دراسات وبحوث

النزاعات العشائرية في العراق وتأثيرها على السلم الاهلي

محافظة ميسان أنموذجاً

المقدمة

ميسان: واحدة من محافظات العراق الثماني عشرة محافظة، تقع في القسم الجنوبي الشرقي من العراق (365) كم جنوب شرق العاصمة العراقية بغداد، تبلغ مساحتها (16072) كم 2 وتشكل نسبة 3.7% من مجموع مساحة العراق الكلية البالغة (435052) إلف كم 2، نفوسها تقدر مليون ونصف المليون نسمة من أصل نفوس العراق الكلية المقدرة ب (40) مليون نسمة.

يسكن أغلبهم في مركز المحافظة (قضاء العمارة) والبقية موزعين على خمسة أقضية كبيرة هي (علي الغربي، الميمونة، المجر، قلعة صالح، الكحلاء)، تحدها من جهة الشمال والشمال الغربي محافظة واسط، ومن الغرب محافظة ذي قار، ومن الجنوب محافظة البصرة، ومن الشرق إيران (حيث الحقول النفطية القريبة أو المشتركة مع الجارة إيران).

اهمية البحث

إذا أرادَ الإنسانُ فَهْمَ العَالَم، ينبغي أن ينطلق مِن نَفْسه، وذلك بالتَّنقيب في أعماقه الداخلية عن تاريخه المنسيِّ المدفون تَحت حُطامِ الذكريات، وأنقاضِ المشاعر، وأحلامِ الطفولة المَقتولة في مهده، والعَودةُ إلى الوراء هي الانطلاقة الحقيقية نَحْوَ فهم التاريخ المنسي لأجدادنا الاوائل.

أما الإشكالية التي يقع فيها الإنسانُ أثناء مسيرته الحياتية، تتجلَّى في بَحثه عن تاريخ الأمم والشعوب، ونِسيان تاريخه الشخصي الذي يعيش في أعماقه الداخلية، هذه العملية ناتجة عن عدم تقدير الإنسان لنَفْسه، فهو يعتقد أنَّه مُجرَّد عُنصراً هامشياً في المجتمع، ورَقْماً عابراً في الحضارة الوطنية والقومية، هذه القناعة الوهمية التي تجذرت في أفكار الإنسان ومشاعره ناتجة عن ضغوط الحياة المعيشية التي جَعلته مَحاصرا ًفي دائرة ضيقة، مُكبلاً بالعادات والتقاليد الاجتماعية المتوارثة والعادات الجديدة في محيطه الذي يعيش.

مشكلة البحث

سقط الجميع في اختبار التاريخ، ومُن يكتب التاريخ ليمدنا بالمعرفة حتى نحكم حكماً مطلقاً على فترة زمنية محددة عاش فيها أشخاص بعينهم عاصروا أحداثاً عصيبة أثرت في الأجيال السابقة، ولازال تأثيرها مؤثراً على الجيل الجديد، وأجيال المستقبل. ومن الإنصاف أن نحلل التاريخ مرة أخرى، وأن نستوعب كل تفاصيله ونقارن بين هذه الفترات الزمنية المختلفة وأحوال السابقين في عصور لم تكن قد ظهرت فيها بعد هذه التكنولوجيا التي تصور التاريخ صوتاً وصورة عالية الوضوح وذاكرة إلكترونية جبارة تخزن مليارات المعلومات عن الأحداث التي نعيشها، والتي عاشها آباؤنا وأجدادنا الأولون قبل مئات السنيين، والتي تفتقر إلى التوثيق، بل كانت تعتمد على السماع والنقل من أفواه وذاكرة الآخرين، كما فهموا أو سمعوا من الآباء والأجداد.

هدف البحث

يهدف هذا البحث لشرح وبيان اثر النزاعات العشائرية على السلم المجتمعي باعتبار إن الاعتراف والاهتمام والتثقيف بالهوية العشائرية أصبح أمراً طبيعياً - ضرورياً جداً في العراق، وقد يكون فيها نوع من السلامة لحياة الوطن وعروبته المهددة بالانكماش وسلامة الأمّة ودوام الدولة، لكن هذه الهوية العشائرية تصبح متعصبة عندما تقمع وتلغي هويات الآخرين الدينية واللغوية والعقائدية، وكذلك تنغلق على نفسها وتلغي إنسانيتها بتبرير الحقد على الجماعات الأخرى.

فرضية البحث

من المعروف للعامة إن طريقة حياة الناس أو ثقافتهم يصنعها عملهم ودخلهم فقط، ومن ثمّ فإن الاقتصاد ومستوى معيشتهم هو الذي يحدد طريقة تفكيرهم، وليس العكس: أي أن نوع العمل وأدواته والأشكال القانونية التي تضمن وجوده مثل الاتفاقيات والتعاقدات والقوانين المنظمة للعمل.. هي التي تحدد مكانة الناس في مجتمعاتهم ومكانة المجتمعات ذاتها في العالم، أي تحدد مدى سلطة كل منهم على الآخرين.

أولاً: ميسان.. والذاكرة الحية

كنّت أجدُ في محافظة ميسان (لواء العمارة) سابقاً الستينيات والسبعينات كلَّ شيء: المقاهي والكُتُب والملابس والأصدقاء الأوفياء.. وكلّ ما له علاقة بالتمدّن والتعايش، أذ شارع دجلة وكازينوهاته التي تعج بالمثقفين، ونادي المعلمين (قصر فتنه) الذي لا يدخله إلا المعلمون أو من يتوسط لك بالدخول عند الاستعلامات من المعلمين الأصدقاء الذين يصاحبوك معهم.

لم يكن الركود والخمول والخنوع من صفاتها التي نعرفها والتي ما إن تكبو حتى تنهض تحت الرماد مثل الطائر الفينيقي لتحيل الحزن إلى فرح والكدر إلى بهجة والكآبة إلى أمل والظلمة إلى نور، فهي أم الأنهار والخضرة و الاهوار السومرية الضاربة في عمق التاريخ العراقي الأصيل، حيث الشرائع التي علّمت البشرية صناعة النار والفخار وصناعة القوارب وأبجديات الحرف، فيها روح التاريخ وحدائق اللغة وعنفوان التمرد، وهي جزء من ذاكرة جيل الستينات لمدينة الدلال والغنج والورد وشذا الربيع والياسمين والنور.

إذا كان لكل امرأة رائحتها ولكل بحر لونه ولكل قصيدة نكهتها ولكل مدينة عطرها فميسان اختلطت فيها الرائحة واللون والنكهة والعطر في جسدي وروحي، وكم راودتني عن نفسي لأفضي بسرّها وسحرها، وأنا أسمع صوت المطرب الشعبي - عبادي العماري - وهو يتعاطف مع المرأة الميسانية التي كبلتها العادات والتقاليد العشائرية المقيتة في أغنيته التراثية (الفصلية) وهو يغني (جابوها دفع للدار.. لا ديريم ولا حنة ولا صفكَة) وأنا أقف لأشم رائحة نهريها الخالدين المشرح و الكحلاء، الذي اغتسلت بمائه حوريات المدينة.

لا أستطيعُ استعادةَ ذاكرة الطفولة المكتظّة بصور مختلفةٍ ومتنوّعةٍ دون أن تشعَّ في إحدى زوايا ميسان بكل رمزيّتها وصباها، تلك التي شكّلت بين تقاسيمِها أغاريدَ شرودي الملّونة وروح تمرّدي الأول، خصوصاً وأنّني ترعرعت في بيئة معاندةٍ كانت جاهزةً ومتفاعلةً ومنفعلة باستشراف الجديد واستقبالِ الحداثةِ والتّطلّعِ للتغيير.

كنتُ أبحثُ في المدينةِ عن المختلفِ والا مألوفِ من الكتب و الصحفِ إلى المغايرِ و اللّا تقليدي من الأفلام، فأجدُ متعتي في هذا التنوّعِ المتجانسِ والاتّساقِ المتمايز، وفي التعدّدِ والوحدةِ وفي طريقة الحياة الميسانية، وكان شغفي الصّيفي في ستينات القرن الماضي وأنا أزورُ سينماتها الصيفية والشتوية (غازي والحمراء والأمير والنصر والخيام والثورة وبابل) ومشاهدة أفلام (هرقل وماجستي وطرزان) حيث حروب طروادة واحتراق روما، وأفلام الرعب والكاوبوي والأفلام البوليسية (الطيور،المصارعون السبع، قلعة ذهب توما، جانكو، القطار، العربة الأخيرة، العراب، القرصان الأحمر، الفرار، السهم) ممثليها (ستيف ريفز، مارك فورست، جوردون سكوت، فرانكو نيرو، ألن د يلون، جيمس دين، جونسن ميلر) والأفلام العربية (في بيتنا رجل، غزل بنات،رصيف نمرة خمسة، معبودة الجماهير، عنترة وعبلة،المومياء،باب الحديد، حكاية حب) أبطالها (عمر الشريف، فاتن حمامة، عبد الله غيث، فريد شوقي،توفيق الدقن،رشدي أباضه،محمود المليجي،أمينة رزق، تحية كاريوكا، مريم فخر الدين،سميرة أحمد، مديحه يسري) والأفلام الهندية (سنكام، دو بدن، أم الهند) أبطالها (شامي كابور، راج كابور، أشا باريخ، راجندر كومار، فاجنتي مالا) والأفلام العراقية (خنيجر ونعيمة، بصرة ساعة 11).. وغيرها.

