دراسات وبحوث

مراحل المعرفة في المنهج العرفاني

أمس جمعتنا جلسة جميلة في مقر اتحاد الادباء والكتاب في الديوانية بحضور الاستاذ كامل داود رئيس الاتحاد تطرقنا فيها الى عدة مواضيع حتى أرسى سفينتنا سؤال الأستاذ الصديق النبيل النير عادل عبد الحسين عن مراحل المعرفة العرفانية عند المتصوفة وانا أجيبه قال: أنت تعرف أنا كثير النسيان أكتب حتى تبقى ولابأس أن تكون للجميع.

وأمتثالا لأمره كتبنا هذه السطور.

مراحل المعرفة حسب الترتيب العرفاني:

1-علم اليقين: وهو أن تعرف الموصوف بالوصف اليقيني الصادق.

ومثاله أن يوصف لك العسل وصفا مفصلا حتى تعرفه يقينا.

2- عين اليقين: أن تعرف الموصوف بالمشاهدة ومثاله أن ترى العسل بعد أن يكون قد وصف لك.

3- حق اليقين: وهو أن تعرف الموصوف بالمباشرة بعد أن تكون قد عرفته بالوصف والعيان. ومثاله أن تأكل العسل بعد أن يكون قد وصف لك وشاهدته عيانا.

4- حقيقة حق اليقين: وهي درجة الفناء الكلي عند المتصوفة ويسمى أيضا الاتحاد أي الفناء في الله وهي عند العرفاء مرحلة التوكل المطلق يصير فيها فعل الخالق هو نفسه فعل المخلوق.

وبحسب المعرفة المنطقية تكون:

الأولى هي: المعرفة النظرية.

والثانية هي الملاحظة.

والثالثة هي الممارسة.

أما الرابعة فاقحام صوفي خارج عن حدود منطق العقل.

يقول الدكتور  طه عبد الباقي سرور  في كتابه (الحلاج شهيد التصوف الإسلامي): "وقد تزداد درجة القرب، ثم تزداد حتى يتحدث المحب عن الله بصيغة المتكلم، فقد غاب عن نفسه، وعن كونه، فلم يعد يرى إلا الأول والآخر والظاهر والباطن سبحانه، أو كما يقول الصوفية: يغدو الكلام إشارةً منه به إليه!

يقول معروف الكرخي: «إذا انفتحت عين بصيرة العارف، نامت عين بصره، فلا يرى إلا الله.»

ويقول الحلَّاج: «من أسكرته أنوار التوحيد، حجبته عن عبارة التجريد، بل من أسكرته أنوار التجريد، نطق عن حقائق التوحيد؛ لأن السكران هو الذي ينطق بكل مكتومٍ.»

ويقول شارح المواقف للنفري: «أقل علوم القرب -القرب من الله- أنك إذا نظرت إلى أي شخصٍ محسوسٍ أو معقولٍ، أو غير ذلك فسوف ترى الله فيه رؤيةً أبين من رؤية الشيء نفسه، والدرجات في ذلك متفاوتةٌ.

فبعض الصوفية يقولون: إنهم لا يرون شيئًا إلا ويرون الله قبله، وبعضهم يقول: إنهم لا يرون شيئًا إلا ويرون الله بعده، وآخرون يقولون: إنهم لا يرون شيئًا إلا ويرون الله معه، ويقول غيرهم: ما رأينا شيئًا غير الله.»

والفناء هو غاية الصوفية، ففيه يشربون رحيق الحب الأعلى، وينعمون فيه بمتعٍ ولذائذ روحيةٍ، تنسيهم دنياهم وأخراهم ووجودهم، وكلَّ شيءٍ سوى المحبوب الأعلى.

والفاني كما يقول الصوفية، لا يحس بما حوله، ولا يحس بنفسه، فقد فنى عمَّا سوى الله، ومن هنا جاء كلام الصوفية الذي لا يفهمه ولا يتذوقه سواهم، حينما يقولون في نشوة الفناء، ووقدة الحب، ليس في الوجود إلا الله.

