دراسات وبحوث

ثقافة البراكسيس.. الضرورة التاريخية والاضطرار السياسي (2)

لا ريب في إن الفلسفة الماركسية عانت – كنظرية وكممارسة – كما لم تعاني أية فلسفة أخرى نازعتها في الطموح ونافستها في التطلع، وذلك يحكم كونها رؤية تعبّر عن النضوج الفكري في مضمار الوعي، والنقد السياسي في ميدان الاجتماع، والتطلع الإنساني في حقل التاريخ، والنزوع العقلاني في إطار المعرفة. وهو الأمر الذي وضعها على مفترق جملة من المفارقات التاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية، لاسيما في المجتمعات التي لم تتخطى بعد طور الهامشية الحضارية، ولم تتجاوز بعد مرحلة الطفولة العلمية.

فبحكم كون الماركسية منهج نقدي مؤنسن؛ يشيع التفاؤلية في التقدم الاجتماعي، ويقرّ النسبية في التطور التاريخي، ويتبنى الدينامية في التلاقح الثقافي. فقد استطاعت هذه النظرية أن تستحوذ – بزمن قياسي - على اهتمام غالبية النخب الوطنية في المجتمعات النامية، ليس فقط من باب كونها النظرية الأشد ضراوة في مناهضة التشكيلة الرأسمالية، والأصلب عودا"في مقارعة تداعياتها الاستعمارية فحسب، وإنما من منطلق كونها السبيل الأنجع في انتشال شعوب تلك البلدان من حضيض التخلف الذي ترسف في أغلاله، والطريق الأنسب في حملها على اكتشاف تاريخها المنسي، واستعادة هويتها المهدورة، واسترجاع كينونتها الإنسانية الموءودة. ناهيك بالطبع عن نظرتها العلمية إلى ظواهر الوجود، وطريقتها الواقعية في تعاطيها مع مظاهر الحياة، وموقفها الجدلي في تصديها لمشاكل المجتمع.

ومن جملة تلك المفارقات إن مؤسسا الماركسية لم يضعا في جدول أعمالهما السياسية والفكرية تلك المجتمعات الموصوفة (ما قبل صناعية)، وبالتالي لم يعولا عليها بخصوص نشر أفكارهما الاشتراكية وتعزيز توجهاتهما الثورية. وهو الأمر الذي منح (لينين) أفضلية ملحوظة على سائر القادة الماركسيين المعاصرين له – بمن فيهم (غرامشي) الذي غيبه الموت باكرا"كما أسلفنا - حيال تعاطيهم مع مكونات الفلسفة الماركسية، والذي استطاع إن يستخلص جوهر ميتودولوجيتها، من خلال تحويل تعاليم (البراكسيس) الماركسي من تفلسف نظري مجرد إلى تثقيف عملي ملموس، بحيث طور موقف الماركسية الكلاسيكية بصدد ملائمتها وصلاحية تطبيقها حتى في المجتمعات (الزراعية) وشبه الإقطاعية، مستلهما"ومستوحيا"ما ورد على لسان (انجلس) من تلميحات وتوضيحات وطروحات فيقول (كان انجلس يقول في معرض حديثه عن نفسه وعن صديقه الشهير؛ إن مذهبهما ليس بمذهب جامد، إنما هو مرشد للعمل. إن هذه الصيغة الكلاسيكية تبين بقوة رائعة وبصورة أخاذة، هذا المظهر من الماركسية الذي يغيب عن البال في كثير من الأحيان. وإذ يغيب هذا المظهر عن بالنا، نجعل من الماركسية شيئا"وحيد الطرف،عديم الشكل، شيئا"جامدا"لا حياة فيه، ونفرغ الماركسية من روحها الحيّة، وننسف أسسها النظرية الجوهرية – ونعني بها الديالكتيك، أي مذهب التطور التاريخي المتعدد الأشكال والحافل بالتناقضات – ونضعف صلتها بقضايا العصر العملية والدقيقة، التي من شأنها أن تتغير لدى كل منعطف جديد في التاريخ)(1)، وهو الأمر الذي يفسّر لنا صعوبة إن لم يكن تعذر استيعاب كنه الماركسية دون ارتباطها بصيغتها المطورة (اللينينية) كما بات معروفا".

ولكن بالمقابل وبسبب كل تلك المزايا والمناقب التي تميزت بها، فقد نالت الماركسية - مثلما نال أنصارها ومريديها ومعتنقيها - من لدن الأنظمة السياسية (الوطنية) التي أبصرت النور في المجتمعات التي تحررت لتوها من الاستعمار، شتى ضروب القمع السياسي ومختلف صنوف الردع الفكري، وكل أنواع التشنيع الإيديولوجي، للحدّ الذي جرى تكفير الأحزاب الشيوعية بموجب فتاوى دينية، وتخوين الشخصيات الماركسية بموجب أوامر تعسفية.