وعلى مدى العقدين الماضيين، أقنعت هوليوود نفسها أن مفتاح النجاح يكمن في إخراج أفلام الأبطال الخارقين واحدًا تلو الآخر، بدلا من الأفلام الكلاسيكية،حينما شاهدت فيلم - الرجل الحديدي- لأول مرة، فوجئت بصدق وبمدى روعته، باعتباري من أشد المعجبين بأفلام الأكشن / الأبطال الخارقين، أحببت التمثيل والحبكة والشخصيات، لهذا السبب، كانت لدي آمال كبيرة في الحياة.

تعودت الجلوس في مقهى "النجماوي" الواقع على كورنيش دجلة لأبدأ قراءة الصحفِ الرائدة مثل (طريق الشعب، الفكر الجديد) وغيرها، إضافةً إلى عددٍ من المجلاتِ ومن بينها تلك المثيرة للجدل والاستفهام في حينها مثل مجلة (الثقافة الجديدة) ومجلة "المجلة" الألمانية، وكتيب الموسوعة الصغيرة وغيرها، حينها كنت أستعيدُ أجواءَ النقاش والسجال والحوار بخصوص النوافذ الثقافية والأدبية والفكرية والتوجهاتِ اليمينية واليسارية، والماركسية والناصرية، والإسلامية، والغربية والشرقية مع الأصدقاء، التي حاول صدام حسين المجيد (1937 – 2006 إلغائها بحزبه العربي الاشتراكي وفكره القومي الذي رفع شعار (من ليس معنا فهو ضدنا).

بعدها أذهب الى نادي نقابة المعلمين (قصر فتنة سابقاً) الذي بناه المرحوم الوجيه الشيخ (محمد العريبي) (1) بيد المعمار الأول في محافظة ميسان المرحوم الحاج لطيف العاني والد المحامي أحمد لطيف العاني،وقد كان المرحوم الحاج سيد زريجي شلش احد الخلفات العاملين تحت يد المرحوم الحاج لطيف العاني، وهناك حادث طريفة حدثت في هذا القصر.

ففي سبعينات القرن العشرين اسُّتخدم هذا القصر كمقر لنقابة المعلمين في المحافظة، وكانت حدائق القصر يستخدم جزء منها كمقهى(كازينو)، والقسم الأخر كنادي ترفيهي للمعلمين، وتقديم المشروبات الكحولية كانت أمرا طبيعيا في نوادي النقابات، وكان متعهد نادي المعلمين أنذاك هو احد أبناء الطائفة المسيحية في ميسان ويدعى (صليوه).

ففي احد الايام حضر احد الفلاحين من إحدى القرى إلى المحافظة ولم يكتمل الأمر الذي جاء من أجله وتطلب الأمر المبيت وقد كان قد سمع بالشيخ (محمد العريبي) رحمه الله وكرمه فذهب إلى قصر فتنه أذ كان في تصوره بأن الشيخ لا زال هناك وصل ودخل إلى الحديقة فوجدها عامره بالأخوة المعلمين.

وقال في نفسه مشاء الله المضيف عامر جلس على احد الكراسي وجاء له النادل في حينها كان يسمى البوي وقال له تفضل اخي فقال له اني جاي لمضيف الشيخ وقص عليه قصته فقال له البوي عمي الشيخ الله يرحمه وشرح أمر القصر وتحويله إلى نادي.

حزن الفلاح وقال له ماذا تقدمون في هذا النادي البوي أوضح له الصورة هنا قام هذا الفلاح اسفا وارتجز أهزوجة نعرفها جميعا (يا دار العز بيج صليوه).

وقد كانت ايام صليوه ارحم من أيامنا هذه فقد هدم القصر واندثرت دار العز ورحل صليوه ولم تبقى الا الصور والذكريات الأليمة.

وهناك حكاية أخرى حدثت معي حينما جئناها أنا وصديقي (مجيد عريبي محمد العريبي) الى النادي مطلع عام 1980 ولكن كنا متأخرين هذه المرة، وقد وجدنا النادي على وشك الاغلاق، حينها جاء النادل (البوي) المصري الجنسية وقال بلهجته المصرية الجميلة (شطبنا يبيه).. أجابه صديقي بلهجة عنيفة وزجره على كلامة.

وقال له: هل تعرف أن هذا القصر، قصر جدي؟.

نقل هذا النادل الكلام الى رجل الاستعلامات وهو من معلمي الرياضة في المحافظة.. وحينما نظر الينا عن بعد.

قالها بتحسر: نعم أنه قصر جده.. لب طلبه بسرعة؟.

أما اليوم فقد انتشرت ظاهرة المطاعم والمولات والمستشفيات في ميسان وهو بالتأكيد شيء حضاري من قبل أصحاب القطاع الخاص.. لكن ما نحتاجه بالفعل من القطاع الخاص هو:

* الاستثمار في مجال الصناعة وبناء المعامل الأهلية لزيادة الانتاج الوطني، وتقليل المستورد من السلع والخدمات.

* الاستثمار في القطاع الزراعي والأهوار،وإعادة إنتاج المحاصيل الزراعية بطرق حديثه كزراعة قصب السكروالحنطة والرز.

* الاستثمار في القطاع السياحي..التراثي من خلال اعادة احياء تراثيه ميسانية ذات طابع سياحي.

* الاستثمار بتأهيل مناطق شاسعة في ميسان لجعلها حدائق ومتنزهات عامه وغابات ومدن ألعاب حديثة.

ثانيا: المجتمعات القبلية

يعد وجود المجتمعات القبلية أو العشائرية داخل المدن من اخطر الظواهر المدمرة لوحدة الشعب وسيادة القانون والنظام، فالأعراف والعادات والتقاليد هي غالباً ما تكون انعكاساً خطيراً ًللتراث الجاهلي البدوي المتحجر الذي يعمل على تعطيل حياة الناس وتوقف حركة عقول الأجيال المنضوية تحت تلك الخيمات البالية، ليس الأمر من باب نبذ المجتمعات القبلية، وإنما من اجل التأكيد على إن المدن المتحضرة لا يمكنها أن تستوعب الثقافة والتراث القبلي البدائي، إنما هي تستوعب المجتمعات المدنية المتداخلة والمتعايشة والمتعددة ومتعددة الثقافات.

والواقع العشائري أثر على الوضع الامني في العراق وأنعكس سلبياً على الوضع الاقتصادي، فعدم استقرار الأمن يعود لسبب ضعف القانون، والاجهزة الامنية لا تعمل بالمستوى الذي ينسجم مع بيئة العراق التي تعاني من أنتشار كبير في الاسلحة المختلفة، وهذا ينعكس على الوضع التنافسي العشائري، وبالتالي المتضرر هو المواطن البسيط.

لذلك عندما يخرب المرافق العامة كما حدث عامي 1991و 2003 يعبر عن عدوانية اتجاه السلطة الحاكمة ودكتاتوريها الرهيبة، وهذا ناتج عن عدم وعي هذه المجتمعات بما لها من حقوق وما عليها من واجبات (2).

ولعل من الراجح إن الخلفيات البدوية / القبائلية لمعظم ساكني الأمكنة الريفية في العراق، وبالخصوص محافظ ميسان، قد أثرت بشكل مباشر أو غير مباشر على ضعف خصوصية تلك الأمكنة، وهي بالأساس كيانات لم تبرح تنوء بحمل موروث بدوي / قبلي ضارب في القدم، ولما كان الطابع الغالب على البيئة العراقية كونها بيئة عنيفة وقاسية، فهي لا تجود بسلاسة ولا تمنح بطواعية لما يحتاجه ويطلبه منها إنسان تلك البيئات والأجواء، إلا بعد أن يبذل جهود مضنية ويتحمل معاناة متواصلة غالبا" ما أفضت إلى صدامات وصراعات بسبب من تلك الحاجات والمطالب.

وعلى أساس ما تقدم فان ابن الريف – وحتى القروي – غالبا" ما لا يحفل بما للقرى والأرياف من خصوصيات جغرافية وهويات مكانية، يستلزم التعرف على تضاريسها والانتماء إلى فضائها، طالما انه يستبطن عنها ذكريات مؤلمة وتصورات عدوانية توارثتها الأجيال، عبر القصص المعجونة بالألم والملاحم المطرزة بالمعاناة والسرديات المثخنة بالأحزان.

