دراسات وبحوث

تطور فكرة الشيطان في الأديان (2-5)

بداية القصة:

تبدأ قصة الشيطان في القرآن حين يجمع الله الملائكة كلهم في مكان واحد ليخبرهم بنبأ كوني غاية في الأهمية:

يقول: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (البقرة: 30–34).

أما لماذا أبى «إبليس» واستكبر، وماذا كانت النتيجة، فهذا ما يجيب عنه الحوار التالي: قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (الحجر: 32–40).

المفارقة الكبرى!

لمن يتمعن بهذا السرد يتبين له مفارقة قد غابت عن كثير من المدققين بما فيهم إبليس وهي:

أن الله قد قرر سلفا أن يجعل آدم خليفة له في الأرض والآية (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) كانت قبل خلق آدم وإيجاده في الملأ الأعلى. وعليه تتبرعم نتيجة مقلقة:

هي: ان أغواء إبليس لآدم كان تحصيل حاصل وحجة لما تقرر سلفا من نزول آدم إلى الأرض كخليفة وعليه تكون حجة السجود مجرد مكر لتوريط إبليس.

ولنقرأ ما ذكره الشهرستاني على سبيل المثال في مجادلة إبليس لله فقال:

"إن إبليس سأل الله سبعة أسئلة:

أولاً: إذا كان الله قد علم قبل خلقي أي شئ يصدر عني ويحصل مني فلماذا خلقني أولاً وما الحكمة من خلقه إياي؟

ثانياً: وهو قد خلقني على مقتضى إرادته ومشيئته فلماذا كلفني بمعرفته وطاعته؟

وما الحكمة في هذا التكليف مع العلم انه لا ينتفع بطاعة أحد ولا يتضرر بمعصيته؟

ثالثاً: وهو حين خلقني وكلفني فالتزمت تكليفه بالمعرفة والطاعة فلماذا كلفني بطاعة آدم والسجود له؟ وما الحكمة في هذا التكليف على الخصوص؟

رابعاً: وإني لم ارتكب قبيحاً سوى قولي لا اسجد الا لك وحدك فلماذا لعنتني وأخرجتني من الجنة وما الحكمة في ذلك؟

خامساً: وهو بعد ما لعنني وطردني فتح لي طريقاً إلى آدم حتى دخلت الجنة ووسوست له فأكل من الشجرة المنهي عنها. وهو لو كان منعني من دخول الجنة لاستراح آدم وبقى خالداً فيها فما الحكمة في ذلك؟

سادساً: وهو بعد أن فتح لي طريقاً إلى آدم وجعل الخصومة بيني وبينه لماذا سلطني على أولاده حتى صرت أراهم من حيث لا يروني وتؤثر فيهم وسوستي" فهو لو خلقهم على الفطرة دون أن يحولهم عنها فعاشوا طاهرين سامعين مطيعين لكان ذلك أحرى بهم وأليق بالحكمة؟

سابعاً: وهو بعد ذلك أمهلني وأخّر أجلي إلى يوم القيامة فلو انه أهلكني في الحال لاستراح آدم وأولاده مني ولما بقى عند ذلك شر في العالم. أليس بقاء العالم على نظام الخير خيراً من امتزاجه بالشر؟". (الملل والنحل للشهرستاني، ص 12).

حقيقة المعنى الغائب!

من يدقق النظر  في قضية سجود إبليس لآدم يرى أن الله أمر  إبليس بشئ وشاء له تحقيق شئ آخر لذلك سنرى فيما بعد ان أمر السجود لم يكن أمر مشيئة وانما كان أمر ابتلاء. ومن الطريف ان نلاحظ بهذا الصدد ان التحول الذي لحق بإبليس بعد طرده من الجنة لم يمس جوهره وانما جرى على صفاته واحواله فتشوهت صورته واصبح لعينا رجيما.

عبّر الحلاج بطريقته الخاصة عن هذه الحقيقة في المحاورة التي جرت بين موسى وإبليس حيث يبين إبليس لموسى إن التغير الذي أصابه والتشويه الذي نزل به كانا في الاحوال الظاهرة والزائلة فحسب ولم يمسا جوهره الدائم ومعرفته الثابته لاحكام المشيئة الالهية.

