دراسات وبحوث

فتنة الوهابية

ظهرت الحركة المسماة بالوهابية على يد محمد بن عبد الوهاب التميمي في نجد في القرن الثاني عشر الهجري، كحركة مذهبية هدفت إلى إحياء الاعتقادات المنسوبة زورًا للإمام أحمد بن حنبل إضافة إلى فقه الحشوية ومخالفات ابن تيمية الفقهية. ثم تحولت إلى حركة سياسية تسببت ولا زالت تتسبب في الفتن.

كان ظهور فتنتهم في عهد السلطان العثماني سليم الثالث. وكان محل فتنتهم الأولى بالحجاز فاستولوا على الحرمين، ومنعوا وصول الحاج الشامي والمصري، ثم عمّت فتنتهم الثانية في القرن الثالث عشر الهجري سائر الجزيرة العربية. وتمثلت مظاهر فتنهم بهدم الأضرحة وقبور الأئمة والصحابة، وهدم منبر النبي صلى الله عليه وسلم، وألغوا الاحتفال بالمولد النبوي، وأزالوا جميع شواهد القبور بالبقيع وغيره. كما قاموا –كما هي عادة الخوارج- بمذابح ضد غيرهم من المسلمين ممن كفّروهم، وأدخلوهم تحت سلطانهم.

وبظهور تلك الحركة اعتبر كثير من علماء المسلمين أنهم الجماعة المارقة التي يتزعمها قرن الشيطان -أو قرنا الشيطان وفقًا لروايتين في صحيحي البخاري ومسلم- والتي تنبأ الرسول صلى الله عليه وسلم في روايات كثيرة أنها ستخرج من المشرق، وأشار في بعض الروايات إلى فتن مبدؤها نجد. ذلك أنه لأول مرة في تاريخ حركات الخوارج تظهر علامة التحليق التي أعلمنا الرسول صلى الله عليه وسلم أنها ستميزهم. فلأنهم ادّعوا أنهم من أهل السُنة، شاءت إرادة الله تعالى أن يُظهر فيهم تلك العلامة كي نتقين أنهم خوارج آخر الزمان الذين حذّرنا منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مرارًا.

أحاديث تنبأت بالوهابية

سبق أن تحدثنا عن فِرق الخوارج القدماء والحكم في تكفيرهم في مبحث فتن الخوارج، ورغم ورود الأحاديث عن أن الخوارج سيخرجون قرنًا بعد آخر، ورغم أن حوادث التاريخ شاهدة على صحة ذلك بظهور الأزارقة والقرامطة وغيرهم من الباطنية ممن أتعبوا المسلمين وولاة أمورهم عبر قرون، بعد ظهور الحروريين –الخوارج الأوائل الذين حاربهم سيدنا علي-، ورغم وجود أحاديث تتكلم عن خوارج يأتون في آخر الزمان، إلا أن هناك من يصر على عدم التفريق بين الأحاديث الموردة لذكر أوائل الخوارج عن أواخرهم ممن بدت علامة أسلافهم لنا في القرن الثاني عشر الهجري، بتحليقهم ومجازرهم، ولمّا انقطع قرنهم ظهر قرن آخر لهم في مطلع القرن العشرين هدموا آثار المسلمين، وذبحوا منهم الآلاف، ثم بعد أن نالوا مرادهم وصارت لهم دولة، ظهر قرن آخر لهم في القرن الحادي والعشرين لم يشهد التاريخ في مثل بشاعته، وأعني الجماعة المسماة "داعش".

كما أنه رغم أن هناك الكثير من الأحاديث التي توضح أن الفتنة ستأتي من المشرق، وتحديدًا من نجد، فهناك من يسهل عليهم تصور أن العراق بالمشرق –وهي كذلك حقيقة لكونها على حد الخط الشرقي للحجاز-، فهو محل الفتنة المعنية! ولكن يصعب على هؤلاء المكابرين تقبل أن الفتنة التي أشار الرسول صلى الله عليه وسلم أنها تأتي من المشرق، تنشأ تحديدًا من نجد حيث رأس الكفر –كما أخبر رسول الله-، رغم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا بعلاماتهم؛ وأن أتباع هذه الطائفة من الخوارج يتيهون من فرط إعجابهم بأنفسهم، وسيماهم التحليق. ومن المفارقات العجيبة أن الرجل الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه يوشك أن يخرج من نسله المارقة، وهو ذو الخويصرة التميمي، من قبيلة محمد بن عبد الوهاب التميمي شيخ الوهابية، وموطنها "حوطة بني تميم" بجوار الرياض.

روى الإمام البخاري في صحيحه جملة أحاديث بأسانيد صحيحة تقول صراحة إن الرسول صلى عليه وسلم ذكر أن الفتنة من قِبل المشرق. على سبيل المثال، الحديث (‏3279) عن عبد الله بن عمر رضي الله ‏عنهما، قال:‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير ‏إلى المشرق، فقال: "ها إن الفتنة ها هنا، إن الفتنة ها هنا، من حيث يطلع قرن ‏الشيطان".‏ [أطرافه 3104، 3511، 5296، 7092، 7093]‏.

ومثله الأحاديث التي رواها الإمام مسلم في صحيحه، كتاب "الفتن وأشراط الساعة"، باب "الْفِتْنَةِ مِنَ الْمَشْرِقِ مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنَا الشَّيْطَانِ" (7476 -45/2905) و ‏‏(7477 -46/2905) ‏و ‏(7478 -47/2905)‏ و ‏(7479 -48/2905) ‏و ‏(7480 -49/2905).  والحديث (2519 -159/1068) عَنِ الشَّيْبَانِىِّ، عَنْ يُسَيْرِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: سَأَلْتُ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ: هَلْ سَمِعْتَ النَّبِىَّ ‏صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ ‏الْخَوَارِجَ؟ فَقَالَ: سَمِعْتُهُ -وَأَشَارَ بِيَدِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ «قَوْمٌ يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ بِأَلْسِنَتِهِمْ لاَ يَعْدُو تَرَاقِيَهُمْ. ‏يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ».‏ والحديث (2520 -159/1068) أيضًا عن سُلَيْمَانُ ‏الشَّيْبَانِىُّ بإسناد آخر، وَقَالَ: "يَخْرُجُ مِنْهُ أَقْوَامٌ".‏

وروى البخاري في صحيحه أيضًا، (1037) بسنده عن نافع، عن ابن عمر، قال:‏ "اللهم بارك لنا في شامنا، وفي يمننا". قال: ‏قالوا: وفي نجدنا؟ قال: قال: "اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا". ‏قال: قالوا: وفي نجدنا؟ ‏قال: قال: "هناك الزلازل والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان".‏

نجدنا!