وهكذا تبدأ المدن بفقدان عناصر شخصيتها وتلاشي مقومات هوياتها واضمحلال مكونات ذاكرتها، بالقدر الذي تشهد فيه تحولات اجتماعية عميقة بصيغة صراعات سياسية أو دينية، وبصيغة هجرات سكانية طوعية أو قسرية – كما هو الحال في العراق – حيث يقوم أبناء الريف بالتسلل إلى حواضر المدن - عبر أسراب المهاجرين والمهجرين الباحثين عن مجرد أماكن مجهولة الملامح، لا يهمها منها سوى كونها ملاذات آمنة وملاجئ محمية.

والطامة الكبرى سرعان ما يدب الخراب في معمارها القيمي وتكوينها الثقافي، وتتحول من الطابع الحضاري / المدني إلى الطابع القبلي / الريفي، الذي غالبا" ما يكون مرتعا" لفيروسات التطرف الديني، وجراثيم العنف الاجتماعي، وفوضى التخلف الثقافي.

وعلى وقع تفشي النعرات العشائرية في المدينة، واستشراء الحساسيات الطائفية، واستفحال المناكفات القبلية، التي سبق لمكونات المدينة أن جاهدت طويلا" لمغادرة مستنقعاتها والتخلص من افرازتها النفسية والقيمية، بعد أن قطعت أشواطا" واسعة في مضامير كبح جماح دوافعها البدائية، والحدّ من نوازعها الأولية، تسود الخرافات فيها، ولا يعود هناك من عاصم يحول دون ارتكاب المحارم الإنسانية والآثام الأخلاقية.

(في محافظة ميسان في جنوب البلاد، قتل طفل وجرح أربعة أشخاص خلال تبادل لإطلاق النار برشاشات كلاشينكوف وحتى قذائف صاروخية.

وتسبب بهذه "المعركة" شجار بين طفلين دون العشر سنوات، رفض أحدهما وهو ينتمي إلى عشيرة الفراطسة، إعادة مبلغ ألف دينار (اقل من دولار) اقترضه من صديقه من عشيرة البو علي،وتدخّل والد الأخير وضرب الطفل الآخر، ليتطور الأمر إلى اشتباك مسلح.

وقد يكون أسوأ ما في الأمر هو أن الضحايا الخمسة كانوا مجرد عابري سبيل ولا ينتمون إلى العشيرتين.

بعد أسبوع، اندلع نزاع آخر بالسيوف في قضاء الكحلاء في المحافظة نفسها بين أشخاص من عشيرة النوافل، بسبب شتم أحدهم شخصية دينية نافذة. وقُّتل جراء ذلك ثلاثة أشخاص وجرح اثنان من أفراد العشيرة، وأوقف سبعة أشخاص بعد انتشار الشرطة لوقف تفاقم المشاجرة.

كذلك أدّى خلاف خلال مباراة كرة قدم بين عشيرتي الفريحات والرسيتم إلى مقتل شخص وإصابة خمسة بجروح في ناحية بني هاشم الحدودية مع إيران، ولم تنته المشكلة إلا بعد تقديم عشيرة الرسيتم مبلغ 20 مليون دينار (حوالى 13300 دولار) كديّة أو تعويض لعائلة القتيل، خلال جلسة عشائرية مشتركة (3).

احياناً قد تحصل مواجهة بين عشيرتين يسقط فيها العديد من الضحايا وهم مكرهون على المشاركة، ولو تم اجراء احصائية لضحايا الحوادث العشائرية خلال (السنوات الثلاث 2015-2013) في محافظة ميسان قد يصل بالمئات ولكي اوضح هذا الامر اذكر عناوين الحوادث (4):

1- قتال الفرطوس والبو علي قتل فيها واحد وعشرون قتيلاً مع العشرات من الجرحى.

2- قتال ال مريان وال أزيرج قتل فيها تسعة قتلى.

3- قتال ال أزيرج وبني لام قتل فيها خمسة قتلى مع العديد من الجرحى.

4- قتال الهليجة وكعب قتل فيها ثلاثة قتلى.

5- قتال كعب وبيت فيصل قتل فيها امرأة و

6- قيام رجل من كعب المدعو اخضير بقتل ثلاثة، واحد من بيت سيد نور وثاني من عشيرة السواعد وثالث من عشيرة السودان.

7- قتال بين بيت فيصل والبو زيد.

8- قتال بين المواجد والبو غنام قتل واحد فقد حياة اخر.

9- معركة بين الكورجة والبو غدير قتل فيها اثنان.

10- معركة بين بيت مانع قتل فيها ثلاثة مع العديد من الجرحى.

11- معرة بيت شعير وبيت عبدالله والضحايا خمسة قتلى مع عدد من الجرحى.

12- قتال بين بيت غزيل وبيت صكر الضحايا احد عشر قتيل.

13- قتال بين البو مساعد بني مالك بين بيت حميدي وبيت جابر الضحايا عشرة قتلى.

14- قتال بيت خنياب النوافل عدد القتلى اربعة.

أما أبرز الاحداث الأمنية والخروقات خلال النصف الاول من عام/2022 في محافظة ميسان هي:

* نزاع عشائري في قضاء قلعة صالح بين عشيرة البو غنام دام 3 ايام.

* أغتيال ضابط برتبة رائد وسط ميسان.

* مقتل امرأة في منطقة حي المعلمين.

* مقتل مشرف تربوي في حي المعلمين القديم.

* مقتل مواطن في حي المعلمين القديم.

*مقتل سائق صهريج وشخص اخر وقطع رأسيهما بعد حرقهما.

* نزاع عشائري في ناحية العزير.

*اغتيال قاضي تحقيقات مكافحة المخدرات.

* مقتل امراه من قبل ثلاث مسلحين بسبب رفع دعوة قضائية ضد اشخاص من عشيرتها بسب حادث قتل لابنها في وقت سابق في قضاء قلعة صالح جنوب ميسان.

*القاء القبض على مدير مدرسة اسمه (م. ع. ر) في ناحية العزير بحوزته 60 غرام من المخدرات، أعترف بتجارة المخدرات وتعاطيها منذ ثلاث سنوات.

* مقتل ستة أشخاص بينهم جندي إثر اندلاع نزاع عشائري في ناحية العزير جنوب ميسان.

* مقتل الشاب (عباس دينار الشويلي) رميا بالرصاص قرب علوة الرمل بمنطقة حي الحسين وسط مدينة العمارة مركز المحافظة، و المجنى عليه احد عناصر سرايا السلام الفصيل المسلح التابع للتيار الصدري.

* مقتل الشاب (تحسين الجمالي) اثر نزاع عشائري قديم في منطقة حي الوحدة الاسلامية وسط مدينة العمارة.

* اغتيال الشاب (علاء محيسن المالكي) من قبل مجهولين وسط المحافظة.

* اغتيال رجل دين وولده في مركز المحافظة على أيدي مجموعة مسلحة.

*مقتل الشيخ محمد ريسان الفيصلاوي.

ثانياً: تصفية حسابات

إن "ما حصل في محافظة ميسان خلال النصف الاول من عام /2022 من اغتيالات متبادلة بين سرايا السلام من جهة (اغتيال مسلم عيدان أبو الريش وكرار أبو رغيف) وعصائب أهل الحق (اغتيال الرائد حسام العلياوي) ومن قبله اخويه وسالم وعصام من جهة أخرى، يعكس أحد أشكال الصراع بين الأطراف السياسية الذي تطور إلى عنف مسلح في المحافظة"، وأن ما حصل يتعلق بالصراع على منصب المحافظ وغيرها من التفاصيل التي تتعلق بإدارة المحافظة، التي أصبحت مرتع لتهريب المخدرات والنفط وتهديد للشركات النفطية الصينية من قبل تنظيمات مسلحة.

ولا يوجد ضبط للقانون والنظام لضبط الصراعات بالمجتمع ومنع تطورها"، رغم تشكيل (قيادة عمليات ميسان) فهناك أكثر من 20 مليون قطعة سلاح منفلت بيد العشائر دون ضوابط، وبالتالي فإن هذا السلاح سيؤدي إلى ارتكاب جرائم القتل والاغتيالات.

كما أن الكتائب المسلحة في المحافظة كان من المفترض أن تخضع للسيطرة من قبل قياداتها، إلا أنها بعد تحولها إلى سلاح منفلت باتت لا تحترم قرارات قياداتها ولا سلطة الدولة، بعد سيطرتها المطلقة على أيرادات منفذ الشيب الحدودي مع أيران، وبالتالي إذا ضُّربت مصالحها المادية عادت الى مسلسل القتل والاغتيالات، منها مقتل رئيس الهيئة القضائية المختصة بقضايا المخدرات في محافظ ميسان القاضي / أحمد فيصل خصاف وسط مدينة العمارة مطلع شهر شباط / 2022 من قبل عصابات الجريمة المنظمة.

