دراسات وبحوث

مفهوم الجهاد الخاطىء عند فقهاء التفسير

عندما يتحكم الدين بالسياسة تفقد الدولة مشروعها السياسي الذي يحكم دولة المواطن بكاملها. هذا حصل بعد وفاة الرسول (ص) سنة 11 للهجرة حين تحولت العقيدة الى سياسة، فماتت حقوق الناس عند اصحاب المصالح السياسية الذين استولوا على السلطة دون حكم القانون (عهد الخلافة الاولى نموذجاً) وبعدها تحولت الدولة الى سلطة الدين في العهدين الاموي والعباسي فماتت الحقوق جميعا وظلت الدولة بلا دستور ولا قانون ولا محاسبة للمقصرين طيلة 645 سنة يحكمها التفسير الاحادي للنص الديني. كما نحن اليوم.

وحين البحث في نصوص الجهاد الاسلامي لم نقرأ سوى عمليات تزوير النص وابعاده عن مقاصده التشريعية. حتى أصبح مجرد خلافة وسلطة وسيف للمعترضين ابتداءً من حروب الردة وحتى سقوط بغداد عاصمة الخلافة سنة 656 للهجرة. فبقيت الخلافة اسم بلا مسمى، وبلا تنظيمات ادارية ولا دستورية ولا قانونية، ولا حسيب ولا رقيب، سوى رأي السلطة وفتاوى اللامعقول. حتى تدهورت مؤسسات الدولة من الداخل، حتى السقوط.

ليس من حق احد ان يقرأ النص الديني على هواه. فقيهاً كان او مؤرخا ً. فالنص القرآني ثابت ولغته العربية واضحة وان لم تعد اللغة مستكملة لتجريداتها اللغوية وقت نزول النص. وهذا دليل قطعي على امتناع الرسول (ص) من تأويل النص خشية ان يقع في المحذور، فان لم يُقرأ النص الديني قراءة معاصرة من قبل المفسرين بتفسير واحد متفق عليه، منطلقين من خصائص اللسان العربي والفلسفة المعرفية للتطورالزمني ليس من حقهم التفسيروجعله الزاميا للمسلمين. لذا من يقدم على التفسير عليه ان يكون مستوعبا. للعمود الفقري للعقيدة الاسلامية القائم على نظرية التطور حيث تكمن عقيدة التوحيد وقوانين التغيير. يقول الحق:" قل سيروا في الأرض فأنظروا كيف بدأ الخلق، العنكبوت 20". أي كيف بدأ وكيف يتطور عبر الزمن.

من هنا نحن بحاجة الى منهج جديد في اصول التشريع قائم على البينات المادية واجماع الاكثرية من العلماء، لاحلال حرية التعبيرعن الرأي وحرية الأختيارفي التفسير، وهي في مقدمة الاسس لبناء الحياة الانسانية وليس التفسير الفقهي السقيم. وهذا التوجه مفقود اليوم بين غالبية مفسري النصوص الاسلامية لأختلاف مذاهب المفسرين في التفسير. حتى اصبحنا خارج معنى النص في التطبيق. فضعنا بين المعرفة والتجهيل.

ولولا ان النص الديني ينبع من عين صافية لا عشوة فيها ولاظلام لأنتهى من زمن بعيد، لان الفلسفة العربية لا تملك جدةً ولا ابتكاراً. فلم تستطع مقاومة حركة تزوير النص ومعانيه. عبر الزمن الطويل.

فعهد الخلافة الأولى كان حكم اللزمة بالتتابع والاتفاق خارج الشورى وليس خلافة راشدين، وعهد الامويين جاء بقوة السيف والحكم العضوض، وحكم العباسيين بنظرية التفويض الآلهي الوهمية"يقول الخليفة المنصور: " أنا سلطان الله في أرضه أسوسكم بتوفيقة وتسديدة أطيعوني ما أطعتم الله". فتحولت الخلامة الى خلافة آلهية لا يجوز معارضتها.

ان عملية التحريف النصي، والاقوال المآثورة للسلف والخلف، كان مقصودا من قبل فقهاء السلطة غير متورعين ولا وجلين من أحكامهم هذه وضلالتهم تلك. وما روجته مؤسسات الدين المختلفة من بعد وفاة الرسول (ص) وحتى سقوط الدولة وحتى اليوم. من اقوال لا صحة لها في التطبيق لأختلاف تفسير النص. لذا نحن اليوم نتعايش ونطبق دين الفقهاء لادين محمد الأمين. بقدسية باطلة زرعها المنهج المدرسي العقيم في افكارنا شكلت لهم حصناً مقدسا لا يجوز أختراقه ومنه يستمدون شرعية حكم النص. وهنا فقد الدين بريقه وتطبيقه.

