دراسات وبحوث

ماذا يحدث للفلسفة الفرنسية الآن؟

من ديكارت وفولتير، الى سارتر وفوكو، شغل الفكر الفرنسي مكانا متميزا في العالم. ديكارت (1596-1650) مثلا، يُشار اليه عادة بـ "ابو الفلسفة الحديثة" والذي هو اعتراف ضمني بالمركزية الاوربية التي تنظر الى التاريخ بمنارات مضيئة. لكن مفكري فرنسا القرن العشرين مثل فوكو وبوفيور وبارت ودريدا هم ايضا من بين اكثر الاصوات تأثيرا في الفلسفة الحديثة. في الغرب هم مرجعيات ثقافية لايمكن الاستغناء عنها في عدد كبير من الحقول الاكاديمية بدءا من الفلسفة وحتى التاريخ واللغويات الاجتماعية. فوكو اعتبر مشروعه كـ "تاريخ نقدي للفكر" وأعمال دريدا الأكثر شهرة هي علم النحو Grammatology (1967) الذي انتقد فيه بعض المبادئ التي طرحتها مهندسة اللغويات فرديناند ديسوسر.

الصمت المتزايد للأصوات الفرنسية

مر وقت طويل منذ ان أحدثت سيمون دي بوفور ثورة في النسوية بنقاشها لتاريخ الانسان من خلال عدسة الجنس في كتابها الشهير عام 1949(الجنس الثاني). يشير الكتاب بان بين الجيل الجديد للفلاسفة جودث بتلر Judith Butler، الفيلسوف الامريكي المعاصر في الجنس، ليس له قرين فرنسي. جوليا كرستيفا يمكن القول هي الفيلسوفة الفرنسية المعاصرة الوحيدة التي حظيت كتاباتها حول قمع المرأة بسمعة عالمية واسعة، وهي وُلدت وعاشت في بلغاريا. هي ايضا كتبت أشهر أعمالها في السبعينات والثمانينات. المقارنة وحدها تكشف وبقوة غياب الأصوات الفرنسية الناجحة. ذلك يدعونا للتساؤل: أين ذهب المفكرون الفرنسيون العظام؟

ربما أضواء الفكر الفرنسي لم تعد تشع لمسافات بعيدة. هذه الملاحظة ليست جديدة. مقالات حول هذا الموضوع ازدهرت في الـ 15 سنة الماضية. في ديسمبر 2007، عرضت مجلة تايم تحت عنوان "موت الثقافة الفرنسية". الى جانب هذا العنوان الخطير كانت هذه العبارة: "أسرِع، اذكر أسم فنان حي او كاتب من فرنسا له أهمية عالمية". في المقالة، دولاند موريسون، المدير السابق لمجلة تايم للطبعات الاوربية والاسيوية والمحاضر في أرقى مؤسسة تعليمية للتعليم العالي، أعلن ان الثقافة الفرنسية شبه منتهية الصلاحية. ونفس الشيء، سودهير هازاريسنغ Sudhir Hazareesingh، بروفيسور الفلسفة في اكسفورد ومؤلف كتاب كيف يفكر الفرنسيون (2015)، استنكر في عدة مقالات في الرأي ما يراه كانحطاط في الفكر الفرنسي في المسرح العالمي. واحدة منها، كانت بعنوان "ذات مرة أصاب الفكر الفرنسي العالم بالدوار – أين المشكلة؟" كان نقدا مصمما بعناية لـ "الاسلوب الفرنسي في التفكير"، والذي جرى فضحه بكثافة خارج وداخل البلاد.

أصل التفكير الفرنسي الحديث

ما هو الاسلوب الفرنسي في التفكير؟ لو فحصنا تطور الفلسفة الفرنسية في القرن الثامن عشر سيساعدنا في فهم تصنيفها النوعي، كيف تتجلى اليوم ولماذا تقهقرت من المسرح الثقافي العالمي. ورغم ان فرنسا انتجت مفكرين كبار في وقت مبكر، فان ذلك كان من خلال التنوير في القرن الثامن عشر وانتشار الفلسفة الفرنسية لتؤثر في تطور الافكار عبر اوربا وامريكا وما ورائها. في هذه الاثناء، كان مفكرون كبار مثل فولتير وديدروت ومونتسكيو ودالميرت جزءاً من حركة فكرية سعت لبناء الأساس لنظام سياسي جديد مرتكز على العقل في السعي لإستبدال الملكية. هم ارادوا هذا العالم الاجتماعي والسياسي الجديد ان يرتكز على مُثل الحرية والمساواة لجميع الافراد.