إن ما حدث في ميسان خلال العام الحالي هو تصفية حسابات شخصية بين الميليشيات المنفلتة، وتمرد داخل الجماعات المسلحة أدى الى ولادة جماعات مسلحة جديدة، وتصفية خصومات شخصية بينها، ولا تتعلق بالصراع بين العصائب والتيار الصدري"، وهو أمر متوقع ومحتمل من خلال ولادة جماعات مسلحة جديدة مثلما حدث داخل التنظيمات الإرهابية الداعشية ونشوء مسميات جديدة، وهذه الحالة تعتبر بديهية في عمل الجماعات المسلحة فلا يوجد ولاء مطلق عندما تتقاطع المصالح" المالية.

رابعاً: النزاعات العشائرية

إضافة إلى بروز ظاهرة النزاعات العشائرية داخل المدن وفي المناطق الريفية، ومنها محافظة ميسان، يكون المدنيون فيها عرضةً وأهدافاً مباشرة لتلك النزاعات البدوية الموغلة في عمقنا الصحراوي، أنّ القتل العمد وأخذ الرهائن والعنف،والتحرش الجنسي،وتناول المخدرات،تمثل بعضاً من الممارسات الشاذة التي تنشر الرعب والمعاناة بين السكان.

وكثير ما تسفر تلك النزاعات العشائرية (الدكَة) عن تشريد المدنيين،وقد يضطر هؤلاء الناس إلى ترك جميع ما يملكون،ويفقد الأطفال فرص التعليم،ويفقد الشباب فرص العمل، والتي تعاقب عليها الدولة الفاعلين ضمن المادة (2) من قانون مكافحة الإرهاب مؤخراً بالسجن المؤبد أو الإعدام، وهي جريمة مخلة بالشرف لا تسمح لمرتكبيها العمل الوظيفي في قطاع الدولة.

ذات يوم استيقظ طلاب مدرسة ابتدائية في أحد أحياء محافظة ميسان صباحاً على عبارة مكتوبة بخط رديء أحمر على امتداد السياج الخارجي للمدرسة «مطلوبة عشائرياً».

لم يتمكن لا التلاميذ الصغار ولا معلموهم من الدوام في تلك المدرسة حتى تتم تصفية الخلاف العشائري مع المدرسة برمتها، التي أغلقت أبوابها بسرعة البرق خوفاً على تلاميذها وأدارتها.

هذه الظاهرة باتت تتكرر في مناطق ومحافظات مختلفة من العراق ومنها محافظة ميسان تسبقها في العادة ما تسمى ب«الدكة العشائرية»، وهي إنذار بالذخيرة الحية لمواطن لديه نزاع مع مواطن آخر سرعان ما يتحول إلى قضية بين عشيرتين، ومن أجل توجيه إنذار صارم للشخص المعني بأن عليه تهيئة نفسه وزعماء عشيرته ل«فصل عشائري» قد يبَلغ أحياناً مئات ملايين الدنانير، تأتي مجموعة من الشباب ليلاً إلى منزله ويمطرونه في أماكن مختلفة من السياج بوابل من الرصاص وأحياناً تصاحب ذلك الرصاص هوسات شعبية يرددها المهاجمون الأشاوس (شجابك للسم تلعب بيه).

وطبقاً لقواعد «الدكة العشائرية»، فإن الإطلاقات ينبغي ألا تصيب أحداً في البيت، بما في ذلك الحيوانات (إذا كان صاحب المنزل لديه في الحديقة كلاب أو طيور)، لأن إصابة تلك الحيوانات ترتب فصلاً آخر قد يكون فصلاً دموياً من فصول المواجهة الدامية بينهم.

وفي ميسان توجد قبائل وعشائر عربية كريمة ساهمت وبشكل كبير من خلال أبنائها في رسم تاريخ الدولة العراقية الحديثة وبنائها، إلا إن هناك بعض السلوكيات التي تصدر من بعض أفراد هذه العشائر يترتب عليها تهديد الأمن والسلم المجتمعي، ومن هذه السلوكيات ما تعرف باللهجة العامية (الدكة العشائرية) هذه الممارسة العشائرية كانت إلى وقت قريب قليلة الحدوث وتقتصر على المناطق الريفية والقرى فقط، إلا أنها ولأسباب كثيرة منها سياسية ومنها اجتماعية وغيرها بدأت بالانتقال من البيئة الريفية إلى المدن وبشكل متصاعد ومتسارع بحيث تحولت من ممارسات فردية عابرة إلى ظاهرة تهدد امن الإفراد وامن الدولة بشكل عام، إذ إن حدوثها أصبح بشكل شبه يومي أحياناً.

وتترتب على هذه الممارسات الخطيرة جملة من النتائج أبرزها بث حالة من الخوف والهلع في قلوب الأبرياء قد تصل إلى مرحلة إرهاب الناس الآمنين، أو حدوث جرائم قتل، أو استغلالها لغرض الحصول على فصول عشائرية دون وجه حق أو حل النزاعات دون اللجوء للجهات القضائية صاحبة الاختصاص الأصيل في حل النزاعات بين الأفراد ومن ثمّ تغييب دور القضاء في فض هذه النزاعات والمساس بهيبة الدولة في المحصلة النهائية، مما يفرض على الدولة بمؤسساتها كافة التصدي لهذه الظاهرة بالمعالجات الفعالة والتي تتناسب مع حجم التهديد الذي تحمله هذه السلوكية الخطيرة جداً.

وذات ليلة في الصيف الماضي، استيقظت مع أفراد عائلتي مذعوراً على أصوات رصاص كما لو كانت تمطر منزلي، أسرعت في الخروج بعد أن وضعت الطلقات أوزارها فوجدت معظم سكان الزقاق خرجوا مذعورين لأن كل واحد منا تصور أن منزله هو الذي أمطروه بالرصاص، وفي جولة سريعة بعد منتصف الليل وجدنا آثار الرصاص على منزل مجاور لا يسكنه أحد، بعد يومين ظهر أن أصل الخلاف الذي أدى إلى إمطار هذا المنزل بالرصاص الحي كان نتيجة خلاف على سعر سيارة مباعة وقيد التسجيل.

نعم كل ليلة لا تكاد تخلو محلة أو زقاق أو منطقة في محافظة ميسان من «دكة عشائرية» حتى باتت تهدد السلم المجتمعي وسط ضعف واضح في تطبيق القانون.. وزير الداخلية السابق قاسم الأعرجي أعلن من جانبه أن وزارته ستتعامل مع «الدكات العشائرية» بوصفها إرهاباً، رغم المحاولات التي بذلها على هذه الطريق لكنها لم تشكل رادعاً في غياب التوصيف القانوني لها،حينها حسم القضاء العراقي الأمر إذ أصدر رئيس مجلس القضاء الأعلى توجيهاً بأن تعامل الدكًة العشائرية وفق قانون مكافحة الإرهاب النافذ.

كذلك انتشار المظاهر المسلحة داخل المدن مع انتشار واسع للأسلحة الخفيفة والمتوسطة، وحاملو السلاح هؤلاء ربما يكونون قد حصلوا على القليل من التدريب،وقد بينت أمثلة حديثة كيف أن انتشار المجموعات المسلحة أدى إلى انتهاكات مروعة ذهب ضحيتها السكان المدنيون نتيجة نزاعات شخصية،أو عائلية،أو عشائرية لم تستطع الدولة السيطرة عليها بسبب قوة نفوذ تلك المجموعات المسلحة وضعف الدولة وعدم قدرتها اللوجستية في بسط سلطة القانون على الجميع.

وقد أثبتت بعض الدراسات أنّ الوفيات والإصابات الناجمة عن استعمال الأسلحة الصغيرة والخفيفة أكثر من تلك الأسلحة الثقيلة،وبوسع أي إنسان حتى الأطفال تشغيل تلك الأسلحة فهي خفيفة وسهلة الحمل،كما أنّ استخدامها يسير لا يحتاج إلى تدريب. العنفُ ظاهرةٌ ليست غريبةً على البشر، وقد كان العنفُ في العالم القديم أشدَّ حضورًا، وكلّما تطوّر الوعي تحضّرتْ حياةُ الإنسان واتسعتْ مساهمةُ الوسائل السلمية في حلّ نزاعاته، وإن كان العنفُ يتخذ أشكالًا أشدَّ خفاءً وخبثًا مع تطوّر الوعي البشري.