ونجد هي ما ارتفع من بلاد العرب إلى أرض العراق، وهي هضبة معروفة بجزيرة العرب، ولا توجد أرض عُرفت أو تُعرف إلى يومنا هذا بذلك الاسم غيرها، واليمن والشام ونجد المشار إليهم في الحديث هي الأماكن المعروفة، فهي أعلام وليست صفات؛ حتى يدّعي أحد أن العراق هو نجد أهل المدينة كما يبغبغ الوهابية المحدثون، وليأتِ من يدّعي تلك المقولة بدليل واحد يُثبت أن أهل المدينة كانوا يقولون عن العراق (نجدنا).

وطالما أن الحال قد وصل بالسلفية المعاصرين إلى مثل هذا المستوى من الكذب الوقاح؛ فإنه بالعودة إلى خطوط العرض، فإن خط العرض الذي تقع عليه المدينة المنورة هو 24.46667، وخط العرض الذي تقع عليه الرياض بنجد هو 24.4، فليس للمدينة مشرق مرتفع عن الأرض غير نجد جزيرة العرب التي يعرفها القاصي والداني، وتحديدًا جنوب مدينة الرياض. والمقصود بقرن الشيطان هو ‏جماعته وحزبه. كما أنه لو كان المقصود بفتن نجد ما حدث من أمر مسيلمة الكذاب، ما دعا صلى الله عليه وسلم في الحديث نفسه لليمن بالبركة، ومنها خرج الأسود العنسي، والأهم أن ما كان من أمر الكذابين –مسيلمة والعنسي- لا يُسمى فتنة؛ "إنما الفتنة إذا اشتبه عليك الحق والباطل". فلم يُفتتن أحد ممن تبعوهما بهما، وكانوا متيقنين من كذبهما، ولكن تبعوهما عصبية؛ حتى لا يُقال إن النبوة في مُضر وحدها.

وفي صحيح البخاري، حديث (‏3302)، عن عقبة بن عمرو أبي مسعود، ‏قال:‏ أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده نحو اليمن، ‏فقال: "الإيمان يمان هنا هنا، ألا إن القسوة وغلظ القلوب في ‏الفدادين، عند أصول أذناب ‏الإبل، حيث يطلع قرنا الشيطان، في ربيعة ومضر".‏

و(الفدادين) جمع الفداد وهو الشديد الصوت، من فدا إذا رفع صوته، وهو مشهور عن ‏أصحاب الإبل. ومعلوم أن وفد تميم حين قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم رفعوا أصواتهم، ونزلت فيهم الآيات الأوائل من سورة الحجرات، وفيها نهي للمؤمنين أن يأتوا فعلهم ‏﴿‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ‏﴾‏ [الحجرات: 2]. ووصف لمن رفعوا أصواتهم من وفد تميم بأن أكثرهم لا يعقلون ‏﴿‏إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ‏﴾‏ [الحجرات: 4]. ونلاحظ أن هذه الرواية في صحيح البخاري تُثني ولا تُفرد؛ فتقول: "قرنا الشيطان"، وتحدد أن أحد القرنين من ربيعة، والثاني من مُضر، وسنرى بعد مراجعة أنساب أصحاب الفتنة كيف صدقت فيهم الرواية حرفيًا.

وروى البخاري حديث (‏3301)، عن أبي هريرة رضي الله عنه:‏ ‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رأس الكفر ‏نحو المشرق، والفخر والخيلاء في أهل الخيل والإبل والفدادين أهل ‏الوبر، والسكينة في أهل ‏الغنم".‏ ‏

والمقصود بـ (نحو المشرق) أي يأتي من جهة المشرق. وهذه الرواية تؤكد أن صفة (الفخر) الإعجاب بالنفس، و(الخيلاء) الكبر ‏واحتقار الغير، التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفات الخوارج، متحققة فيهم. و(أهل الوبر) كناية عن سكان الخيام، والوبر شعر الإبل.

صفات خوارج آخر الزمان

من أهم صفات خوارج آخر الزمان التي ذكرتها الأحاديث أنهم "حدثاء الأسنان، ‏سفهاء ‏الأحلام". ‏وحدثاء الأسنان جمع حديث السن وهو الصغير، فإن حداثة السن محل للفساد ‏عادة. وسفهاء الأحلام أي ضعفاء العقول. جمع حلم وهو العقل. ‏والسفهاء جمع سفيه وهو الطائش ‏خفيف العقل. ورءوس الجماعات المتطرفة في عصرنا يبحثون عمن له هذه الصفة من المراهقين والشباب اللاهين ضعيفيّ الثقافة والعقل لاجتذابهم وضمهم إليهم. ويُلاحظ أن ضعاف العقول يثبتون عند المستوى الطفولي الحسي في تصور المفاهيم الدينية، ومنها مفهوم الله، وهو ما يفسر لجوءهم للتشبيه والتجسيم، لعجز عقولهم عن التعامل مع المفاهيم المجردة.‏

‏جاء ذلك الوصف لخوارج آخر الزمان تحديدًا في أحاديث كثيرة، ففي صحيح البخاري (6930) عن عليّ رضي الله عنه قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ‏‏"سيخرج قوم في آخر الزمان، أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، لا ‏يُجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم ‏فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم يوم القيامة". ‏ومثله: الأحاديث (3611) و (5057) بصحيح البخاري. وبصحيح مسلم ‏(2511 -154/1066) وسنن أبي داود (4767) ‏وسُنن ‏ابن ماجه (168) وسُنن النسائي (4102) وسُنن الترمذي (2188).‏

ومن صفاتهم النفسية التيه والعُجب بأنفسهم. أما أشهر صفاتهم الشكلية والتي فضحتهم في ابتداء أمرهم فهي التحليق. جاء في صحيح مسلم (2521 -160/1068) ‏عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، عَنِ النَّبِىِّ ‏صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «يَتِيهُ قَوْمٌ قِبَلَ الْمَشْرِقِ ‏مُحَلَّقَةٌ ‏رُءُوسُهُمْ».