اذن أين الدولة واين القانون واين الرقابة عليها. خلافة حكمت المجتمع بقوة السيف لا بنصوص القانون، لارقيب عليها ولا حسيب، أتحدى من يعطينا الجواب المضاد بالدليل. الجهاد وقواعده ومتطلباته وشروطه لم نقرئها عندهم ابدا. سوى ما روجه لنا مؤرخي السلطة كالطبري والماوردي والغزالي وفقهاء البويهية والسلاجقة الرافضين لفصل الدين عن السياسة خدمة للسلطة الحاكمة. حتى اصبح النص الديني لا يشكل المعيار الوحيد للسلوك السياسي. فظهرت القوة والعصبية حاجتهم المهمة للاصلاح. وليس حقيقة النص وتطبيقاته الشرعية. وحتى اليوم في دولتنا الخائبة. فهل تريد ممن كلفوا بتدمير الكل أصلاح الجزء هذا مستحيل. لقد فات المعاد علينا واصبحنا بعيدين عن كل جديد.

لقد انتهى الجهاد ونصه يوم سخرت قوته واهدافه لفتح بلاد الاخرين والاستيلاء على اموالهم وسبي نسائهم وجعلها حضايا لهم ايغالا بالمال والسلطة والجنس المباح لهم دون حدود "وما ملكت آيمانهم" نص قرأني بحاجة الى مراجعة وتدقيق. لأن الاسلام ما جاء ليشرع قوانين الاعتداء على اعلراض الاخرين فمالم نعترف بهذا التوجه الخاطىء المعهود اليوم فلم نبنِ دولة. ولم نصنع قانون.

أذن. هل فهم المسلمون الخطأ. أم تقصدوه؟. كلها امور لم يبحثوها في ادبياتهم الفقهية وان عرفوها بعد ان أحاطوا أنفسهم بسور القداسة المزيف. خوفا من ضياع المكاسب اللاشرعية التي انغمسوا فيها، فأصبحوا من الصعب التخلي عنها والى اليوم. هذا النص الألهي الذي سموه جهاداً. هل جاء لتدمير البشر ام لاصلاح المدمر. عليهم ان يجيبوا بصراحة المنطق لا بمفهوم النص الديني الخاطىء كما طبقوه. ساعتها سنرفع عن كاهلنا أزمة التدمير. لندخل مجتمع انسانية الانسان في الاصلاح والبناء والتعمير. ؟؟؟؟

واليوم سوف نناقش الأراء المتشددة التي اخذت من الجهاد ومفهومه الشرعي وسيلة لتحقيق مأربها الشخصية من جهة، وتحقيق مصالح اسيادها الغرباء من جهة اخرى، لنظيفها مشكلة كبرى الى مشاكلنا المستعصية لتزيد في عمق انقساماتنا وضعفنا وتدهورنا نحو هاوية الانحلال والتدهور والسقوط،. فهل فعلا نحن امة مثل الامم ام كذب علينا التاريخ. ؟على المثقفين ومن يدعون الثقافة ان يكونوا واعين لهذا التوجه الخاطىء لا مؤيدين بحجة الدين. وكأن عهد الخلافة قد عادت الينا مرة اخرى بثوب مغاير رغم البعد التشابهي في الحدث والزمن البعيد.. فراحت تخلط بين الجهاد الحقيقي الشرعي وبين القتال والقتل، وبين الحرب والغزو والتخريب بسبب جهلها لتأويل آيات الجهاد التي جاءت في القرآن. دون تأويل.

هنا قسموه الى جهادين. جهاد فرض عين (الزامي) وجهاد كفائي مرجعي دون نصٍ مبين لتحقيق المصالح الخاصة كما شرعوه عندنا في العراق ليكونوا به جيشاً عقائديا لهم بديلا عن الجيش النظامي الذي مزقوه خلافا للقانون ليسهل عليهم حكم الدولة باسم الدين.. فالحقوا بنا أفدح الأضرارفي الزمن الحديث. وهنا تقع المشكلة. ؟

وفي هذا المقال المتواضع سنحاول ان نَدخلَ في مفهوم الجهاد ثم نقارن بين فهمهم له وبين الهدف الانساني من تشريعه في الاسلام وسوف يتبين لكم الفرق بعد ان تُحكِموا العقل وتأويل النص، وبين العاطفة الفقهية بما يتوافق والنظرية العقلية لمفهوم الجهاد في الاسلام حصرأ من القرآن الكريم.

مفهوم الجهاد في الاسلام.. مفهوم واحد لا غير.