خامساً: المرأة العراقية ومطرقة التقاليد المجتمعية

خلال الفترة السابقة تركز دور المرأة في العمل على الأعمال المنزلية، إذ كانت معظم أعمالها تتركز في الطهي للأسرة، أو صناعة الملابس في كل خطواتها والتي تستغرق عادة الكثير من الوقت مثل غزل الخيوط، ونسج القماش، والخياطة، وإصلاح الملابس، بالإضافة لمسؤوليتها عن الأعمال البيتية ورعاية الحيوانات بجانب العناية بالأطفال، وبالرغم من تقسيم العمل بين الرجل وبينها بكونه مسؤولاً عن الأعمال الزراعية واختصاصها بشؤون البيت فإنها كانت تساعده وقت الحصاد، ومن المعروف أن المرأة في المدينة كانت تعنى بكل ذلك مثلها مثل المرأة الريفية مع مراعاة اختلاف البيئة، بالإضافة لوجود بعض الأعمال في المدينة والتي تتعلق بجزء من النساء كالأرامل والعزباوات في الصيدليات وأماكن الحلاقة والتجميل وغيرها.

التقاليد المجتمعية:

كانت المرأة العراقية وما زالت، قابعة بين سندان العشيرة ومطرقة التقاليد المجتمعية البالية، خصوصًا في المناطق التي تبرز فيها سلطة العشيرة على حساب القانون، فتصبح المرأة مسلوبة الحرية، مقيدة الإرادة، ليس لها الحق في اختيار أبسط حقوقها كالزواج مثلًا، حيث الفصلية أو "الدية" وأنواع الزواج ألقسري الأخرى وتقديم النساء ك "قرابين فداء" لإنهاء الخلافات والنزاعات،إذ تستغل المجتمعات العشائرية النساء وتقدمهن "قرابين فداء" لإنهاء النزاعات أو ترهنهن بأنواع الزواج ألقسري المهين.

ينظر إلى المرأة كسلعة مقايضة، في مشهد يعيدنا إلى العصور الجاهلية، حيث يتاجر بالمرأة في سوق النخاسة، أو تدفن تحت الأرض، دون أي اعتبار أو احترام لها ككيان مستقل وفق القانون، أو حتى الالتزام بالتعاليم الدينية بشأنها. ففي البصرة مثلًا منحت إحدى عشائرها نحو50 أمرأه بينهن قاصرات، لعشيرة أخرى لحل النزاع بينهما.

الزواج بالإكراه:

وعلى الرغم من أن الدين الإسلامي لديه موقف واضح يحرم هذه الممارسات ومن بينها إعطاء المرأة كتعويض عن جريمة اقترفها أحد أقاربها "فصلية"، كما تؤكد مرجعيات دينية منها المرجعان محمد صادق الصدر والمرجع الأعلى علي السيستاني، بما يمتلكانه من ثقل في المجتمع، إلا أنها لا تزال قائمة في مناطق كثيرة من البلاد، خاصة في الجنوب العراقي.

يقول الشهيد الثاني السيد محمد صادق الصدر في كتابه فقه العشائر: "لا تصلح المرأة للدية". وحول موضوع "النهوة" حيث يمنع ابن العم بنت عمه من الارتباط والزواج بغيره، وقد أفتى السيد الصدر - رحمه الله - بأن ذلك غير شرعي ولا أثر له إطلاقًا. وقال: "لا يجوز تأخير الزواج وإعضال المرأة بمثل هذه الحجج غير الشرعية"، أما المرجع السيد السيستاني فقد أفتى بحرمة "النهوة" وعدها من الظلم وفيها تجاوز على حدود الله".

ربما لا تلتزم بعض العشائر العراقية بالتعاليم الدينية بشأن المرأة، أما القانون فلا اعتبار له في دواوين شيوخ العشائر التي يحج إليها السياسيون مع كل انتخابات من أجل حشد الهمم والحصول على أعلى الأصوات.

وهناك زواج يسمى شعبيًا ب "الكصة بكصة" وهو عرف عشائري آخر جائر، يحدث عندما يرغب الشاب بخطبة فتاة ما يحبها فيضطر إلى أن تزويج شقيقته لشقيق خطيبته، وهذا الزواج إن حقق سعادة لأحد الطرفين فهو يحقق التعاسة للطرف الآخر، فتكون الفتاة هنا ضحية لأخيها دون أن يفكر بمصلحتها.

وعلى الرغم من أن المادة التاسعة من قانون الأحوال الشخصية العراقي قد نصت على منع الزواج بالإكراه وعقوباتها السجن بين 3 أو 10 سنوات، إلا إن سلطة العشيرة أكثر قوة في المجتمعات التي تفتقر إلى الثقافة القانونية والتي تكون سلطة القانون فيها ضعيفة وهشة، ربما بسبب تبادل المصالح بين رؤساء العشائر والسياسيين الذين يحجون إلى مضايف شيوخ العشائر مع كل انتخابات محلية أو تشريعية، للحصول على الدعم والمؤازرة.

لشيوخ العشائر شريعتهم الخاصة التي تعرف ب "السنينة العشائرية"، وهي مجموعة من الأحكام والبنود يضعها رؤساء العشائر وتكون بمثابة الدستور الشرعي، لغرض السيطرة على شؤون العشائر ويوفر لها الأمن داخليًا وخارجيًا، على الرغم من مخالفة هذا النصوص للأحكام الدينية والقانونية لكونها تستند إلى عادات متوارثة من قبل أشخاص قد لا يجيدون حتى القراءة والكتابة ويتحكمون بمصائر أفراد العشيرة.

يشار إلى أن مجلس القضاء الأعلى، وجه خلال جلسته الأولى المنعقدة في 10 كانون الثاني/ يناير2019، بتطبيق أشد العقوبات بحق مرتكبي جريمة "النهوة" العشائرية، حيث قال أحد قضاة التحقيق "إذا كانت الفتاة بالغة لسن الرشد فان القانون يسمح لها بتحريك دعوى قضائية ضد من نهى عليها كما أن ذويها باستطاعتهم تقديم شكوى ضد الناهي في حال لم تبلغ السن القانوني".

وهنا تضع الأحكام العشائرية المرأة أمام خيارين، أما الاستسلام والتحول إلى سلعة تباع وتشترى مجردةً من كرامتها وشخصيتها، أو التمرد لتلقى حتفها قتلًا أو تقدم هي على الانتحار كخيار أخير للتخلص من قيود المجتمع والعشيرة وحتى الأسرة غالبًا.

لذلك ينتهي مصير النساء إلى الموت في حال التمرد على الأعراف القبلية والعشائرية الجائرة إما بالقتل أو الانتحار، الذي ارتفعت معدلاته بشكل كبير مؤخرًا

تشير إحصائيات الانتحار الرسمية والتي تصدر عن مفوضية حقوق الإنسان، إلى أن الحصة الأكبر للنساء، وذلك لعدة أسباب من أهمها القمع والتهميش، الذي تتعرض لها المرأة بشكل دائم وخصوصًا في المجتمعات العشائرية. لقد بات العنف ضد المرأة ظاهرة تؤثر على مصداقية وسمعة العراق في المحافل الدولية، بعد أن تصاعد بوتائر سريعة في السنوات الأخيرة.

قتل النساء:

أما حوادث قتل النساء فجارية على قدم وساق، بحجج العادات والتقاليد ضمن حفلات الموت في البلاد، كما حصل في مدينة النجف عام 2018، حيث أقدم شاب على قتل شقيقته بعد إخباره من قبل زوجها بأنها ليست "عذراء" وعند تشريح الجثة كانت المفاجأة، حيث بينت النتائج أن الفتاة كانت عذراء وأن غشاء بكارتها كان من النوع الذي يستدعي تدخلًا جراحيًا لفضه.

أو ما حصل في محافظة الديوانية في 5 أيار /2019، حيث انتحرت امرأتان في ذات اليوم إحداهن لأسباب مجهولة، أما الثانية والتي تبلغ من العمر 22 ربيعًا، فقد انتحرت نتيجة ل "نهوة" ابن عمها بعد أن تمت خطبتها من قبل شاب من خارج العشيرة، حيث قامت بشنق نفسها بالحجاب الذي ترتدي.

زادت بعد عام 2003 جرائم " الشرف" والقتل "غسلا للعار" تزامنا مع انهيار الأوضاع الأمنية وتزايد العنف الطائفي والانقسامات المجتمعية في البلاد. ويعتبر العنف الأسري ضد النساء أمراً تحاول المؤسسات الحكومية المعنية إخفاءه وعدم الإعلان عنه، بينما تقيد الأعراف العشائرية والتقاليد البالية في المجتمع بحصره في دائرة مغلقة وعدم إثارته أو تقديم الدعاوى الخاصة به إلى المحاكم المختصة.

لقد أصبحت ظاهرة انتحار النساء في العراق مقلقة وفي تزايد، وهي في نهاية المطاف تعكس حقيقة ازدياد العنف الأسري تحت طائل تأثيرات الوضع الاقتصادي والمعاشي المتردي وعدم تكافؤ الفرص والبطالة واستلاب حرية المرأة، إضافة إلى عمليات الإرهاب التي طالت حياتها ودمرت آمالها ومستقبلها.