وفي مستدرك الحاكم على الصحيحين (2648) عن أنس ‏رضي الله عنه، أن ‏النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سيكون في أمتي اختلاف وفرقة، وسيجيء قوم ‏يعجبونكم وتعجبهم ‏أنفسهم، الذين يقتلونهم أولى بالله منهم. يُحسنون القيل ويُسيئون الفعل، ‏ويدعون إلى الله وليسوا من ‏الله في شيء، فإذا لقيتموهم فأنيموهم" قالوا: يا رسول الله، انعتهم لنا. ‏قال: "آيتهم الحلق والتسبيت". ‏يعني استئصال التقصير قال: والتسبيت استئصال الشعر. هذا ‏حديث صحيح على شرط الشيخين ‏ولم يخرجاه. وقد روى هذا الحديث الأوزاعي، عن قتادة، عن ‏أنس رضي الله عنه. وروى الحاكم في المستدرك أحاديث أخرى تذكر علامة تحليق الرأس فيهم (2644) ، (2647) ، (2649) ، (2650).

وفي صحيح البخاري (7562) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي ‏صلى ‏الله عليه وسلم قال: "يخرج ناس من قبل المشرق، ويقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون ‏من ‏الدين كما يمرق ‏السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه حتى يعود السهم إلى فُوقه". قيل: ‏ما ‏سيماهم؟ قال: "سيماهم ‏التحليق -أو قال التسبيد-"‏. ومعنى ‏(سيماهم) علامتهم. و(التحليق) إزالة شعر الرأس. أما (التسبيد) استئصال الشعر.

وفي سنن ابن ماجة (175) ‏عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يخرج قوم في آخر الزمان، أو ‏في هذه الأمة، يقرؤون القرآن لايجاوز تراقيهم أو حلوقهم. سيماهم التحليق. إذا رأيتموهم أو إذا ‏لقيتموهم فاقتلوهم". قال الشيخ الألباني: صحيح.

وأورد الإمام النسائي في "المجتبى من السُنن" حديث (4103) ".................‏ يخرج في آخر الزمان قوم كأن هذا منهم. يقرؤون ‏القرآن لا يجاوز تراقيهم. ‏يمرقون من الإسلام ‏كما يمرق السهم من الرمية. سيماهم التحليق. لا ‏يزالون يخرجون حتى يخرج ‏آخرهم مع المسيح ‏الدجال، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم هم شر الخلق ‏والخليقة".‏

يقول الشيخ زيني دحلان في كتابه "فتنة الوهابية" (ص19): "وكثير من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فيها التصريح بهذه الفتنة؛ كقوله صلى الله عليه وسلم "يخرج أناس من قِبل المشرق، يقرأون القرآن لا يُجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، سيماهم التحليق". وهذا الحديث جاء بروايات كثيرة بعضها في صحيح البخاري، وبعضها في غيره، لا حاجة لنا إلى الإطالة بنقل تلك الروايات، ولا ذكر من خرَّجها لأنها صحيحة مشهورة، ففي قوله: "سيماهم التحليق" تصريح بهذه الطائفة، لأنهم كانوا يأمرون كل من اتّبعهم أن يحلق رأسه، ولم يكن هذا الوصف لأحد من طوائف الخوارج والمبتدعة الذين كانوا قبل زمن هؤلاء، وكان السيد عبد الرحمن الأهدل مفتي زبيد يقول: لا ‏يُحتاج إلى التأليف في الرد على الوهابية، بل يكفي في الرد عليه قوله صلى الله ‏عليه وسلم "سيماهم التحليق"، فإنه لم يفعله أحد من المبتدعة غيرهم. واتفق مرة أن امرأة أقامت الحجة على ابن الوهاب لمّا أكرهوها على اتّباعهم ففعلت، أمرها ابن عبد الوهاب أن تحلق رأسها، فقالت له: حيث أنك تأمر المرأة بحلق رأسها، ينبغي لك أن تأمر الرجل بحلق لحيته، لأن شعر المرأة زينتها، وشعر لحية الرجل زينته، فلم يجد لها جوابًا"أهـ.

ذلك أنهم كانوا يعتبرون باقي المسلمين مشركين، ويعتبرون ديارهم فقط ديار إسلام، وما عداها ديار شرك، متابعين لنافع بن الأزرق الحنفي زعيم الخوارج الأزارقة. وكان الوهابية يأمرون من انضم حديثًا إلى جماعتهم المارقة أن يحلق رأسه باعتباره كان كافرًا وأسلم، ويقولون: "إن شعرًا نبت في غير الإسلام يجب أن يُحلق"، محتجين برواية أخرجها عبد الرزاق وأحمد وأبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم.

كيف شاء الله أن يُفتضحوا؟

روى الإمام أحمد في مسنده، (ج12- 3/415- 15370) حدثنا عبد الرزاق، أنا بن جريج، قال: أُخبرت عن عثيم بن كُليب عن أبيه عن جده، أنه جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قد أسلمت فقال: "ألق عنك شعر الكفر" يقول: احلق. قال: وأخبرني آخر معه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لآخر: "ألق عنك شعر الكفر واختتن". قال الشيخ المحقق حمزة الزين فيه: إسناده ضعيف لانقطاعه، حيث لم يُصرح ابن جريج بالواسطة بينه وبين عُثيم.

والحديث رواه أبو داود في سننه، من طريق عبد الرزاق، في كتاب الطهارة، (باب131/في الرجل يُسلِم فيؤمر بالغُسْل) (356)، قال: حدّثنا مَخْلّد بن خالد، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جُريج، قال: أُخبرت عن عُثيم بن كُليب، عن أبيه، عن جده، أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: قد أسلمتُ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ألقِ عنك شعر الكُفر". يقول: احْلِق، قال: وأخبرني آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لآخر معه: "ألقِ عنك شعر الكفر واختتن". قال الألباني: حسن.

وهو عند عبد الرزاق أصلًا في مصنفه في (كتاب أهل الكتاب/باب ما يجب على الذي يُسلم)، (ج6/ص10) (9835)، وفي (كتاب أهل الكتابين- باب ما يوجب عليه إذا أسلم وما يؤمر به من الطهور وغيره) (ج10/ ص317) (19224). ورواه البيهقي في سننه الكبرى (1/172-781)، ثم رواه أيضًا في سننه الصغرى (7/304- 2742)، في باب (الختان)، عن أبي علي الروذباري عن أبي بكر بن داسة عن أبي داود، ونقل رواية أبي داود.