ولعل هذه الإشكاليات كانت في مقدمة العوامل التي أسبغت على الفكر الماركسي في المجتمعات المتخلفة، ليس فقط طابع السرية في التداول والتقية في التواصل فحسب، وإنما – وهنا يتركز محور موضوعنا – خصوصية الإفراط في التنظيرات الفكرية والتفريط في الممارسات العملية، حتى أمست العناصر الشيوعية خاصة والماركسية عامة، مضرب للأمثال بخصوص باعها الطويل في الجدال الفكري والسجال الإيديولوجي من جهة، واتهامها، من جهة أخرى، بافتقارها إلى رصيد واقعي / إجرائي يثبت قدرتها الذاتية، على تطوير النظريات وتثوير المنهجيات وتنوير العقليات. فعلى قدر توفرهم (= الشيوعيين والماركسيين) على إمكانية أن يبزّوا خصومهم ومناوئيهم في شتى المجالات المعرفية والثقافية من جهة. إلا انه، من جهة أخرى، ليس بمقدورهم إثبات صحة آرائهم ومنطقية توقعاتهم على صعيد الواقع، أو ترجمة مواقفهم وتجسيد أفكارهم على مستوى الممارسة. أي بمعنى أنهم وان كانوا يبدون ضليعين في تدبيج الخطابات ونسج الطوباويات وعرض السرديات، إلاّ أنهم بالمقابل أثبتوا عجزهم في تحرير الذهنيات من أوهامها الأصولية، وتطهير السياسات من أصنامها الإيديولوجية.

ولعمري إن تشخيص هذه الظاهرة داخل أوساط الحركات اليسارية والأحزاب الشيوعية، متأتي من حالة (الاضطرار السياسي) التي أجبروا على التعيش ضمن أجوائها الموبؤة؛ بالمطاردات البوليسية والمداهمات الأمنية والتنكيلات العنفية. ولأنها لبثت تعمل تحت ظل أحكام قوانين الطوارئ، حيث الظروف شاذة والأوضاع استثنائية، فضلا"عن كونها محاطة بإجراءات صارمة من التكتم والسرية. فقد تعذر – إن لم نقل استحال – وضعها المفاهيم النظرية والطروحات التجريدية موضع التطبيق العملي الممارسة الواقعية، بحيث يجري اختبار صحة التحليلات السوسيولوجية للمجتمع، وسلامة التأويلات الابستمولوجية للوعي، وملائمة المقاربات المنهجية للواقع. ليس بناء على أحكام مسبقة وتصورات مفترضة وتعليلات مفبركة، وإنما من منطلق ممارسات واقعية وتطبيقات عملية ومحاكمات عقلانية. ولهذا يؤكد الفيلسوف الماركسي (جورج لوكاش) بثاقب بصيرة فيقول (إن هدفنا بالأحرى محدد بمعتقد مفاده إن مذهب ومنهج ماركس يحملان بالنهاية المنهجية الصحيحة لمعرفة المجتمع والتاريخ. إن هذه المنهجية في جوهرها الأكثر التصاقا"، هي تاريخية. وبديهي بالنتيجة انه يجب دائما"تطبيقها على ذاتها، وتلكم هي أحدى النقاط الأساسية لهذه المحاولات. على إن هذا يقتضب بذات الحين أخذ موقف فعلي يهدف إلى محتوى المشاكل المعاصرة، لأنه، وبناء على مفهوم المنهجية الماركسية هذا، فان هدفنا الأسمى إنما هو معرفة الحاضر)(2).

ومن منطلق هذه الحقائق التاريخية وتلك الوقائع الفكرية، فانه لم يعد أمام من يدعي انتسابه للفكر الماركسي في صيغته الأكثر نقدية، وتمثله للمنهجية الجدلية في تمظهرها الأكثر دينامية، أية أعذار أو تبريرات يحاول التعكز عليها واللجوء إليها، لتسويغ حالات الانعزال الفكري والتقوقع الإيديولوجي والتخندق الفلسفي. التي قد يعتقد واهما"أنها الضمانة الوحيدة والفعالة، للحفاظ على نقاء الفكر الذي يؤمن به من شوائب النظريات الحداثية وما بعد الحداثية، والحرص على بقاء التصور الذي يحمله عن الفلسفة التي يعتنقها مبرئ من انحراف المنهجيات العابرة والمابينية. ولعل من المناسب أن أنهي هذا الموضوع بجملة تكاد تلخص ما نرمي إليه قالها الفيلسوف الماركسي (هنري لوفيفر)، في معرض تأكيده على أهمية ما تعنيه فلسفة البراكسيس بالنسبة للميتودولوجيا الماركسية على النحو التالي (عند ماركس، يتحرر الناس من الضياع من خلال منازعات واقعية عملية، فلا يكون التفكير النظري سوى وسيلة (أو عنصر أو مرحلة أو واسطة) لازمة وغير كافية في هذه المنازعات العديدة، ذات الأشكال المتنوعة. بل لا يعرّف الضياع تعريفا"واضحا"إلاّ إذا قيس بوسيلة التحرر منه، تلك الوسيلة العملية الفعالة. وشرّ ضياع هو التوقف الذي يمنع النمو)(3).

***

ثامر عباس

....................

المصادر والهوامش

(1) لينين؛ ماركس – انجلس – الماركسية، ترجمة الياس شاهين، (موسكو، دار التقدم، د. ت)، ص336.

(2) جورج لوكاش، التاريخ والوعي الطبقي، ترجمة الدكتور حنّا الشاعر، (بيروت، دار الأندلس، 1979)، ص9.

(3) هنري لوفيفر؛ ماركس وعلم الاجتماع، مصدر سابق، ص11.

 

 

في المثقف اليوم