وكانت قد توفيت في بغداد، خلال آب (أغسطس) وأيلول (سبتمبر) 2018، ولأسباب مجهولة، خبيرة التجميل رفيف الياسري، وبعد أسبوع توفيت رشا الحسن (إعلامية وصاحبة مركز للتجميل في بغداد) ثم اغتيلت الناشطة العراقية سعاد العلي في أحد أبرز المناطق التجارية بالبصرة، بعدها اغتيلت ملكة جمال بغداد ووصيفة ملكة جمال العراق لعام 2015 تارة فارس، من دون أن تعلن وزارة الداخلية أو الجهات الأمنية المسؤولة الأسباب الحقيقية وراء ذلك.

في بيان وجهته منظمة اليونيسيف التابعة للأمم المتحدة، لإنهاء العنف ضد النساء في العراق، في تشرين الثاني (نوفمبر) 2018أكدت فيه:" لا تزال النساء والفتيات من خلفيات مختلفة في العراق عرضة للعنف إن كان في المنازل أو في المدرسة أو في الأماكن العامة". وبحسب دراسة آجراها صندوق الأمم المتحدة للسكان آن "63 في المائة من حوادث العنف القائم على النوع الاجتماعي في العراق مرتكبة من قبل احد أفراد الأسرة". وأضافت الدراسة: "إن التهديد ومخاطر العنف لازالت قائمة ضد النساء والفتيات، لا سيما العنف الجنسي والاستغلال الجنسي والمضايقة، وزواج الأطفال في مناطق النزوح، وتلك التي يعود أليها النازحون، إذ يتم تزويج فتيات بعمر 12 سنة".

إن التقاليد والعادات والأعراف الاجتماعية البالية في حياة المجتمع لا تختفي بسرعة، إذ آن زوالها يتطلب، إضافة إلى حملة توعية واسعة وإصدار القوانين الرادعة، إلى نهضة صناعية وزراعية وتعليمية وثقافية تبنى على أساسها القاعدة المادية الأمتن للمجتمع المدني المتطور، بعيدا عن نظرة المجتمع ألذكوري الضيق الذي يعتبر المرأة "سلعة" تباع وتشترى و ينعتها ب "ناقصة العقل".

المرأة الميسانية:

حتى اليوم نشاهد المتظاهرات من خريجات المعاهد والكليات وصاحبات الشهادات العليا يتظاهرن في الأماكن العامة، وأمام الوزارات والشركات الحكومية لغرض الحصول على وظائف ولكن دون جدوى، وقد يبرر البعض عدم التوظيف هو لعدم وجود درجات وظيفية شاغرة، وهذا المفهوم خاطئ.. وإنا أرى أن جميع من يدير تلك الدوائر الحكومية هم من خلفيات متطرفة لا تؤمن بعمل المرأة وخروجها لجو العمل الذي سوف يفشل أفكارهم المتحجرة.

وهذا لا يعني أن الإسلام لا يسمح للمرأة بالعمل، بل بعض الأحزاب وخلفياتها المتحجرة هي من جرت البلد إلى هاوية الإفلاس،وجعلته يستدين قبل اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية لغرض تسديد رواتب الموظفين والعاملين في القطاع الحكومي.

اليوم تتظاهر بناتنا أمام (شركة نفط ميسان) جنوبي العراق وقد نصبن خيمة كبيرة إمام مبنى الشركة مع مجموعة من الشباب من خريجي الاختصاصات النفطية وقد مضى على هذا الاعتصام أكثر من سنة ولكن دون جدوى.

قام أحد المسؤولين بزيارة لإحدى القرى النائية وسأل أهلها: ما هي مشكلتكم ؟ قالوا: يا سيدي نعاني من مشكلتين: الأولى لدينا مركز صحي،ولكن ليس لدينا طبيب ؟ قال: حاضر، واخرج هاتفه من جيبه واتصل وقال: غداً ترسلون طبيب للقرية،وأقفل هاتفه وأرجعه لجيبه ثم قال: ما هي مشكلتكم الثانية ؟ قالوا له: لا توجد تغطية للهاتف الجوال في القرية.

سادسا: الحياة بين الماضي والحاضر

إذا توغلنا قليلاً في الماضي القريب واستطلعنا بشكل مختصر مراجعة حياة أجدادنا، وآبائنا، لوجدنا ان إيقاع الحياة آنذاك مختلف تماماً عما هو عليه الآن.. كان إيقاعاً فيه تأمل وصمت وإنصات، وأمزجة الناس كانت متوائمة ومتسقة تماماً مع صيرورة الحياة، نأخذ أقرب مثال فيها أصوات الناس آنذاك، هي غيرها الآن، فأصواتهم صافية، موسيقية، جميلة؛ لذلك كان الغناء الفطري والموسيقى في ذلك الزمان جميلين، بسبب صفاء الهواء والماء والغذاء من كل الملوثات التي نشهدها الآن، وهي على تنوعها، الكيماوية، والإشعاعات الكهرومغناطيسية، وإشعاعات أجهزة الاتصال، والكثير لا حصر له في الغذاء، والماء، والهواء، وكل ذلك له أبلغ الأثر في صحة الناس الجسدية، والنفسية، والمزاجية، وتأثيراته في جمال الأصوات.

الموسيقى والغناء في الزمن القديم كانا بطيئين يسيران وفق إيقاع الحياة، فآذان الناس سمّاعة للأنغام والموسيقى الطويلة المتأنية، وتأنس بها خلاف الحياة الآن، فإيقاعها سريع، وكل ما فيها يمضي بسرعة، التكنولوجيا المتطورة المواكبة للحياة البشرية غطّت كل مجالاتها، وفي كل مجال لها باع طويل، وتتغير الحياة وفقها، نمط الحياة تغير، وكل شيء غدا سريعاً، ونحن في سباق مع الزمن السريع.

الملوثات الخطيرة في الهواء والماء والغذاء كلها لها أبلغ الأثر على الصحة العامة، حتى أصوات الناس لم تعد صافية موسيقية جميلة كالسابق، فضلاً عن سرعة الحياة، فلا توجد متعة في الموسيقى والغناء كما السابق.. الحياة صارت لحظية، لذلك نرى الغناء الآن كله عبارة عن لقطات خاطفة براقة أو ما تسمى (فيديو كليب)، وهي تجسّد صورة من صور الحياة التي تمضي بسرعة البرق الخاطف، كون الحياة آنذاك بطيئة تأملية، حتى أسماء الناس طويلة وتلفُظها يحتاج إلى نفس طويل، فأسماء البنات كان ينتهي بالياء المشددة والتاء المربوطة مثل: (هاشمية، كاظمية، جاسمية، جمهورية، لطفية..الخ) وبعضها ينتهي بتاء مربوطة مخففة: مثل (مليحة، مديحة، صبيحة، نعيمة..الخ) وبعضها ينتهي بتاء مربوطة لكن أجمل من السابقة مثل: (خالدة، ساجدة، ماجدة..الخ). حتى بين الطبقة المتحضرة الأسماء لو كانت جميلة لكنها تلفظها بصعوبة مثل: (انتصار، انتظار) والسبب كما عبرتُ هو إيقاع حياة الناس كان بطيئاً تأملياً، ونفسهم كان طويلاً، فكل شيء يسير ببطء وتأمل. أما الأسماء في الزمن الحاضر فهي قصيرة سهلة اللفظ تتناغم وإيقاع الحياة السريع غير المتأني، وتتواءم مع نَفَس الناس السريع الذي لا يقبل البطء، فأسماء البنات القديمة اختفت وحلت الأسماء الجديدة وأكثرها لاتينية لسهولتها مثل: (روان، ليان، أديان، ريماس، لورا، لارا، سارا، سما، شدا، رنا، رولا..الخ). إذ لا وجود لجرس موسيقي في الأسماء، فهي سهلة اللفظ وهي موائمة للزمن الحاضر وسرعته الفائقة.

الأزياء: كانت الأزياء في زمان مضى فيها من التعقيد والخياطة الجميلة بموضات مختلفة، والأقمشة كذلك كانت تُلزمنا على تصفيفها الدائم بآلة المكواة، في حين الأزياء الآن تخلو تماماً من التعقيد، فالأقمشة عملية من النوع السريع اللبس ولا يحتاج المكواة، ولا تحتاج للاهتمام الزائد في النظر أليها لكونها مصنوعة من مادة مطاطية (البولستر آو الستريج) والأزياء تقريبا الآن أصبحت موحدة عالمياً.