وواضح أن الأول كان مختتنُا فأمره النبي بالاستحداد (حلق شعر العانة) فقط، بينما الثاني لم يكن مختتنًا فأمره بالاستحداد والختان. وهو ما يُفسر اقتران حلق الشعر بالختان في الحديث بأن ما قصد إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يُحلق هو شعر العانة، لأن المشركين لم يكونوا يحرصون على حلقه لعدم حرصهم على الطهارة، أما وقد دخل الرجل في الإسلام فوجب عليه أن يتطهر ليلقى ربه طاهرًا في اليوم خمس مرات، ولم يُعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم أن أمر الصحابة بحلق الرءوس. ولكن الوهابية –وخلافًا للأمة- قد فهموا الرواية على أنها حلق شعر الرأس، وكأن الرسول قد قالها ليفهموها كذلك فيحلقوا رءوسهم فيُفتضحوا وتظهر علامة خوارج آخر الزمان فيهم.

وقد جاء في "الاستذكار" للإمام ابن عبد البر المالكي في كتاب الجهاد (ج14)، باب (ما جاء في السلب في النفل) الأخبار التالية المتعلقة بقصة صبيغ بن عسل والأحنف بن قيس مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب:

19837-عن سليمان بن يسار أن رجلًا من بني تميم يُقال له صبيغ بن عسل قدم المدينة، وكانت عنده كتب، فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فبلغ ذلك عمر، فبعث إليه، وقد أعدّ له عراجين النخل، فلمّا دخل عليه، جلس، فقال: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ، فقال عمر: وأنا عبد الله عمر، ثم أهوى إليه، فجعل يضربه بتلك العراجين، فما زال يضربه حتى شجّه، فجعل الدم يسيل على وجهه، فقال: حسبك يا أمير المؤمنين، فقد والله ذهب الذي كنت أجده في رأسي –يعني الوساوس-.

19838-وقال حمّاد بن زيد: وحدّثنا قطن بن كعب، قال: سمعت رجلًا من بني عجلان، يُقال له: خلاد بن زُرعة يُحدث عن أبيه، قال: لقد رأيت صبيغ بن عسل بالبصرة، كأنه بعير أجرب يجيء إلى الحِلق، وكلما جلس إلى حلقة قاموا وتركوه، وقالوا: عزمة أمير المؤمنين ألا يُكلم.

19839- وعن قيس بن أبي حازم، أن عمر ‏بن الخطاب كشف عن رأسه –أي رأس صبيغ بن عسل-، فإذا له شعر، فقال: لو وجدته محلوقًا لعاقبتك أشد العقوبة.

19840- قال أبو ‏عمر –ابن عبد البر-: إنما قال ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الخوارج "سيماهم التحليق".

19841-وقد عرض للأحنف بن قيس مثل ذلك في كشف رأسه مع عمر بن الخطاب؛ لأنه أعجبه ما سمعه منه من البلاغة والحكمة، فخشي أن يكون من الذين قال فيهم النبي عليه السلام: "أخوف ما أخاف على أمتي، كل منافق عليم اللسان"، فكشف عن رأس الأحنف، فوجده ذا شعر، وأثنى عليه قومه، فسُر بذلك عمر.

19842-قال أبو عمر –ابن عبد البر-: كان صبيغ من الخوارج في مذاهبهم، وكان الأحنف صاحب سُنة وعقل ورأي ودهاء.أهـ.

اعترافهم بفضيحة التحليق وتبريرهم إياه

وقد اعترف الوهابية بفضيحتهم التي أنبأ بها الصادق المصدوق كي لا نُخدع بدعاوى التسنن، ونتيقن أنهم خوارج، فأتوا بعلامتهم قبل أن يُبطلوها بعد أن اشتهرت عنهم وجُرّسوا بسببها. ولكنهم قطعًا لم يعترفوا بكونهم خوارج، وإنما برّروا ما حدث منهم من تحليق.

يذكر عبد العزيز بن محمد بن علي العبد اللطيف في كتابه "دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب" (ص ص171-172) "ويُفنِّد الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب فِرية التحليق، فيقول: وأمّا البحث عن حلق شعر الرأس، وأن بعض البوادي الذين دخلوا في ديننا قاتلوا من لم يحلق رأسه، وقتلوا بسبب الحلق خاصة، وأن من لم يحلق رأسه صار مرتدًا، والردة لا تكون إلا بإنكار ما عُلم بالضرورة من دين الإسلام، وأنواع الكفر والردة من الأقوال والأفعال معلومة عند أهل العلم، وليس عدم الحلق منها، بل ولم نقل إن الحلق مسنون فضلًا عن أن يكون واجبًا، فضلًا عن أن يكون تركه ردة عن الإسلام. ونحن لم نأمر أحدًا من الأمراء بقتال من لم يحلق رأسه بل نأمرهم بقتال من أشرك بالله، وأبى عن توحيد الله. ويوضح الشيخ عبد العزيز بن حمد -سبط الشيخ الإمام ابن عبد الوهاب- في جواب له -مجموعة الرسائل والمسائل 4/578-، بعضًا من أحكام حلق شعر الرأس، ويذكر السبب في حلقه عندهم في بلاد نجد، فقال رحمه الله: فالذي تدل على الأحاديث، النهي عن حلق بعض وترك بعض، فإما تركه كله فلا بأس به، إذا أكرمه الإنسان كما دلّت عليه السُنة النبوية. وأما حديث كليب فهو يدل على الأمر بالحلق عند دخوله في الإسلام إن صحّ الحديث، ولا يدل على أن استمرار حلقه سُنة، وأما تعزير من لم يحلق وأخذ ماله فلا يجوز وينهى فاعله عن ذلك؛ لأن ترك الحلق ليس منهيًا عنه، وإنما نهى عنه ولي الأمر؛ لأن الحلق هو العادة عندنا، ولا يتركه إلا السفهاء عندنا، فنهى عن ذلك نهي تنزيه لا نهي تحريم سدًا للذريعة؛ ولأن كفار زماننا لا يحلقون فصار في عدم الحلق تشبهًا بهم"أهـ.

وأقول: بل اختصّكم الله بفضيحة عيانية، وعلامة ظاهرة، ولم يختص خوارج قبلكم بعلامة عيانية ظاهرة إلا الحرورية الذين خرجوا على أمير المؤمنين عليّ عليه السلام.

