دراسات وبحوث

تطور فكرة الشيطان في الأديان (4)

الشيطان في الديانة المسيحية

في الجزء الأول من هذه الدراسة وقفنا على مفهوم “الشيطان” عند الإنسان البدائي أي قبل ظهور الديانات الكتابية. ثم تعرفنا في الجزء الثاني على محتوى أول كتاب سماوي مدعى وهو التوراة وفي الجزء الثالث فحصنا فكرة الشيطان في الديانة اليهودية أو العبرية كما يسميها العقاد. وخلصنا الى أن فكرة الشيطان في عقائدهم هي فكرة غائمة ومرتبكة ففي أقدم العهود لم يكن عند العبريين فارق بين خلائق الكائنات العلوية وخلائق الكائنات الأرضية من إنسانية وحيوانية ولم يكن عندهم كذلك فارق بين هذه الخلائق وخلائق الشيطان تأثرا بأساطير وادي الرافدين. كذلك لم يستطع كتاب التوراة أن يفرقوا بصورة فلسفية بين تأثير المادي (الضرر) وبين تأثير الروحي (الشر) حيث كانا مترادفين في الديانة اليهودية. لكن مع مجيء المسيحية تشكلت لحظة فارقة في التفريق بينهما.

في المسيحية نجد الفرق بين الضرر الذي هو نقيض السلامة والأمان والمنفعة والشر الذي هو نقيض الخير والفضيلة والصلاح. على هذا الأساس فإن المسيحية هي التي فرقت بين مثال الضرر في (الحية) ومثال الشر في الروح الخبيثة الشيطان الذي ينفث سمومه في القلب ولا يضر الإنسان إلا إذا لمس أشرف خصاله.

وهذا يشكل فارق كبير في فهم رسالة المسيحية حيث هي التي بشرت بملكوت الله واعتبرت أن كل تعظيم لسيادة الشيطان إنما يدخل في نطاق تحقير العالم الذي يسوده مقابل تقديس الملكوت الإلهي الذي يرجوه المساكين.

هذا الفارق في الفهم جاء في جانب الإنسان المغلوب المسكين إذ لم يُوصف الشيطان بأنه سيد على العالم تعظيما له لكن تحقيرا من شأن هذا العالم ومطامعه وشهواته هذه الفكرة التي سنجدها في الإسلام تحت عنوان (هوان الدنيا على الله). ومن ثم فإن حرية الإنسان الحقيقية أساسا هي هدم سيادة الشيطان وسلطانه من خلال الترفع عن الشهوات والتغلب على الخطيئة لكي يحيى الإنسان سعيدا أبدا في ملكوت الرب.

الشيطان في العهد الجديد:

المرجع الأكبر للمسيحية هو “العهد الجديد” الذي تتفق الكنائس في اعتماده بخصوص العقائد الجوهرية.

و“العهد الجديد” ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

أولها: الأناجيل الأربعة (متى -مرقس-لوقا-يوحنا).

وثانيها: أقوال الرسل.

وثالثها: أقوال الصحابة والرواة المتصلين بالرسل.

ترد أول إشارة إلى تسمية الحية بالشيطان في (الإصحاح 12 من أعمال الرسل): “التنين العظيم، الحية القديمة، المدعو إبليس والشيطان الذي يضل العالم…”.

حددت هذه المراجع دور الشيطان حيث صار كل صنيع يوصف بالشر من عمله وكل خطيئة أو غواية أو ضلالة تنسب إليه.

ورد في رسالة يوحنا الأولى: “من يفعل الخطيئة فهو إبليس، لأن إبليس من البدء يخطئ، ولأجل هذا ظهر ابن الله لكي ينقض أعمال إبليس”.

"وقد ورد الشيطان بأسماء متعددة فيما روته الأناجيل من أقوال المسيح أو أقوال المتحدثين عنه فذكر باسم الشيطان واسم “روح الضعف”، واسم الشرير، واسم رئيس هذا العالم، واسم “بعل زبول”، وقيل عن “بعل زبول” هذا، إنه رئيس الشياطين"."1".