والفناء كما يقول الجرجاني: «فناءان؛ أحدهما ذوقي، والآخر خلقي، فالذوقي هو عدم الإحساس بعالم الملك والملكوت، بالاستغراق في عظمة الباري ومشاهدة الحق. والخلقي هو سقوط أوصافه المذمومة، واستبدالها بالأوصاف المحمودة.»

ويصف أبو القاسم الجنيد الفناء: بأنه دخول صفات المحبوب على البدل من صفات المحب، أي التخلق بأخلاق الله وصفاته ليكون ربانيا.

ويقول المستشرق نيكلسون: «والصوفية كلها تقوم على القول بأنه إذا فقدت النفس الفردية، فقد وجدت النفس الكلية، والجذب يهيئ الأسباب التي بها تتصل الروح مباشرة بالله. والزهد والتطهر من الآثام، والحب والمعرفة والولاية، بل جميع الأفكار الأساسية في الصوفية، تنبع من هذا الأصل الجامع.».

والفناء كما يقول-الجامي- يتهيأ بجعل القلب واحدًا، وذلك بتطهيره وحبسه عن الاتصال بشيء خلا الله، سواءٌ في الإرادة أو العلم أو المعرفة، ورغبة الصوفي أو إرادته لا بدَّ أن تصرف صرفًا عن الأشياء جميعًا المرغوب فيها والمراد.

ولا بدَّ كذلك أن تطرد من خياله الواعي، كل موضوعات العلم والعرفان، ولا بدَّ أن توجه أفكاره جميعًا إلى الله لا غير، وألا يذكر معه غيره.

ويقول العلامة زين الدين الخافي: «العبد إذا تخلق ثم تحقق، ثم جذب، اضمحلت ذاته، وذهبت صفاته، وتخلص من السوى، فعند ذلك تلوح له بروق الحق بالحق، فيطلع على كلِّ شيءٍ، وهذا أول المقامات. فإذا ترقى عن هذا المقام، وأشرف على مقامٍ أعلى منه، وعضده التأييد الإلهي، رأى أن الأشياء كلها فيض وجوده تعالى، لا عين وجوده.»

ويقول الدكتور عبد الرحمن عزام: «الفناء عند الصوفية هو خلاص الإنسان من نزعاته وأهوائه وإرادته الخاصة، فيكون كل فكره وعمله لله وبالله.

وبهذا ينبغي أن يفسر ما يقول الصوفية في الفناء، أنه ليس بموتٍ؛ لأن الذي يسمونه فانيًا يعيش على هذه الأرض، وليس هو حلول الله في الإنسان، كما في بعض النحل.»

ويقول العلامة الهجويري: «هو درجة كمالٍ يبلغها العارفون، الذين انتهى بهم الطلب إلى الكشف، فرأوا كلَّ مرئيٍّ، وسمعوا كلَّ مسموعٍ، وأدركوا كلَّ أسرار القلب، وأعرضوا عن كلِّ شيءٍ، وفنوا في مقصدهم، وفنيت في هذا المقصد كلُّ مقاصدهم».

والصوفية كما يقول المستشرق جولدزيهر: «بإبرازهم للمثل الأعلى لكمال النفس الإنسانية، وتحديدهم للخير الأسمى في هذا المقام، يزيدون على الفلاسفة خطوةً، ويسبقونهم درجةً.»

وكما يقول العلامة ابن سبعين المرسي: «إن الفلاسفة الأقدمين رأوا أن الغاية المثلى هي التشبه بالله، بينما الصوفية يدأبون على الفناء في الله، وذلك بأن يكون الصوفي قابلًا لأن يدع السنن الإلهية تغمره وتفيض عليه، وأن يمحو انفعالات الحواس، ويظهر مشاعر الروح.»"1".

***

سليم جواد الفهد.

...............

1- طه عبد الباقي سرور، الحسين بن منصور الحلاج: شهيد التصوف الإسلامي (٢٤٤–٣٠٩ﻫ).

 

في المثقف اليوم