هذه الحركة الثورية كانت بذاتها وريثا للثورة العلمية في القرنين السادس عشر والسابع عشر. انها بيّنت ان النظريات المرتكزة على الملاحظة العقلية كانت اكثر نجاحا في توضيح الظاهرة الطبيعية قياسا بالفلكلور والقصص الكنسية. التنوير نظر الى مجتمع جديد مسترشدا بمبادئ العقلانية والشمولية والفردية. استعارة النور كحقيقة يشير للتأكيد الجديد على دفع المجتمع بعيدا عن ظلام الدوغما، نحو التقدم المتأسس على التفكير المنهجي والقيم الانسانية العالمية.

تعريف التنوير للتفكير النقدي والتقدم لم يكن مقتصرا على الفلاسفة الفرنسيين وحدهم. انه ضم مثقفين من كل اوربا. لم يكن فولتير او ديدروت، وانما الفيلسوف عمانوئيل كانط المولود في كونجسبيرغ هو منْ تبنّى شعار الحركة الأوسع قبولا: "كن جريئا لتعرف من خلال استعمال العقل". جون لوك كان بريطانيا لكنه ايضا تبنّى استعمال الطريقة العلمية للكفاح ضد العشوائية، واعتماد العقل للكفاح ضد الاستبداد السياسي.

اذاً، ما هو الشيء الخاص بالفرنسيين؟

بالاضافة لإهتمام الفرنسيين بالتفكير النقدي، كان تأكيدهم المطلق على العقلانية هو الذي ميّز الفلاسفة الفرنسيين عن غيرهم. الفلاسفة البريطانيون أمثال لوك وهيوم اقترحوا بان المعرفة تُكتسب بالتجربة العملية من خلال الحواس، وهو الموقف الذي عُرف بالتجريبية. بالمقابل رفاقهم الفرنسيين اعتبروا ان الحقيقة يتم الوصول اليها من خلال التفكير الاستنتاجي، وان الحواس لا يمكن الوثوق بها. وبما انها غير موثوقة، كما تذهب النظرية، يجب على المرء ان يستجوب اوتوماتيكيا ومنهجيا المعلومات التي تنقلها الحواس لنا. اعتماد فلاسفة القرن الثامن عشر على هذا "الشك المنهجي" واستعمال العقلانية يسهل فهمه في ضوء ميراث ديكارت، كونه اكّد على ان البرهان الوحيد حتى على الوجود ذاته يكمن في تفكير المرء، وهي الفكرة التي تلخصت بقوله "انا افكر اذاً انا موجود".

ان التقاليد الفلسفية الفرنسية ارتكزت بعمق على الشك الديكارتي الراديكالي. انها متناقضة في جوهرها. نحن سمعنا هناك دعم فلسفي للعبارة المكررة بان الفرنسيين هم دائما لديهم أفكار مختلفة.

الزخم الثوري وافكار التنوير ارتبطا بعمق بفلاسفة يعرضون حججا للمساواة وضد سلطة الكهنة، وعموما هم يخلقون سياقا فكريا للثورة. بكلمة اخرى، الفلسفة الفرنسية كانت ولوقت طويل متشابكة بعمق مع السياسة. المفكرون الفرنسيون كانوا منخرطين جدا بالحياة السياسية لدرجة ان الوثيقة الدستورية الفرنسية لعام 1789 – إعلان حقوق الانسان والمواطن اتبعت ارشاداتهم . فمثلا، فصل السلطات يعود لمبدأ مونتسكيو. هذا المرسوم في حقوق الانسان الذي كُتب في اواسط الثورة الفرنسية، يؤشر لتحول حاسم في التاريخ الغربي. انه نحت مفاهيما هامة حول المجتمع المدني وجدت طريقها الى تطبيق سياسي حديث، والفلاسفة كانوا جزءا مكملا لهذا.