الجهاد لفةً: هو من جاهد جهاداً، لتحقيق الغاية المقصودة من العدل الالهي بين الناس. ويشمل مجاهدة الاعداء في حالة الاعتداء على الوطن والأنسان والمال، وليس لنشر الدعوة، فالدعوة مباحة لحرية الفكر والاعتقاد ولا غير. يقول الحق:" وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، أنا أعتدنا للظالمين ناراً، الكهف 29" ويقول. لا أكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي. لذا امر الله بمجاهدة النفس اذا انحرفت عن خط الاستقامة. كما في قوله تعالى:"وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين، البقرة 190". أذن ألم يكن فتح بلاد الاخرين يتعارض مع النص الا برضاهم. لذا اعتبر غزوا من الناحية الدينية ؟ فكيف يكون التعاون مع المحتل الأجنبي اليوم لاحتلال الوطن مقبولاً شرعاً من قادة وطن ومرجعيات الدين، ألم يكن هذا ازدواجية في الايما ن بالعقيدة والدين.

فالجهاد ليس مقاتلة الاعداء المعتدين حسب، بل هو كلمة الحق التي تقال بوجه السلطان الظالم وعدم السكوت على ظلمه وتجبره على الناس كماهم اليوم يحكمون بظلم النص كما يعتقدون، بعد ان نصبوا أنفسهم حكاما بالحديد والنارمخترقين كل القيم النصية. متناسين الحقوق والعدالة الاجتماعية من اجل مصالحهم الشخصية ولاغير. ومنعزلين عن الشعب، لا يعرفون عنه الا الاوهام المخملية التي يعيشون بها في خضراء الدمن. اذن اين مفهومهم للنص والدين. ؟لا يهمنا سكوتهم الباطل. بل يهمنا خروجهم عن عقيدة الدين.

الحديث الشريف يقول: (الجهاد هو كلمة حق عند سلطان جائر) فكيف اصبحوا هم السلطان الجائر في الحقوق. ومن يعترض فالسيف له، كما قتلوا العلماء والمفكرين وكل من له موقف معارض من الاحتلال. ألم تكن أزدواجية منهم ؟. بينما جعل الشرع المحافظة على الواجبات الدينية والالتزام بها حقاً وصدقاً جهاداً. ويعتبر جهاد النفس عن الهوى هو من الجهاد الاكبر لانه فيه ردع للنفس الانسانية عن الخطأ والاعوجاج، يقول الرسول(ص): (الجهاد الاكبر هو مجاهدة العبد لهواه).. فهل صدواهوى نفوسهم وأتباعهم عن الخطأ ؟ حتى يحق لهم ان يحكمون وطن شرعا وقانوناً ؟

لقد اعتبرت الشريعة الاسلامية ان سلامة النية وصفاء القلب عن قصد في الرد على ايذاء الخلق وظلمهم من الجهاد حيث قال رسول الله(ص):"افضل الجهاد من اصبح لا يهُم بظلم احد". اي لا يقبل الاعتداء على احد، لان آية الاعتداء في الاسلام حدية (ان الله لا يحب المعتدين)، اي محددة المعنى والوضوح لاتقبل التأويل المختلف عند فقهاء التجهيل. فأين نحن منها اليوم قي ظل حكم الجور والخيانة والفساد والتبعية. وقتل العلماء والمفكرين وكل من في رأسه رأي صحيح ؟.

من هنا فحركة الفتوح لشعوب بعيدة عنا لم تعتدِ علينا مخالف للشرع والنص، لأنه غزوخارجي غير مقبول شرعاً وقانوناً. فكيف أحللناها في مناهجنا التدريسية ليقرئها الطالب خطئأ على انها جهاد ؟ علينا ان نسميها غزوا متعمدا لا فتوح. لأن الدين لا يسمح لنا باجبار الاخرين عليه "لكم دينكم ولي دين" فحياة المسلم كلها جهاد في عبادته لله وعمارته للارض وتزكيته للنفس الانسانية، ودفاعه عن حقوق العامة لكل الناس لعالمية الاسلام. فهل طبقها الحاكمون البارحة و اليوم بعد ان استغلوا الزرع والضرع والبشر لهم دون عامة الناس..

هنا كان الفشل في حركة الغزوالاسلامي الجديد، فالاسلام مرآة صافية عاكسة لكل صفات الاستقامة الانسانية (انظرالموسوعة الجهادية تحت مفهوم الجهاد ). وهذا كله لم يتحقق منه الا العكس. فأي أسلام هذا الذي ندعيه اليوم. ؟انه أسلام الفقهاء الباطل والمرجعيات الصامتة صمت القبور. لا اسلام العقيدة المحمدية الأساس. قليلا من الحياء أمام الرسول(ص).