نرى أحيانا في بعض أزياء الجيل الجديد ثقوباً وتشوّهات في موضات خياطة الألبسة، وهي مقصودة، حتى يتلافى الجيل الجديد النظر لزيّه والمضي السريع فتيار الحياة جارف خاطف، ولسان حاله يخاطب الجيل: ارتدوا زيّكم وامضوا سريعاً، نحن جيل السبعينيات الآن نبحث في الأسواق حتى نعجز ونتعب ولا نعثر على أزيائنا بسبب اختلاف الأزياء الذي لا يتفق مع أذواقنا نحن القدامى ذوي الأناقة المتميزة التي يفتقدها جيل اليوم.

الطعام: كانت هناك خصوصية ومواسم لأكلات معينة في محافظة ميسان،كالهريسة التي تطبخ في شهر محرم(عاشوراء) وخبز السياح لا يأُكل ألا صباحاً مع كَيمر العرب وحليب الجاموس، وفطيرة الطابكَ التي فحواها أن يغرس السمك الصغير(الزوري) بعجينة الرز وتطبخ على قاعدة طينية ساخنة وتأُكل في الغداء فقط.

في الزمن الماضي كان للطعام نكهة لذيذة خاصة، فالأمهات يجهدن أنفسهن بإعداده لساعات طويلة في المطابخ، بينما الآن نرى على شاشة التلفاز يعدون وجبة طعام خلال نصف ساعة، وبعضها بعشر دقائق، وطغت عليه الدهون المشبعة والكريمات والأجبان المذابة، وسمي (Fast-food) ويعني الغذاء السريع، كالبيتزا، والهمبركر وغيرها من الأغذية التي يدخل في إعدادها الأجبان المذابة واللحوم بأنواعها التي تشكل خطراً كبيراً على صحة الإنسان.

(فاست فوود): يعني كُلْ سريعاً وأنت واقف، فالحياة لحظات سريعة لا ينبغي لك التأمل والحديث حول مائدة الطعام كما في السابق، فالحياة تسبقك وهي لحظات انزلاقية، نعم هذا لسان حال (الفاست فوود) يقول لنا، وهو أحد صور العولمة، التي اقتضت أن نعيش كلنا على سطح الكوكب الأرضي الشاسع لكن في قرية صغيرة، فوسائل الاتصال الاجتماعي هي إحدى صور العولمة (الفيسبوك، الوات ساب، الفايبر، تانكو، تلكرام..الخ). وتوحيد الزي العالمي أيضاً هو أحد صور العولمة الحديثة.

المعلومات التي ينقلها لنا الطب الحديث مخيفة، فإحداها إن الرجولة كلما تتقدم الأجيال تضعف بسبب ضعف هرمونات الذكورة عند الرجال، والسبب كما أسلفت إيقاع الحياة الحاضرة والتغيرات الجذرية التي طرأت عليها، فنوع الغذاء وتلوث الهواء ليس بعوادم السيارات، والمصانع، وغيرها فحسب، بل حتى الإشعاعات والأمواج التي تبثها شبكات الاتصال، وكل أجهزة الاتصالات، والعواصف الشمسية، والتغيرات المناخية التي طرأت على سطح الكوكب الأرضي، فضلاً عن نوع الأنسجة التي تصنع منها الألبسة، والأفرشة، وأنواع الموكيت، و السجاد كلها تضعف هرمون الذكورة، وفوق ذلك الاختلاط الفوضوي والعشوائي بين الذكور والإناث.

سابعاً: النتائج والمقترحات

بعد ان وصلنا الى نهاية المطاف من بحثنا يقتضي علينا فيما يلي ان نسطر ابرز النتائج التي تمخضت عنها هذه الدراسة واهم التوصيات بخصوصها بما فيه صلاح الناس ودوام تحقيق الرفاهية للمجتمع.

النتائج

1. أن “تعقيدات الوضع الأمني والسياسي انعكست سلبا على الوضعين الاجتماعي والاقتصادي مما فاقم ووسع من ظاهرة النزاعات العشائرية في العراق مع تعدد اشكالها وطرقها.

2. ان حاملي السلاح المنفلت أصبحوا يستخدمون مختلف الطرق والأساليب المباشرة وغير المباشرة لاستخدامه متى يشاؤون، فلابد من تعديلات قانونية وتفعيل دور المؤسسات المعنية لمواجهة هذه الظاهرة.

3- يعاني المجتمع العراقي من سطوة القبيلة على الحياة المدنية، وسبب ذلك يعود لناحيتين: -

تشجيع الدولة العشائر، ودعمها ومساندها لإحكام العشيرة، حيث تعالج السلطة الحاكمة فشلها في إدارة الدولة، عبر إعطاء دور واسع للعشائر للقيام بمقام الدولة في حل النزاعات ومعالجة القضايا، التي فشلت الدولة في معالجتها نتيجة تعطيل القانون.

تعطيل القانون، حيث قصدت السلطة تعطيل القانون، لتجد من خلال التعطيل استمرار سطوتها على الحكم، فيكون بالمجموع أن محنة المجتمع سببها متابعة السلطة والأحزاب لشهواتها، بعيد عن قضية الوطن والقانون وإقامة العدل.

النظام العشائري هو النافذ ألان، وله مكانة كبيرة بسبب ضعف السلطة، ويملك وضع مهم في كيان الدولة، بالتأكيد أن العشائر تجتهد في استمرار نفوذها، وتكرس هيمنتها في المجتمع، فتنصب نفسها محاميا لإفراد العشيرة، وقاضيا بين افراد المجتمع، فطريقا الوحيد لكسب الحقوق يمر عبر العشيرة، بعد أن مات الدور الحكومي، ولولاها لما وصل صاحب حق الى حقه، نتيجة غياب القانون الحامي للإفراد، فوجودها جاء لسد ثغرة كبيرة في الدولة العراقية.

دور العشيرة أصبح متداخل مع السياسية نتيجة النظام السياسي القائم على دعم العشائر واستنهاض قيم العشيرة، لذلك من الصعوبة أن يتم الغاء هذا الدور من دون إصلاحات سياسية كبيرة، فعلة الأمر انطلق من الطبقة السياسية الفاسدة. والسؤال المطروح عن اسباب هذه الظواهر والمظاهر السلبية وما هي دوافعها ومبرراتها الاجتماعية ؟.

غياب وضعف دور الأسرة.. يقول الكاتب والمؤلف الامريكي “ستيفن كوفي” (2012-1932) وهو أب لتسعة أبناء وجد 49 حفيداً، وصاحب الكتاب الشهير “العادات السبع للأشخاص الأكثر فاعلية” إن الأسرة هي أهم وأعظم مؤسسة في العالم، إنها لبنة البناء في جدار المجتمع، ولا يمكن أن تقوم قائمة أية حضارة دون تماسك الأسرة، ولا أن تحقق أية مؤسسة أخرى في الوجود دورها المهم ”.

لقد عانى ويعاني المجتمع العراقي من ظاهرة انهيار وتفكك الاسرة بشكل واضح منذ ان زج المجتمع بحروب عبثية لا ناقة له فيها ولا جمل، أذ فقدت العديد بل الآلاف من الاسر العراقية رب الأسرة والمعيل لها، ومن المؤكدٌ أن للأب دوراً كبيراً في الضبط الاجتماعي فهو رمز للسلطة والقوة، والابن يحاكي الأب في السلوك ومن خلال الأب يتعلم الأبناء الكثير وتنضج خبرتهم ويتعرفون على الحياة.

ولما كان الخلل الذي اصاب الدولة وبنيتها التحتية خصوصا” بعد الاحتلال الامريكي للعراق في عام 2003، وما سبق ذلك من حصار جائر فرضته الولايات المتحدة على العراق، قد اثر بشكل واضح على مؤسسات التربية والتعليم في العراق، الامر الذي جعلها عاجزة عن معالجة الاختلالات التربوية الناجمة عن غياب الاب او المعيل في الاسرة العراقية.

كما أن حالات النزوح والتهجير التي حصلت ولازالت بسبب الارهاب والصراعات الطائفية والمذهبية أوجدت شروخا” وجروحا” عميقة وكبيرة في بنية الاسرة العراقية انعكست على بنية وترابط الاسرة وعلاقتها بمحيطها الاجتماعي.

وعلى الرغم من مضي 22 عاماً على دخولنا القرن الحادي والعشرين ورغم كل التحديثات والتطور الذي شهده العالم، إلا أن العراق يبدو غارقاً في الماضي في الكثير من تفاصيله.

فاللقب والقبيلة والعشيرة باتت أمراً ضرورياً وملتصقاً بالمواطن العراقي لا من باب النسب والتعريف فقط بل من أبواب أخرى تمس صلب حياته الاجتماعية وشؤونه اليومية، وبمثابة حالة حماية فرضتها ظروف التغيير بعد عام/ 2003 وهذا ما دفع الاف المواطنين الى محاولة استعادة لقبه المفقود، واستبداله لأسباب شتى، منها بسبب التبارز الاجتماعي بالألقاب، وسطوة بعض العشائر وسلطتها على القانون،حيث يقدم قرابة (200) مواطن يومياً للحصول على لقب جديد.