وفي الأناجيل عدة أخبار لمجانين شافاهم المسيح إذ تؤكد أنهم صرعى الشياطين. من هذه الأخبار ما ورد في (الإصحاح 13 من إنجيل لوقا) عن امرأة مصابة قيل إنه “كان بها روح ضعف ثماني عشرة سنة، وكانت منحنية ولم تقدر أن تنتصب البتة، فلما رآها يسوع دعاها وقال لها: يا امرأة! إنك محلولة من ضعفك…”.

هكذا صار دور الشيطان في المسيحية وتقرر سلطانه على الشر وعلى العالم الأرضي في مقابل العالم الإلهي في السماء. من هنا صار كل صنيع يوصف بالشر من عمل الشيطان.

"وأصرح من ذلك الإشارة إلى سلطان إبليس على العالم قصة التجارب التي امْتُحِنَ بها السيد المسيح في البرية، وكان إبليس هو الذي يجربه ويحاول إغواءه بما يملكه من العروض والمغريات، ويستوفي إنجيل لوقا هذه القصة إذ يقول: «إن يسوع رجع من الأردن ممتلئًا من الروح القدس، وكان يُقَاد بالروح في البرية أربعين يومًا يجربه إبليس، ولم يأكل شيئًا في تلك الأيام فلما تمت جاع أخيرًا، وقال له إبليس: إن كنت ابن الله فَقُلْ لهذا الحجر أن يصير خبزًا، فأجابه يسوع قائلًا: مكتوب أن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة من الله. ثم أصعده إبليس إلى جبل عالٍ وأراه جميع ممالك المسكونة في لحظة من الزمان، وقال له إبليس: لك أعطي هذا السلطان كله ومجده؛ لأنه إليَّ قد دُفِع، وأنا أعطيه لِمَنْ أريد، فإن سجدت أمامي يكون لك الجميع، فأجابه يسوع وقال: اذهب يا شيطان! إنه مكتوب للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد"."2".

وتعطي المسيحية للشيطان قدرات جبارة تصل به إلى حد تحدي إلهه والثورة عليه ومحاولة صرف عباده عنه بغوايتهم. بل وصل به المدى حدا حاول معه إغواء إلهه ذاته وتشهد له الأناجيل بهذا المعنى بالسيادة ففي رسالة "بولس إلى أفسس" أن الشيطان: «رئيس سلطان الهواء الروح الذي يعمل الآن في أبناء المعصية». وفي "الإصحاح ١٤" من رسالة «بولس» إلى أفسس: «سلاطين وولاة العالم على الدهر مع أجناد الشر الروحية في السموات». وفي "رسالته إلى أهل كورنثوس" يصف بولس الرسول الشيطان وأتباعه بأنهم «رؤساء هذا العالم» بل ويؤكد المسيح ملائكية إبليس وعلاقته بالموت والعالم السفلي حيث النار والجحيم في الهاوية بقوله في "الإصحاح ٢٥ من إنجيل متى": «اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته».

الشيطان والحية:

بين الشر والضرر تلازم منطقي عقلي لكن الفارق الدقيق بينهما أن الشر ماهيته لا تتغير فهو شر ولا يخرج منه الخير بطبيعته الذاتية وبتعبير فلسفي هذه هي هويته النهائية. لكن الضرر قد يكون وقتي وما يضر من جهة ينفع من جهة أخرى حتى قال الشاعر: مصائب قوم عند قوم فوائد.  هنا يجب عقلا أن يفهم الإنسان أن الحية ليست شريرة بالطبع وإن كانت ضارة بل الشيطان هو الذي استغل الحية في غواية آدم وحواء. من هنا تبلورت عند الإنسان فكرة (القصد في الشر) حيث شكلت فارقا واسعا بين لدغة الحية غير المقصودة في الشر ودسيسة الشهوة والعصيان الشيطانية المقصودة في ضر الإنسان وإيقاعه في الخطيئة.