وإن كانت كل سمة يمكن أن تؤول بأنها كانت في غيرهم، فالتحليق تحديدًا لم يظهر إلا فيهم، وتعليل وتبرير ‏مشائخهم بأن التحليق لم يكن معروفًا عند أعدائهم فأمروا به أتباعهم من باب المخالفة بلاهة من الطبيعي ألا يقولها ‏ثم يصدقها إلا من كانوا بالفعل سفهاء أحلام، فهل تحليق الرءوس كان عادة عند أي جماعة صغرت أم كبرت في ‏تاريخ الأرض حتى يُقال: "لأن كفار زماننا لا يحلقون فصار في عدم الحلق تشبهًا بهم"؟!

وادعاؤهم وفقًا لأحد مشائخهم بأن الحلق هو العادة عندهم، ولا يتركه إلا السفهاء كذب وقاح، بل لم يصبح ‏عادة ويتسامع بها القاصي والداني إلا عندما أمر بها ابن عبد الوهاب رأس الكفر.‏

وورد في الكتاب نفسه "دعاوى المناوئين" (ص168) نقلًا عن الشيخ محسن بن عبد الكريم في كتابه "لفحات الوجد عند فعلات أهل نجد، ق 76": "والتحليق الذي صار شعارهم، فلا يقبلون من أحد الدخول فيما هم فيه حتى يحلق رأسه، حتى قال المولى عبد الله بن عيسى في كتابه "السيف الهندي": إنه بلغني أنه حلق ناس من أهل تهامة رؤوسهم على ضوء السراج نحو ستمائة رجل في ليلة واحدة فكيف بالنهار..".

تفاصيل فتنتهم

يقول الشيخ زيني دحلان في "فتنة الوهابية" –يعني فتنتهم الأولى- (ص ص3: 5): "أما فتنة الوهابية، فكان ابتداء القتال فيما بينهم وبين أمير مكة، مولانا الشريف غالب بن مساعد، وهو نائب من جهة السلطنة العليّة على الأقطار الحجازية، وابتداء القتال بينهم وبينه من سنة خمس بعد المائتين والألف، وكان ذلك في مدة سلطنة مولانا السلطان سليم الثالث. وأما ابتداء أول ظهور الوهابية، فكان قبل ذلك بسنين كثيرة. وكانت قوتهم وشوكتهم في بلادهم –يعني نجد- أولًا، ثم كثر شرهم، وتزايد ضررهم، واتسع ملكهم، وقتلوا من الخلائق ما لا يُحصون، واستباحوا أموالهم، وسبوا نساءهم، وكان مؤسس مذهبهم الخبيث محمد بن عبد الوهاب، وأصله من المشرق، من بني تميم. وكان في ابتداء أمره من طلبة العلم بالمدينة المنورة، وكان أبوه رجلًا صالحًا من أهل العلم، وكذا أخوه الشيخ سليمان، وكان أبوه وأخوه ومشايخه يتفرّسون فيه أنه سيكون منه زيغ وضلال لما يشاهدونه من أقواله وأفعاله ونزعاته في كثير من المسائل، وكانوا يوبخونه ويحذرون الناس منه، فحقّق الله فراستهم فيه. كان ابتداء ظهور أمره في الشرق سنة 1143هـ، وابتداء انتشاره بعد 1150ه. وألّف العلماء رسائل كثيرة للرد عليه حتى أخوه الشيخ سليمان وبقية مشايخه، وكان ممن قام بنصرته وانتشار دعوته من أمراء المشرق محمد بن سعود أمير الدرعية، وكان من بني حنيفة قوم مسيلمة الكذاب، ولمّا مات محمد بن سعود، قام بها ولده عبد العزيز بن محمد بن سعود، وكان كثير من مشايخ ابن عبد الوهاب بالمدينة يقولون: سيَضِلُ هذا أو يُضِل الله به من أبعده ‏وأشقاه، فكان الأمر كذلك، وزعم محمد بن عبد الوهاب أن مراده بهذا المذهب الذي ابتدعه ‏إخلاص التوحيد والتبري من الشرك، وأن الناس كانوا على شرك منذ ستمائة سنة، وأنه جدّد ‏للناس دينهم. وحمل الآيات القرآنية التي نزلت في المشركين على أهل التوحيد كقوله تعالى: ‏﴿‏وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ‏‏﴾‏‏ ‏[الأحقاف: 5]، ‏وكقوله تعالى: ‏‏‏﴿‏‏‏وَلَا تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ‏‏﴾‏‏ [يونس: 106]،‏‏ ‏وكقوله تعالى: ‏‏‏﴿‏‏‏وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم‏‏﴾‏‏ [الرعد: 14]، وأمثال هذه الآيات في ‏القرآن كثيرة"أهـ.

‏وأقول: إذًا فآل سعود من بني حنيفة قوم مسيلمة، ومحمد بن عبد الوهاب شيخهم المتنبي من بني تميم قوم ذي الخويصرة؛ وبهذا اكتملت الخلطة العجيبة اللازمة لخروج المارقة من الدين، فاجتمعت بنو حنيفة مع بني تميم جهة المشرق! وكأنه أشبه بزواج الكذابين مسيلمة الحنفي بسجاح التميمية. ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذكر رأس الكفر التي عند المشرق "حيث يطلع قرنا الشيطان، في ربيعة ومضر"؟! وبنو حنيفة من ربيعة، وتميم من مُضر، وكلاهما يسكنان جنوب الرياض، على هضبة عالية جهة الشرق من المدينة، وعلى خط العرض نفسه.‏

وقد حفظ الطبري في "تاريخ الرسل والملوك" (ج8، ص652) كلمة للمأمون العباسي قال فيها: "وأما ربيعة فساخطةٌ على الله منذ بعث نبيه من مُضَر؛ ولم يخرج اثنان إلا خرج أحدهما شاريًا "أهـ. والشُراة هم الخوارج، ويعني أن نصفهم خوارج.