يقول الحلاج:  "التقى موسى وإبليس على عقبة الطور  قال موسى لإبليس:

- تركت الأمر.

فأجاب إبليس: كان ذلك إبتلاء لا أمرا.

فقال له موسى: لاجرم قد غيـر صورتك.

فأجاب إبليس: ياموسى ذا وذا تلبيس والحال لامعول عليه فإنه يحول. لكن المعرفة الصحيحة كما كانت وماتغيرت وإن كان الشخص قد تغيـر.

فقال له يا ابليس‍ مامنعك عن السجود؟ فقال منعني الدعوى بمعبود واحد ولو سجدت له لكنت مثلك فانك نوديت مرة واحدة "انظر الى الجبل" فنظرت ونوديت انا ألف مرة اسجد فما سجدت لدعواي بمعناي.

(كتاب الطواسين، المقدمة، ص 11 -12).

فمن أدرك معنى غربة هذا الغريب الذي ضحى بكل لذة من أجل الكرامة؟

أدركها ثلاثة:

أولا: الحلاج حين عبر عن محنة ابليس بإيجاز رائع بقوله:

"لما قيل لإبليس أسجد لآدم خاطب الحق: أرفع شرف السجود عن سري إلا لك حتى أسجد له؟ إن كنت أمرتني قد نهيتني". (الطواسين، ص12).

ثانيا: الامام المقدسي حين حدد طبيعة التناقض بين الأمر والإرادة الإلهية بالكلمات التالية:

"فإني نظرت بعين اليقين دائرة الشقاوة والسعادة: تدور على خط الأمر ومراكز الإرادة، وبينهما تدقيق يدق عن التحقيق، ومضيق يفتقر سالكه إلى رفيق للتوفيق. فالأمر يهب والإرادة تنهب، فما وهبه الأمر نهبته الإرادة. الأمر يقول أفعل والإرادة تقول لا تفعل. (التفليس، ص4).

ثالثا: ابو حيان التوحيدي لحال غربة إبليس حيث قال:

"ياهذا ! الغريب من غربت شمس جماله واغترب من حبيبه وعذاله واغرب في أقواله وأفعاله.. الغريب من نطق وصفه بالمحنة بعد المحنة ودل عنوانه على الفتنة عقيب الفتنة وبانت حقيقته فيه في الفينة حد الفينة.. يارحمتا للغريب! طال سفره من غير قدوم، وطال بلاؤه من غير ذنب واشتد ضرره من غير تقصير وعظم عناؤه من غير جدوى!"

"الاشارات الالهية"، تحقيق عبدالرحمن بدوي، القاهرة ، 1950، ص80 ،81 ،82.

نهاية الرحلة.

توصلنا الآن إلى قناعة مفادها أنه منذ فجر تاريخ الإنسان وهو يبحث عن مصدر الخير والشر حيث قدم إجابات متنوعة ومع تطور مداركه تطورت إجاباته حتى وصل إلى فكرة "الشيطان" وفيها  وقفنا على صور متنوعة ومختلفة ومتباينة من حيث تقييمها لدوره وموقعه ووظيفته وأثره بالنسبة لحياة الإنسان إلا أنها تشترك جميعا في الإقرار الخفي بدوره في إشكالية وجود الشر. وهو الأمر الذي يعطي لنا إمكانية القول بأن الشيطان يبرز في أساطير الأمم على أنه قوة الشر في كينونته الوجودية. وفي هذا يكمن طابعه الخاص.

وانتقلت صورته ونموذجه إلى الأديان الإبراهيمية من خلال تحويل قوته الشريرة إلى وجود أصيل في مصير الإنسان الأخلاقي والروحي.

وهي صيغة حل سايكولوجي لتاريخ القلق الإنساني العميق في محاولاته لحل مشكلة وجود الشر في العالم.

***

سليم جواد الفهد

في المثقف اليوم