ولكي نوجز، بعد ديكارت، طور الفرنسيون خاصيتين متميزتين اثنين. الاولى لها علاقة بالميول الثقافية: انها كانت خصيصا منخرطة بالعقلانية والشمولية وانها قيّمت عاليا الشك الراديكالي (كما هي اليوم). الثانية هي ان الفلسفة بلاشك هي سياسية. في التفكير الفرنسي، المفكرون هم منارات يساعدون الناس في الابحار في المياه الخطرة للتغيير الاجتماعي والسياسي.

المشكلة، هي ان الفلسفة الفرنسية لم تتغير

ما علاقة الحب الفرنسي للتجريد والمثل العالمية والشكوكية بالتراجع المزعوم الذي حظي بكثير من التعليق؟ الجواب هو نعم. الفلسفة الفرنسية لم تتغير كثيرا لكن العالم تغير وتلك هي القضية.

تقاليد الفكر الفرنسي تبدأ من الافكار بدلا من التجربة، وهو ما قاد الى تصور الانسانية بعبارات عالمية. انها تؤمن بان كل فرد يمكنه الوصول الى حقائق عالمية من خلال التعليم المجرد. هذا يعني ان كل شخص يمكنه التفكير بذاته للاتفاق مع كل شخص آخر حول الحقائق الانسانية.

هذا الافتراض يصل الى حد القول بانه بالإمكان تجنّب الخلاف الناجم عن ايمان الافراد بمفاهيم مختلفة وغير منسجمة عن العالم والقيم. ان إعلان حقوق الانسان والمواطن هو فقط مثال واحد عن وحدة العقيدة الفرنسية. ما سمي بـ "مهمة الحضرنة" الفرنسية هي مثال آخر. انها تشير الى ان موهبة الفرنسيين التي وضعت ذاتها في ذروة عصر الكولنيالية، في جلبها الحضارة لبقية العالم جرى تبريرها بالايمان الفرنسي بالعقلانية وتطبيقاتها الشمولية. غير انه، من هذا، تصبح المشكلة مع العالم الحديث واضحة: ادّعاء الفلسفة الفرنسية بالشمولية ينكر التعددية في وجهات النظر. انها تُضفي في نفس الوقت طابعا انسانيا على ثمار تفكير المرء، ومكانة الحقيقة الشاملة التي لا جدال فيها.

لذلك لا غرابة في ان فكرة امكانية المرء في الوصول الى مبادئ عالمية عبر اللجوء الى العقلانية واجهت نقدا مكثفا من سلسلة من الاختصاصات. الحركة الادبية والفلسفية المابعد البنيوية في الستينات، مثلا، جادلت بقوة ان علاقات السلطة والذاتية أثارت الانتباه لكل شيء كنا نظنه في السابق موضوعي – بما في ذلك الفلسفة. ومفكرو ما بعد الحداثة مثل مايكل فوكو جادل بان ذريعة الشمولية والحيادية هي بالنتيجة تمهد الطريق للعديد من أشكال القمع.

هذه الحركة كانت بوضوح عُرّفت من جانب الكاتبة جودت بتلر في مقالها "اسس مشروطة"(1994). فكر ما بعد الحداثة، حسب قولها، هو حول الدعوة للتفكير "بالكيفية التي تعمل بها الامثلة والنماذج على محو وتقليل قيمة ما تسعى لتوضيحه". الحجة هي ان العقلانية والشمولية التي أحبها الفرنسيون كثيرا لها قدرة غريبة في استبعاد مختلف أنظمة العقائد، وهي توفر الادوات الفلسفية لإخفاء الحقيقة الموجودة. هذا الاغتراب يحصل على اساس ان الفرنسيين يفشلون في الاتفاق على الحقائق التي يُعثر عليها من خلال التفكير وبهذا فان الفكر الفرنسي الممتلئ بشعور غامر بتطبيقية شمولية زائفة يحجب كل شيء يقع خارج نطاق مبادئه المُفترض انها "شمولية وعقلانية".