وفي بداية أمر ابن عبد الوهاب أُخرج عدة مرات، مثل إخراجه من البصرة أو العُيينة بالأحساء، ولكن علا شأنه بعد تحالفه مع أمراء آل سعود، وقد قام الوهابية ومن تحالفوا معه من الأمراء بمجازر في حق المسلمين بمناطق الجزيرة العربية، بدءًا بالتوسع في نجد، ويذكر الرافعي في "عصر محمد علي" (ص123) أن محمد بن عبد الوهاب، بعد أن تُوفي سنة 1206هـ (1792م) "ظلت دعوته تنمو وتضطرد بفضل تأييد عبد العزيز –بن محمد بن سعود- لها، وتنكيله بالقبائل التي لا تدين بها، فامتد نفوذ الوهابيين إلى ولاية البصرة، وزحفوا على كربلاء، مثابة الشيعة، واستولوا عليها سنة 1801م، وأمعنوا في أهلها قتلًا، ونهبوا المدينة، وهدموا مسجد الحسين بن عليّ رضي الله عنهما، وأخذوا ما في قبته من النفائس والجواهر". ثم يتبع الرافعي أنه؛ وكردّ فعل لما أحدثه الوهابيون في كربلاء من الفظائع "جاء الدرعية –عاصمة الوهابية الأولى- شيعي متنكر، واغتال الأمير عبد العزيز، وهو قائم يُصلي العصر، في جامع الدرعية، سنة 1803م، فخلفه ابنه سعود في الإمارة"أهـ. ولم يكن ما فعلوه في كربلاء إلا مثالًا، فقد توسعوا في فتوحاتهم، حتى دخلوا مكة والمدينة، وسرقوا كل ما أهداه الخلفاء والسلاطين والملوك للحجرة النبوية عبر قرون، والأدهى كان تحكمهم في فريضة الحج، ومنعهم القادمين ممن ليسوا على عقيدتهم من أدائها.

وقد حاول عدد من الولاة العثمانيين محاربتهم، كالشريف غالب بن مساعد، شريف مكة، وسليمان باشا والي العراق، ولكن الوهابية دحروهم. ثم قام محمد علي باشا والي مصر بتسيير حملة كبيرة بقيادة ابنه طوسون باشا سنة 1811م، دخلت في معارك كثيرة مع الوهابيين، واستطاع استعادة ينبع والمدينة ومكة والطائف، قبل أن ينقلب الوضع على الجيش المصري عسكريًا، وتنتشر فيه الأمراض بسبب الإعياء، ويضطر محمد علي باشا للسفر بنفسه مع المدد، وحقق الجيش المصري انتصارات، وأمّنوا الحجاز، حتى استطاع المسلمون من كل الجهات أن يؤدوا فريضة الحج الموافقة لعام 1814م، ولكن اضطر محمد علي باشا للعودة إلى مصر سنة 1815م، بسبب مؤامرة كانت تُدبر في غيبته، وتبعه طوسون باشا بشهور، وكانت مساعي الصلح مع الوهابية لم تُفلح. وأعد محمد علي باشا حملة ثانية بقيادة ابنه إبراهيم باشا، وسيّرها إلى جزيرة العرب في سبتمبر 1816م. وانتهى أمر الوهابية بسقوط عاصمتهم الدرعية بيد القوات المصرية التابعة للسلطنة العثمانية بقيادة إبراهيم باشا سنة 1233هـ/سبتمبر 1818م، وقبض على بعض رءوسهم ومعاونيهم، فقُتل بعضهم، وأُسر بعضهم، فقُتلوا بعد ذلك بالقاهرة والاستانة. وانتهت فتنتهم الأولى.

لكن فكرهم التكفيري لم يكن قد استؤصل تمامًا، فعاد ونما كالسرطان، وكان إبراهيم باشا قد أخرب الدرعية خرابًا كليًا، فحاول بعض من بقي من أمرائهم إعادة دولتهم، ولكن جعل عاصمتهم هذه المرة الرياض، وتوسعوا مرة ثانية وقاتلوا أمراء الجزيرة العربية، حتى قامت دولتهم الثانية ثم دالت، ثم مع مطلع القرن العشرين الميلادي –في القرن الثالث عشر الهجري- استعادوا الرياض والمناطق التي فقدوها تباعًا من خلال معارك كثيرة، حتى دانت لهم أغلب مناطق جزيرة العرب، وبعد توطد الأمر لهم ساعد ذلك على نشر مذهبهم. ثم ظهرت الجماعات الإرهابية المنتحلة لهذا الفكر التكفيري كالقاعدة في نهاية القرن العشرين، ثم حلت بنا فتنة ربما لم تمر سابقة عليها في تاريخ الإسلام، وهي فتنة داعش. وحسبنا الله ونعم الوكيل.

لماذا هم خوارج؟

إن هذه الدعوة المسماة بالسلفية أو الوهابية هي سبب إحياء فكر الخوارج التكفيري في المجتمعات الإسلامية المعاصرة. وهي أخطر ما تعانيه الأمة في زماننا. فهم خوارج لأنه قد ظهرت فيهم صفة وعلامة التحليق –حتى للنساء-، وهي علامتهم التي ميزتهم عن باقي جماعات الخوارج كما جاء في الحديث الشريف. وهم خوارج لتكفيرهم الناس واستباحة دمائهم، واستباحة أموالهم، مثلما فعلت كل طوائف الخوارج من قبلهم. وهم خوارج لاتهامهم المسلمين بالشرك وتطبيق نصوص القرآن التي نزلت في المشركين والكافرين على المسلمين. وهم خوارج لاعتقادهم أنهم وحدهم الفئة الناجية وتخطئتهم حتى لأئمة السُنة وتبديعهم، ولم يسلم منهم حتى كبار أئمة الحنابلة كابن الجوزي والذهبي. وهم خوارج لمنعهم الحجيج من الوصول إلى بيت الله الحرام وأداء المناسك، وهو فعل القرامطة قديمًا، بل ونهبوا الحجرة النبوية وأخذوا ما فيها من الأموال والجوهر.

وكان الوهابية قد منعوا الحجيج المصري والشامي سبع سنين قبل أن يهزمهم إبراهيم باشا. ويذكر مؤرخ الوهابية عثمان بن بشر النجدي الحنبلي في كتابه "عنوان المجد في تاريخ نجد" (ج1، ص292) في حوادث سنة 1221هـ "فلما خرج سعود من الدرعية قاصدًا مكة، أرسل فرَّاج بن شرعان العتيبي، ورجاله معه، لهؤلاء الأمراء المذكورين، وذكر لهم أن يمنعوا الحواج التي تأتي من جهة الشام واستنبول ونواحيهما، فلما أقبل على المدينة الحاج الشامي ومن تبعه، وأميره عبدالله العظم باشا الشام، فأرسل إليه هؤلاء الأمراء أن لا يقدم إليهم، وأن يرجع إلى أوطانه". وفي حوادث سنة 1223هـ (ص297) يذكر أنه "لم يحج في هذه السنة أحد من أهل الشام ومصر والعراق والمغرب وغيرهم إلا شرذمة قليلة من أهل المغرب لا اسم لهم حجوا بأمان".