حتى مقبرة وادي السلام في مدينة النجف الأشرف لم تخل من الالقاب العشائرية، فهذه مقبرة عشيرة البو غنام وتلك مقبرة بني لام، وهذه مقبرة بيت وادي، وتلك مقبرة بيت حسان.. والبعض من الموتى لازال يحتفظ بصورته العشائرية، وهو يرتدي الزي العربي ومكتوب على قبرة الشيخ فلان زعيم عشيرة..! وكأنه يمارس دوره القيادي الذي فقده وهو تحت التراب.

فالمجتمعات القبلية والعشائرية لن تصل مطلقاً إلى بناء دولة المجتمعات المتحضرة، وهذا لا يعني إلغاء تلك المكونات الاجتماعية الأصيلة، إلا إنه لا يجوز أن يكون لها دور في بناء الدولة ومؤسساتها؛ لأنها تتعارض مع وحدة المجتمع والقانون والدستور والنظام العام.!

المقترحات

الحل الممكن هو الأخذ بالتجربة الإيرانية وتطبيقها في العراق، فهي الأقرب لمجتمعنا، عبر سن ديات لكل اعتداء، مثلا للقتل دية، بل حتى للصفعة دية، وللركلة دية، والخ.. وتكون هذه الديات كبيرة جدا، بالإضافة للشق القانوني باعتبار الأخذ بحق المجتمع من المعتدي، مع تفعيل دور الشرطة، عبر نشر دوريات في الشوارع والأسواق والمدن، بالإضافة للعمل بنظام كاميرات المراقبة، وهكذا يمكن السيطرة على النزاعات التي تحصل في الشارع، لان المواطن عندها سيصبح مدركا عواقب كل فعل يعمله، فيسكت ويبتعد عن المشاكل، ويتحول المجتمع الى مجتمع يبحث عن السلام.

عندما يفعل هذا الحل يتقلص دور العشيرة، ويصبح دورها شرفيا ومن الإرث، وتتعطل كذلك أعراف العشائر، ويصبح الدين والقانون هما الفاعلان في الحياة، والشعب العراقي يحتاج للسلام والأمن، فقد أتعبته الحياة في ظل حكومات جبارة، لا تهتم بما يعانيه، حتى تحول الى مجتمع غابة تحكمه قوانين القبيلة.

هذا الحل الممكن أن يغير حياة العراقيين، ويكون خطوة كبيرة نحو مجتمع مسالم محب للحياة، محترم للدين والقانون، لكن لا يمكن أن يتحقق مع تواجد الطبقة السياسية الحالية، حيث هي فعلت وعن عمد كل الخطوات التي تمد بعمر الفوضى، فهي لا تريد للقانون أن يحكم، لأنها تجني مكاسب عظيمة في زمن الفوضى، فلجأت عندها لتضخيم دور العشيرة كي توفر الحد الأدنى من الحماية، لإفراد الوطن ورد الحقوق.

الحل ليس مستحيلا بل سهل ويسير فقط يحتاج لإرادة حكومية وبرلمانية، لكن تغيير فكر الطبقة السياسية هو ما يعد من المستحيلات، فهي لا تعمل الا عندما تشعر بان هناك ضغطاً عليها، وهنا ندعو المؤسسات التعليمية والإعلام، في الدفع بالسلطة التنفيذية والبرلمان لفعل شيء ما، لهذا الشعب المقهور.

الخاتمة

لعل اكثر الأشياء التي افتقدها المجتمع العراقي هو السعادة، فالسعادة في البيت غائبة وفي العمل معوقة،اما في شوارعنا المقطعة،فهي ساقطة في الحفر ومختنقة بدخان السيارات، الكهرباء متقطعة والمستشفيات مريضة،والرافدان يبكيان بدموع جافة على بساتين العراق الخاوية.

أي فخ تعس وقع فيه العراق هذه حقيقة لا اريد ان انتقص بها من مجتمعي لا سامح الله،ولكن ربما كان للتكوين او التشكل الذي مر به والنكبات التي طرزت حياته،تؤيد ذلك وتؤكده، فالشواهد كثيرة والشهود طوابير، ولكي لا نذهب بعيدا في التاريخ دعونا نتذكر فقط مآسي الحرب الإيرانية العراقية ثم تجويع شعب بالكامل لأكثر من عشرة سنوات بحجة تأديب النظام العراقي لأنه غزا الكويت، ثم جاء الامريكان ومزقوا العراق.

في بلادي تجد الأغلبية تدعي السعادة لكنها لا تعيشها حقيقة هم يتظاهرون بالسعادة،او لنقل:انهم مجاملون اكثر من كونهم سعداء !!! سبحان الله !!! اغانينا مغروسة في الحزن، مليئة بالشكوى وسوء الحظ والخيبة والال ثقافتنا حزينة،ونحن العراقيون نتفنن في ابتكار الاحزان.

* وفي مدينتي.. لا نبحث عن المستقبل، بل نعيش الماضي القابع في مناهجنا الدراسية.

* في مدينتي.. يسقط حلم الحب، وتبقى بشاعة البكاء على الماضي البعيد قائمة بالحقد والكراهية على قبائل سادت ثم بادت.

* في مدينتي.. لن تعيش طويلاً من شدة حرارة الجو، وانقطاع التيار الكهربائي، والرمي العشوائي بمناسبة أو بدون مناسبة.

* في مدينتي.. يمكن أن تعايش الأصنام، وترى أبي جهل وأبي سفيان يومياً وهم يحملون أجهزة الهاتف النقال (الأيفون) بباب المعبد.

* في مدينتي.. نبتسم للجميع من باب المجاملة، ونبكي خفية من رعب السلاح المنفلت، ويمكن أن نختلس النظر من تحت النظارات السميكة بعد قراءة المعوذتين.

* في مدينتي.. يمكن أن تنزل المليشيات الوقحة دون أسلحة فتاكة، ولكن بولاءات القيادات القائمة، وبسند أولياء الله الصالحين.

* في مدينتي.. أفضل هبة من الله أننا نتناسى أحداث يومنا، ثم نخلد لنوم الشاكرين.

* في مدينتي.. نعمة النسيان أضحت تبدع لنا برنامج عمل للتخلي عن أفق الحاضر و حلم المستقبل.

***

شاكر عبد موسى / العراق

كاتب وأعلامي

........

المصادر والمراجع

1- الوردي، علي، كتاب مهزلة العقل البشري، دار ومكتبة دجلة والفرات.. بيروت

2- اللاري، السيد مجتبى الموسوي، كتاب دراسة في المشاكل الأخلاقية والنفسية.. إيران.

3- مجلة المنبجسات الرضوية العدد 13 لعام 2014.. إيران.

4- صحيفة المثقف الصادرة في استراليا / سدني.. أعداد متنوعة.

5- موقع كتابات.

6- موقع دنيا الوطن.

7- موقع أيلاف.. المجتمع القبلي والمجتمع المدني/ سالم اليامي / في 6 سبتمبر 2010.

8- موقع الحرة عراق.. نقلاً عن وكالة فرانس برس.

9- موقع صوت العراق/ الحل السحري لأنهاء النزاعات العشائرية/ أسعد عبدالله عبد علي.. كاتب وأعلامي عراقي 13 حزيران 2022.

10- مؤسسة الهدى للدراسات الاستراتيجية في ميسان/ الأزمة العشائرية في ميسان.. أثارها وأسبابها ومعالجاتها / أعداد الاستاذ حسين جلوب الساعدي.

هوامش

(1) الشيخ محمد العريبي العزاوي: كان أحد شيوخ عشيرة البومحمد العزاوية في لواء العمارة في العراق، ولد سنة 1895 وتوفي في بغداد في 26 آذار 1971،اسمه محمد بن عريبي باشا بن وادي بن منشد الخليفة، خلف أباه في زعامة القبيلة بعد وفاته سنة 1917، انتخب نائبا عن لواء العمارة في المجلس التأسيسي العراقي، ثم شغل عضوية مجلس النواب العراقي ست مرات ما بين عامي 1930 و 1946، ثم عين عضوا في مجلس الأعيان بين عامي 1946 و 1954 فأعيد انتخابه نائبا سنة 1954،اعتقل بعد قيام ثورة 14 تموز 1958 ثم أفرج عنه لاحقا.

(2) موقع أيلاف.. المجتمع القبلي والمجتمع المدني/ سالم اليامي / في 6 سبتمبر 2010.

(3) موقع الحرة عراق.. نقلاً عن وكالة فرانس برس.

(4) مؤسسة الهدى للدراسات الاستراتيجية في ميسان/ الأزمة العشائرية في ميسان.. أثارها وأسبابها ومعالجاتها / أعداد حسين جلوب الساعدي.

في المثقف اليوم