارَةِ النَّارِ.

يصف الكتاب الشيطان في هذا المقطع ككائن مخلوق وكروب ممسوح وليس ككائن بشرى: “كُنْتَ كَامِلاً فِي طُرُقِكَ مُنْذُ يَوْمَ خُلِقْتَ إِلَى أَنْ وُجِدَ فِيكَ إِثْمٌ” (ع 15).

لم يخلق الله الشيطان بالوضع الذي نعرفه اليوم. فبعدما سقط هذا الكروب الممسوح وطُرد من السماء أصبح الشيطان، لكنه لم يُخلق بهذا الوضع. فقد خلقه الله كاملاً في كل طرقه (حزقيال 28: 15)، مفعمًا بالحكمة وكامل الجمال (ع 12). يخبرنا الكتاب أيضًا أن هذا الكروب كان “عَلَى جَبَلِ اللهِ الْمُقَدَّسِ” (ع 14). لهذا نعلم أنه كان يتمتع بحق الاقتراب من الله.

يخبرنا سفر حزقيال 28: 13. شيئًا ملفتًا للنظر عن هذا الكروب الممسوح كما خُلق في الأصل: “… أَنْشَأُوا فِيكَ صَنْعَةَ صِيغَةِ (مزمار) الفُصُوصِ وَتَرْصِيعِهَا يَوْمَ خُلِقْتَ”.

يتضح إذًا أن هذا الكروب كان على علاقة بالموسيقى. ربما كان قائد العازفين في السماء قبل طرده وسقوطه منها. ألا تلاحظ كيف تلعب الموسيقى دورًا في قصد وخطة الله كما في قصد إبليس أيضًا؟ سوف يساعدك النوع الصحيح من الموسيقى في أن يهيئك لتخضع لروح الله، بينما النوع الخاطئ سوف يقودك لتخضع لروح الشيطان. فإبليس يعمل من خلال الجسد والنفس الغير مجددة بينما الله يعمل من خلال روحك بمساعدة الروح القدس. يذكر الكتاب أنه قد وُجِد شرٌ في هذا الكروب الممسوح (حزقيال 28: 15)، ترى ماذا كانت خطيئته؟

حزقيال 28: 17 و18.

6- قَدِ ارْتَفَعَ قَلْبُكَ لِبَهْجَتِكَ (لجمالك). أَفْسَدْتَ حِكْمَتَكَ لأَجْلِ بَهَائِكَ…

7- قَدْ نَجَّسْتَ مَقَادِسَكَ بِكَثْرَةِ آثَامِكَ…

لقد ارتفع هذا الكروب الممسوح تكبرًا نتيجة جماله العظيم. وبسبب كبريائه أراد أن يصير مثل الله ويصعد إلى السماء فيغتصب سلطان الله. لذلك يتكلم الكتاب عن خطية هذا الكروب في سفر إشعياء الإصحاح الرابع عشر حيث يخبرنا الله أن مقاصد هذا الكروب الشريرة قد استندت على تصريحاته الخمسة عن نفسه.إشعياء 14: 13 و14.

الخلاصة:

إن الديانة اليهودية حملت أعباء التوسط بين الديانات الوثنية وديانات التوحيد الكتابية لكنه توحيد ناقص ومشوش حيث "يهوه" إله اليهود فقط وهم شعبه المختار وباقي الخلق "غوييم" أي غرباء ولايستحقون حقوقا كاليهود بل هم خدم حقراء عند اليهود.

أما فكرة الشيطان في عقائدهم هي فكرة غائمة ومرتبكة ففي أقدم العهود لم يكن عند العبريين فارق بين خلائق الكائنات العلوية وخلائق الكائنات الأرضية من إنسانية وحيوانية ولم يكن عندهم كذلك فارق بين هذه الخلائق وخلائق الشيطان.

فكان الشيطان يحضر بين يدي الله مع الملائكة وكان الملائكة يهبطون إلى الأرض فيعاشرون بنات الناس وكان "الإله" نفسه يمشي في ظل الحديقة ويأكل اللحم والخبز ويحب ريح الشواء ويغار ويحقد وينتقم كما يفعل كل مخلوق من مخلوقاته في الأرض أو في السماء.

يتبع.

***

سليم جواد الفهد

...................................

1- العقاد، إبليس، ص83.

2- نفس المصدر، ص84.

3- نفس المصدر، ص85.

4- نفس المصدر، ص88

 

 

في المثقف اليوم