ان تطور التحليلات النفسية في القرن العشرين ايضا أبطل التصور بان الفرد هو عقلاني بالكامل. انها كشفت الدور المهيمن للعقل الباطن، متجاهلة كلا الادّعائين بان العقلانية هي السمة المعرّفة للانسانية، واننا قادرين على التجريد الخالص غير المتحيز. حاليا معروف جدا ان الناس ملوثين بقائمة طويلة من التحيزات المعرفية (جرى توضيحها جيدا في كتاب دانيال كاتيمان Daniel Kahneman الشهير، الضوضاء: الضعف في الحكم الانساني، 2021). ان مبدأ "التفكير غير المعدل يقود الى حقيقة شمولية" اصبح مجرد ثقة مكرسة لكنه مثال غير واقعي .

ولكن بالرغم من الكثير من المنتقدين للشمولية الفلسفية، فان المفكرين المعاصرين في فرنسا يبدو لا يهتمون بذلك. الن باديو Alain Badiou (1937) هو استاذ سابق في الفلسفة في معهد التعليم العالي. وهو ايضا اكثر فيلسوف فرنسي حي تُرجم له. عمله يتعامل بكثافة مع الثورات السياسية وتحرر الجماهير من خلال اللجوء الى الشمولية، وهو يتصور الانتفاضات الشعبية مثل الربيع العربي عام 2011 كحركات تحررية عالمية متحفزة بمبادئ عالمية للعدالة والحرية. باديو تعرّض بقوة للنقد من منظّرين مثل اليزابيث باكوتي، استاذة مساعدة في الفلسفة في جامعة شمال كارولينا في كتابها(الانعتاق الشمولي – السباق وراء باديو، 2020) الذي كرّسته بالكامل لتفكيك اطروحة باديو. هي بيّنت فيه ان تبنّيه للمبادئ الشمولية يخلق نظرية سياسية غير قادرة على التعامل مع خصوصيات الصراع. فمثلا، فلسفته في "اللااختلاف" هي عمياء عن العرق، انها لايمكنها تفسير كفاح الذين يعانون من العنصرية. النتيجة هي نظام فلسفي مستوحى من العدالة لكنه غير فعال في النظر الى العدالة والحرية عند معالجة سياسات التحرر.

هذا يوضح مشكلة فرنسية. قانون عام 1978 الذي حرّم جمع البيانات المرتكزة على العرق او الأثنية هو مثال صارخ آخر على الشمولية الفرنسية. فرنسا تحب ان ترى ذاتها مصابة بعمى الألوان، عمى الدين، والى حد كبير بعمى الامة. لهذا السبب، لايُسمح بالبحث في احصائيات متعلقة بالأثنيات. التناقضات في هذا الاتجاه، والتي تجعل الاثنيات غير قابلة للقياس وغير مرئية، نوقشت على نطاق واسع في الصحف العالمية. مقالة نُشرت عام 2020 في الاطلنتك شجبت نفاق دوغما الشمولية الفرنسية بالقول "فرنسا رسميا مصابة بعمى الألوان، لكن الحقيقة ليست كذلك". غير ان العالم الثقافي الفرنسي يستمر في علاقته الغرامية المدمرة مع كونها بعيدة المنال. الفلاسفة الفرنسيون المعاصرون، وما فيهم من عمى الإهتمام بالافكار المجردة، لايزالون لايريدون مواجهة مفاهيمهم المجردة بدروس من تجارب الحياة اليومية.

أين سيقود ميراث فوكو والفكر المابعد الحداثوي؟ التيار الجديد من الفلاسفة يعيدون تدوير الموضوعات القديمة. انها فشلت بدمج دروس نقد ما بعد البنيوية للشمولية. لكي يجدد ذاته، جوبه الفكر الفرنسي بـ استحالة. انه يعاني من ما يصفه سودر هازارسنك بـ"ميول الفرنسيين للنظر الى الذات في المكان، والى الخلف في الزمان".