وبما ان كل مراحل الدعوة في عهده (ص) قامت على عبارة واحدة فقط هي (خلو بيني وبين الناس ) فالمشكلة كانت مجسدة في تحقيق هدف الاية الكريمة (من شاء منكم فليؤمن، ومن شاء فليكفر) والاية (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين سورة يونس اية 99)، ولذلك فأن الاستعباد للناس واجبارهم على اعتناق الاسلام محرم شرعا وقانوناً حين جعل حرية الاختيار والتعبير هما الاساس. في الحياة الأنسانية. ؟

هذا هو العمود الفقري للجهاد الداخلي في الاسلام ممثلا بالحصول على اعتراف الاخر كندٍ، فلو طرحت حاكمية الله بموجب ما طرحته الدعوة المحمدية لقبل بها حتى الملحد، ولشعر بحرج شديد في الوقوف ضدها، وبذلك نكون قد وضعنا ايدينا على النقطة الجوهرية في الطروحات السياسية للدعوة الاسلامية. هذه الدعوة التي لم يأتينا من تطبيقها الخاطىء الا الضرر وتوقف حركة التاريخ عندنا فبقينا في ذيول الامم دون تقدم ابداً. لا بل نستجديه من الأخرين. ؟بعد ان أصبحنا نعيش في خرافات الزمن البعيد.

أما الجهاد الخارجي

والذي نسميه فتحاً لنشر الدعوة. فقد استبدلوه هم بالأتفاق مع الغريب على احتلال بلاد المسلمين (بلاد العرب الحالية مثالاً). فكيف نحكم عليها بالعدوان واليوم نحن نتفق معها على احتلال بلادنا. العراق مثالاً.

الثاني- تهديد عدو خارجي مسلم لدولة اسلامية ومحاربتها واحتلالها بالقوة، كما في ظاهرتي احتلال مصر لليمن في العهد الناصري، واحتلال العراق للكويت في العهد الصدامي. وتدخل ايران اللامقبول اليوم في كل بلاد العرب والمسلمين بحجة الدفاع عن الاسلام وهم يعملون على اعادة امبراطورية ساسان لا دولة المسلمين.. فهم ليسوا بوكلاء الله في الأرض. لأن كل من شعب اليمن وشعب الكويت وشعب العراق وسوريا ولبنان واليمن لم يؤخذ رأيهم في التغيير. لذا أعتبر غزوا لا شرعيا. ؟فلماذا لا نعترف بالخطأ الشرعي المرتكب نحوها؟وهل حكام مثل حكام بلادنا تستحق الشرعية الدينية التي بها يتبجحون. اليوم ؟

ونتيجة لهذا الاتجاه الخاطىء في فهم آيات الجهاد طمست عزيمة الجهاد من الناحية التاريخية وتم ربطها بالسياسة والسلطة الزمنية منذ بداية الغزو الاسلامي على عهدالخلافة الاسلامية كلها واستمرت في عهد الخلافة العثمانية المستبدة حين لم يفرق بين الجهاد والقتال، لذا كلما تهددت السلطة عمدت الى حل تناقضاتها بتوجيه الناس نحو الحرب الذي سمته جهاداً بدءً بالردة وانتهاءً بالغزوات الخارجية وهذا مخالف تماماً لهدف ايات الجهاد الاسلامي الاساسية.

وحقيقة القول ان تفسير أيات الجهاد بالمنطق السلبي قد كلفنا الكثير ارواحاً ومالاً وسمعة عند الاخرين، واتهمنا وأتهم الاسلام بالارهاب والارهابين تجاوزا علينا وعلى النص الديني دون مبرر سوى التشدد في آحادية الرأي الخاطىء والاصرار العنيد، فهل من نهاية لهذا الموقف الخاطىء الخطير.

ورجل الدين يؤيد التدمير.. لا بل ويفتي خطئا باسم الدين.

واخيرا وليس أخراً. لا حل لنا الابفصل الدين عن السياسة. وانهاء المحاكم الشرعية الا بمحدودية التشريع. واستبدلها بالمحاكم المدنية. وتحديد حقوق المرأة ونزعها من سلطة الدين. وتوحيد الاوقاف بوزارة واحدة. ورفع كلمة مسلم وغير مسلم من الهوية المدنية. ورفع المادة الدستورية التي تربط القانون بالشريعة الدينية لاحلال المساواة بين المواطنين. والا سنبقى دون تغيير. لا بل الى اسوء مصير.

***

د. عبد الجبار العبيدي

 

في المثقف اليوم