لكن المسيحيين الأوائل قد استرسلوا في حديث الحية لكونهم قد وجدوا فيها أصلح صورة لتمثل الشيطان في الحس لكنهم بالغوا في تشويهها وتعظيم ضررها فقد أصبحت لديهم تنينا لا يشابه الحية المعهودة له رأسان وأرجل وأجنحة وفم ينفث النار.

وفي اللوحات التشكيلية عن الشيطان والتي صورت بعد انتشار المسيحية واشتداد عودها صور الفنانون الشيطان تنينا ثم تطور الأمر إلى شيطان تنين لكن برأس إنسان ذي قرنين.

لكن الملاحظ أنه كلما ترقت مدارك الإنسان في وصف طبيعة الشيطان غابت ملامح الحية والتنين وحلت مكانها ملامح إنسان خبيث الطلعة قبيح الصورة لتكتمل دلائل الشر التي تغني عن استعارة الشر من الحيوانات ولا زلنا نصف من نريد الإساءة إلية بالقول: كأن وجهه وجه شيطان مع إن أحدا منا لم ير الشيطان يقينا.

"ثم بين القرنين الرابع والخامس للميلاد نجد القديس أوغسطين يقول إن الشيطان خلق للخير ولكنه أشقى نفسه بحسده وكبريائه فأنزله الله من سماء الأثير الصافي إلى هواء الأرض الكثيف"."3".

الخلاصة:

يتضح من دراسة المراحل التاريخية العقائدية التالية:

1- في رحلته الطويلة ترقى العقل الإنساني من فكرة الضرر الى فكرة الشر ومن تعدد الآلهة إلى التوحيد وفي هذا الترقي انتهى إلى القول بإله واحد موصوف بكل صفات الكمال ولا يصدر عنه إلا الخير لكنه واجه مشكلة أصل الشر فما هو أصل الشر؟ ولابد من جواب يحفظ واحدية الله وخيريته حتى يقر عينا.

2- حفاظا على واحدية الله تم إلغاء فكرة إله للشر-حتى لا يقع في الشرك-وحفاظا على خيريته أوجد كائن من مخلوقات الله وجعله هو سبب الشر الذي أصبح اسمه «إبليس» أو «الشيطان» وبذلك حلت المشكلة.

ومن ثم تركت المسيحية للشيطان مساحة واسعة في عقائدها فلا تكاد تجد سفرا إنجيليا يخلو من ذكر إبليس مصحوبا بكل أنواع اللعنات وحفاظا على وحدانية الله لم يعد إبليس إلها للشر بل مخلوقا من مخلوقات الله تمرد على خالقه فكان سببا لبلاء البشرية وآلامها فهو أصل الخطيئة وسببها وهو الذي أغوى آدم بالأكل من القوت المحرم والمعرفة المحرمة في الجنة فارتكب خطيئته الأولى.

3- لحل مشكلة إبليس والحية ولأن ذلك يتعارض مع النص التوراتي القائل بأن الحية هي التي أوعزت لحواء لتأكل من الشجرة فإن المسيحية أكدت أن هذه الحية لم تكن سوى إبليس متنكرا! أو ربما خدعها إبليس فحملته في فمها فتحدث إلى حواء من خلالها).

الى هذا الحد أصبحت المسرحية الكونية أكثر اتساق ومعقولية لكنها معقولية يشوبها النقص والثغرات التي سوف نتعرف عليها في فصلها الإسلامي الأخير.

يتبع.

***

سليم جواد الفهد

...............................

1- العقاد، إبليس، ص 92.

2- نفس المصدر، ص144.

3- القمني، الأسطورة والتراث، ص87.

 

في المثقف اليوم