لكي نلخص، الفلسفة الفرنسية لم تتغير، لذا هي اصبحت منتهية الصلاحية، انها لم تندمج مع التفكيرالجديد والمعرفة، بحيث اصبحت لا تستطيع التكيف في معالجة المشاكل الحديثة.

الإمكانية السياسية للفلسفة الفرنسية

من المفارقة، ان نفس الشيء الذي جعل الفكر الفرنسي متقادم – حالة الجمود – ايضا يحتوي على امكانية الإحياء. الفلسفة الفرنسية هي عقلانية وشمولية، وسياسية في اهتماماتها. وبينما الشمولية توضح لماذا الفلسفة الفرنسية دائما غير مسموعة خارج فرنسا، لكن طبيعتها السياسية تمتلك القدرة لتنشيطها في المسرح الدولي.

توضيح

اخترعت فرنسا خصيصا مفهوم المثقف كعنصر جماهيري هام. منذ التنوير، ساعد الفلاسفة الفرنسون في صياغة نصوص سياسية هامة، وبعد وقت طويل، جمع الصالون الثقافي للقرنين الثامن عشر والتاسع عشر مثقفين للنقاش في الغرف الباريسية العصرية. المثقف الفرنسي كمعلق سياسي وكمرشد اخلاقي يبقى حيا ونشطا. من الشائع في فرنسا ان يُدعى الفلاسفة الى برامج التلفزيون الى جانب السياسيين لمناقشة القضايا الاجتماعية. في حملة الانتخابات الرئاسية، مثلا، السياسيون باستمرار يستشهدون بالفلاسفة الفرنسيين في نقاشاتهم يستخدمونهم كسند لشرعيتهم. فمثلا، مرشح اليمين المتطرف اريك زيمورس يفضل الاقتباس في انتخابات 2022 من روسو: "لا تثق في اولئك الكوزموبوليتيين الذين يبذلون جهودا كبيرة في كتبهم لاكتشاف واجبات لايقومون بها لمن حولهم . الفيلسوف يحب جماعة تارتر الاثنية لكي لا يضطر الى حب جيرانه" هنا روسو ينتقد هؤلاء المفكرين الذي يوجهون انتباههم بعيدا عن الواقع الانساني الملموس، نحو ما يراه تجريدا وفنتازيا يحبها الناس. زيمور عادة يلجأ الى هذا الاقتباس الذكي كنوع من الحجة الموثوقة يُفترض ان تثبت نفاق المرشحين الآخرين في تركيزهم على حقوق الانسان وايضا لتبرير موقفه من القومية والأفضليات المحلية. (يستمر زيمور بالقول، بهذا العمل، من المفارقة ان التقاليد الفرنسية تصوّر الفيلسوف كمرشد سياسي، بينما تحاول توبيخ شخصية المثقف الحسن النية كنخبوي خائن للامة).

ما يجب ان يقوله الفلاسفة الفرنسيون يبقى سياسيا جدا من حيث الجوهر. كنا تطرقنا الى تأكيد باديو Badiou على تحرير الجماهير وعلى الكفاح السياسي.

جاك رانسير Jacques Ranciere (1940) مفكر فرنسي كبير آخر كتب بغزارة عن الفلسفة السياسية. هو يتعامل بكثافة مع ما يسميه "الجزء من اولئك الذين لا نصيب لهم". هو يعني باولئك تشريع المساواة من جانب اولئك الذين يعانون من الاضطهاد من خلال المطالبة بحقهم بالتعامل المتساوي. كتابات رانسير تدور حول سياسة الاعتراف. وفي رؤية مشابهة لبادو، هو يؤكد على أهمية الفعل العام ومقاومة اللامبالاة السياسية.

فردريك كروز المحاضر في الفلسفة في جامعة باريس 12، كرّس كتابه (تمرّد) وهوآخر كتاب له، (نُشر بالانجليزية في 2021)، لأخطار اللامبالاة السياسية والطاعة العمياء للقادة. انه يجادل القادة ليستعملوا التفكير النقدي في مواجهة السياسات الفاسدة التي تمنح الحرية للسوق: "في وقت عندما"يفتخر القادة بانفسهم في قراراتهم كونها نتيجة الاحصاءات المبهمة والباردة، فان عدم الطاعة هي اعلان الانسانية".