وفي القرن العشرين مُنع الحاج السوري من الوصول إلى مكة سنة 1959هـ، كما مُنع الحجاج اليمنيين على إثر خلافات سياسية، وكذا حدث مع الحجاج الليبيين لسنوات، وأُرجعت الكسوة المرسلة من مصر كهدية للكعبة المشرفة، والتي كانت مصر تقدمها لقرون، كما استأثروا بالإمامة والوعظ في الحرمين الشريفين في مشائخ مذهبهم، وهي سابقة لم يحدث مثلها في تاريخ الإسلام. والأسوأ هو واقعتين قام فيها الجنود بفتح النيران على الحجيج. الأولى ضد الحاج اليماني سنة 1341هـ ‏‏/ 1921م والثانية ضد الحاج الإيراني سنة 1408 هـ/ 1988م.‏

شيخهم المتنبي!‏

كانت العقيدة الأشعرية قد انتشرت في ربوع بلاد الإسلام من المشرق إلى المغرب، ولكن كانت عقيدة ومذهب الحنابلة ‏–والإمام أحمد منها براء- ‏منتشرة في نجد، من القرن التاسع الهجري، محمّلة بأفكار ابن تيمية.

ومن يقرأ للوهابية يفهم مباشرة نظرة محمد بن عبد الوهاب إلى المسلمين في عصره، فممارساتهم بالنسبة إليه كانت شركًا، تستحق منه الجهاد ضدهم واستحلال دمائهم وحرماتهم، فكان يحاربهم ويسمي ما يفعله بهم غزوات، ويسبي نساءهم وأطفالهم. ويبدو أن الرجل من الناحية النفسية كان يرى في نفسه استئهالًا للنبوة، لأن هذا التصور لمجتمعه على أنه المجتمع المسلم الصغير الذي تقابله ديار شرك، لم يوجد سوى في عصر النبوة الأولى، وحتى الخوارج الأوائل كفّروا المسلمين، ولم يُسموا حروبهم معهم غزوات. كما أنه قد أطلق على حركته مسمى "دعوة"! فلأول مرة منذ أن صدع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوة الإسلام نجد شخصًا يتزعم فرقة من الفرق يُطلق على ما يعرضه مسمى "دعوة". وكانوا يقولون لمن يتبعهم أنه دخل في ديننا! والعجيب أن الوهابية المحدثين يصدّقون على ذلك التصور، ولا يرون فيه أدنى مبالغة.

كانت دعوة ابن عبد الوهاب تقوم على أساس تكفير جميع المسلمين؛ إذ تتضمن في أغلبها مخالفات ابن تيمية التي ابتدعها ونسبها للسلف وحُبس مرارًا بسببها، وهي: تحريم التوسل بالنبي، وتحريم السفر ‏لزيارة قبر الرسول، وإلغاء الطلاق المحلوف به عند الحنث فيه، وعقيدة حنابلة بغداد التجسيمية لذات الله تعالى بنسبة الجوارح إليه وتحييزه في جهات. كما ابتدع ابن عبد الوهاب بعض المستجدات مما لم يُسبق إليها كمحاربة التصوف وتحريم الاحتفال بالمولد الشريف خلافًا لابن تيمية الذي لم يحرِّمه. قال في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم" عند حديثه عن الاحتفال بمولد النبي عليه الصلاة والسلام: "إن هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضى له، وعدم المانع منه، ولو كان هذا خيرًا محضًا أو راجحًا لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا". ‏وكان من أول ما يفعلونه الوهابية عند السيطرة على منطقة أو عندما تتحالف معهم هو هدم الأضرحة، -ولا زال هذا دأب السلفية المعاصرين-. وكانت أول قبة قبر هدمها ابن عبد الوهاب قبة قبر زيد بن الخطاب.

وقد كتب من علماء القرن الثاني عشر الهجري ردودًا على الوهابية، منهم أخي محمد بن الوهاب، الشيخ سليمان بن عبد الوهاب النجدي، الذي صنّف رسالة بعنوان "الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية".

والوهابيون يرفضون تلك التسمية، ويُحبون أن يُسموا بالسلفية نسبة إلى ما كان عليه السلف الصالح، وقد سبق وناقشنا صحة إطلاق هذا المسمى عند نقد عقيدتهم. ولكن منتقديهم يُصرون على تلك التسمية ويرفضون أن ينسبوهم إلى السلف.

أفكار الوهابية

يعدد السيد حسن السقاف في كتابه "السلفية الوهابية.. أفكارها الأساسية وجذورها التاريخية" أهم أفكار الوهابيين السلفيين في الآتي:

1- عقيدة التشبيه والتجسيم في حق الله تعالى.

2-النَصْب: وهو عدم احترام النبي ولا آل بيته، ومناصبتهم العداء ولو بطرق خفية.

3- ادعاء أنهم هم الفرقة الناجية دون بقية المسلمين.

4- الإرهاب الفكري المتمثل برمي المخالفين وبقية الفرق والمذاهب الإسلامية بالشرك والكفر والضلال والبدعة، ومن ثم رفض فكرة التقريب بين المذاهب الإسلامية وتوحيد الجهود. وكمثال: بغض الإمام أبي حنيفة عند السلفيين الوهابيين.

5- محاربتهم للتصوف الإسلامي، ومجالس الذكر والصلاة على النبي والموالد والأولياء، وعليه فإن منهجهم جاف بعيد عن الروحانيات.

6- رفضهم للتأويل، وعدم اعترافهم بأئمة المفسرين وكتب التفاسير، وعدم التفاتهم لأساليب اللغة العربية، كالاستعارة والمجاز والشعر الجاهلي في تفسير القرآن وفهم النصوص الشرعية.

7-عدم رغبتهم بالاستدلال بالقرآن الكريم، وإنما بالحديث والأثر، ويعيبون المستدلين والمهتمين بالقرآن بأنهم قرآنيين.

8- تصحيحهم وتضعيفهم الحديث حسب ما يقتضيه رأيهم ومذهبهم، وتلاعبهم وتحريفهم للحديث، وتناقضهم في ذلك.