عالمنا يواجه عدد كبير من المشاكل الملحة. في مقدمة هذه المشاكل أزمة المناخ التي لا يبدو أي مؤتمر للمناخ قادر على معالجتها، واللامساواة العميقة في العالم بين اصحاب المليارات وبقية الشعوب. الاستياء الشعبي عبّر عن ذاته من خلال بروز القادة الشعبويين والوطنيين من جهة وعدم الاهتمام بالسياسة من جهة اخرى. ولكن مثل هذا الموقف من الانطوائية يعمّق الانقسام الاجتماعي. لاحظنا كيف ان جرائم الكراهية ازدادت في الولايات المتحدة اثناء حكم ترامب.

بما ان الفلاسفة في فرنسا مهتمون في اللعبة السياسية وهم في نفس الوقت جزءا منها، هم لديهم الامكانية. هم يستطيعون منع ما يسميه الفيلسوف البلجيكي جانتل موفي "التهرب من السياسة" – عدم الانخراط بالحياة السياسية. الخط الحديث للتفكير الفلسفي بالاضافة لمكانتهم العامة يشجع الناس على تبنّي الكفاح السياسي لأجل رؤاهم المجتمعية. هم يبيّنون أهمية الانخراط في المؤسسات السياسية، في استجوابها، والتعبير عن المعارضة علنا. لذا، فان الفلسفة الفرنسية هي سياسية بالصميم وهذا شيء جيد.

هذه اللحظة من التاريخ تتطلب من الفلاسفة في كل مكان ليكونوا نشطين سياسيا. النموذج الليبرالي الجديد شجع دائما لمساواة السياسة مع الاقتصاد. للخروج من مستنقع الإقصاء السياسي واللامبالاة والتطرف، ليس لدينا خيار سوى إعادة الدخول الى الميدان السياسي والتفكير في معنى التعايش. أزمة الليبرالية الجديدة هي أزمة السياسي. هذا يجعل التقليد الفرنسي نموذجا مهما للتفكير في القضايا الراهنة التي نواجهها من وجهة نظر سياسية وفلسفية بدلا من اقتصادية.

استنتاج

في جوهر الفلسفة الفرنسية المعاصرة يكمن تناقض هام . انها تساعدنا جيدا في اجتياز اللحظة السياسية الحالية لكنها متقادمة عندما نأتي لموضوع آخر مثل التنوّع لأنه يثق بافكار الشمولية، والايمان العميق بان المجتمع يجب ان يعامل كل الافراد بالتساوي بصرف النظر عن قيمهم الاجتماعية والدينية. في الخارج، سعى الفكر الفرنسي لشغل مكان بارز في عالم الافكار، لكن العالم قد تطور، اصبح مرهقا بالقياس ذو الحجم الواحد لحلول الشمولية الفلسفية. الفلسفة الفرنسية ليست محكوم عليها بالفشل. انها تحتوي ضمن ذاتها على المرونة في عدم ملائمتها العالمية . انها لها قدرة لتحفيز الناس للتفكير والانخراط بازمة الديمقراطية الليبرالية الجديدة. وبينما يقدم الفكر الفرنسي نموذجا يحتل فيه الفلاسفة رقما اساسيا في المجتمع، لكن التقاليد الفلسفية الفرنسية ايضا تركز على اهمية استجواب السياسة. انها تسعى لهزيمة اللامبالاة السياسية وتحفيز الناس للتفكير والتحسين الدائم. يمكن للفلسفة الفرنسية إعطاء نموذج يعارض ازالة الخصوصيات في المؤسسات الليبرالية الجديدة، وهو يمكن ان يحصل فقط عند دمج التعددية والابتعاد عن نصوص التنوير الموروثة للشمولية المحبِطة.

*** 

حاتم حميد محسن

في المثقف اليوم