9-عدم أخذهم بالإجماع إلا فيما يوافقهم، ولهم تناقضات في هذه المسألة.

10-عدم إيمانهم في القياس في العبادات مع أنهم يستعملون القياس في مسألة قياس الخالق على المخلوق"أهـ.

أما من وجهة نظرهم فهم يعتبرون أنهم لا يقولون كالخوارج بالتكفير بالذنوب، بل هم يكفّرون من فعل المكفِّرات كالشرك بالله، والتي ترجمتها العملية كثير من الأفعال التي قد يقع فيها المسلمون، فالمحصلة واحدة! كما يعتقدون أن ممارساتهم كهدم الأضرحة والقباب كقبور البقيع، وهدم الآثار الإسلامية، كهدم بيت أبي أيوب الأنصاري، ومكان ولادة النبي صلى الله عليه وسلم، وردم بئر الخاتم، وطمس معالم بستان سلمان الفارسي، وكانت به نخلة غرسها الرسول بيده، وغيرها من الآثار، ومنع المسلمين من التوسل والتبرك بالرسل والصالحين أحياءً وأمواتًا، هي دعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنهم يهدفون إلى إعادتهم إلى التوحيد الخالص، وإلزام الناس بالاعتقاد بصفات الله تعالى –كما فهموها- التي تعبر مثيلاتها لدى البشر عن جوارح، ولا يرون في هذا تشبيهًا ولا تجسيمًا ولا تجزيئًا لا يليق بالله تعالى. وهذا من ضيق نظرتهم وأفقهم، ومحدودية عقولهم. وهذه صفة أساسية فيمن يعتقد تلك العقيدة. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ وصفهم بأنهم "سفهاء الأحلام"، والحلم هو العقل. وشأنهم في هذا شأن الحروريين الذين كانوا حمقى يسيئون تفسير آيات القرآن كآية ‏‏‏﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾‏‏‏‏ [يوسف: 40]، حتى كفَّروا إمام زمانهم سيدنا علي، رغم أنهم كانوا عبادًا راكعين ساجدين.

ويُعدِّد السيد حسن السقاف في كتابه طرق انتشار السلفية الوهابية في الآتي:‏

1- بث الدعاة المروجين لهذا الفكر، وهم إما خطباء أو أئمة مساجد أو باحثين مستقلين أو مدرسين في الجامعات والمدارس.

2- جمعيات أو جماعات قائمة في العديد من البلدان.

3- نشر الكتب الوهابية وغيرها من الكتب القديمة والحديثة، وترجمتها إلى لغات مختلفة.

4- نشر شرائط الكاسيت الخاصة بدعاتهم.

5- بث الأفكار عن طريق إذاعات وقنوات خاصة.

6- بث الأفكار والجدل عبر الانترنت.

7- وجود أشخاص يُعيّنون دعاة الوهابية السلفية في وظائف دينية، وغيرها.

8- إنشاء جامعات ومدارس شرعية تتبنى هذا الفكر.

أما طرق قمعهم للحوار والنقاش لمن يعارضهم فتتمثل في:

1-الحجر الفكري المتمثل بنظرية هجر المبتدع.

2-استعمالهم الكيد، وبث الإشاعات الكاذبة على مخالفيهم وخصومهم.

3-الشجار والضرب والتخريب والاقتتال.

4-تحريف كتب التراث والنصوص"أهـ.

وأقول: إن من أسوأ ما يقومون به هو تحريف واجتزاء كتب التراث لحذف ما لا يتفق مع عقيدتهم، وللمساعدة على نشرها، حتى لا يشك العامة في تلك العقيدة التي يُدعى لهم أنها عقيدة السلف عندما يقرأون لكبار علماء المسلمين ما يُخالفها. مثل ما فعلوا في كتاب الأذكار للنووي، وحاشية ابن عابدين الحنفي، وحاشية الصاوي على تفسير الجلالين. وحذف كل كلمة تدل على مشروعية زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم والتوسل عنده والتشفع به من كتب التراث، مثل قصة العتبي الشهيرة مع الأعرابي الذي قال قصيدة "يا خير من دُفنت بالقاع أعظُمه...."، وغيرها.

إن هذه العقيدة تخرج بالإسلام عن جوهره كدين الرحمة. ولها موقف سلبي من كل ما هو حضاري. فموقفها سلبي من المرأة والكثير من العلوم والفنون الراقية، وتقوم على مخاصمة العقل، ولا تعترف بحرية العقيدة، وقيم المواطنة. وتعادي كل ما عداها، مسلمين وغير مسلمين، وكأنهم قد احتكروا الجنة لأنفسهم. فهي دعوة جاهلية، وإرهاب للآخرين، ليس لها علاقة بالإسلام ولا بالحضارة.

وأخيرًا فإنه كان بإمكاني أن أؤلف كتابًا منفصلًا عن الفتن التي أشاعها السلفية، وما رواه كتاب التاريخ عنها، فهذا غيض من فيض.

وكما أن للتشيع وجهان؛ أحدهما محمود "التشيع العلوي"، والآخر مذموم "التشيع الصفوي"، والذي يقوم على السب والقدح، فلا شك أن للدعوة السلفية أيضًا وجهين؛ أحدهما مذموم، وهو ما يشوِّه الإسلام ويخرج به عن جوهره، والآخر محمود، وهو ما يأمل فيه كل مسلم، بالعودة إلى روح الإسلام وعزه وقوته وقيمه.

وأخيرًا، فأنا لم أكتب ما كتبت لأكفِّرهم مثلما يُكفِّرون من عداهم. ‏قال تعالى: ‏‏‏﴿وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ‏‏﴾‏‏ [الإسراء: 13]. وإعطاء حكم عام على ملايين لأن أشخاصًا ‏قد حلّلوا أو حرموا مرفوض، وما أدرانا أن الذين نتهمهم قد فعلوا المنسوب لجماعتهم، وأنهم واعون بالمعنى الذي نفهمه.‏

وروى الإمام البخاري في صحيحه (391) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ‏صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، ‏فلا تُخفروا الله في ذمته". ونحن لا نُكفر أحدًا من أهل القبلة.

***

د. منى أبو بكر زيتون

مُستل من كتابي "التطرف الديني الإسلامي.. نشأته وأسبابه وآثاره وطرق علاجه"

................

لتحميل بعض من كتب د. منى زيتون بصيغة pdf

https://payhip.com/DrMonaZaitoon

في المثقف اليوم