دراسات وبحوث

نبيهة عبود.. فيلسوفة عراقية في الجامعات الأمريكية

بشهادة محسن مهدي

عندما زار الأستاذ الدكتور "محسن مهدي"، (الفيلسوف العراقي المعروف) صديقه الحميم الأستاذ الدكتور " إبراهيم بيومي مدكور" (الفيلسوف المصري) في ثمانينات القرن المنصرم، وكان الدكتور مدكور آنذاك رئيساً لمجمع اللغة العربية، طلب الدكتور " مدكور " من صديقة الدكتور " محسن مهدي"، أن يكون عضواً شريفياً لمجمع اللغة العربية، وفي أثناء جلسة عشاء بينهما في "فيلا" الدكتور مدكور، سأل مدكور مهدي عن أهم الشخصيات العراقية أثرت في فكره؟، فأجاب مهدي" نبيهة عبود" .

ولهذا نكتب ورقتنا هذا للتعرف على تلك الفيلسوفة العراقية للكشف عن جهودها وإسهاماتها الفلسفية، لا سيما وبشهادة كثير من الباحثين أن نبيهة عبود Nabia Abbott (1897-1981)، تعد أول سيدة عراقية تشغل مقعداً في معهد شيكاغو للدراسات الشرقية، واستطاعت من خلال مكثها في هذا المعهد إصدار أعدداً مهمة من الدراسات المتنوعة في ميدان التراث العربي الإسلامي، وكانت أبرز الجوانب التي ركزت عليها في عملها هو دراسة وضع المرأة الشرقية، والأثر المهم الذي تركته بعض النسوة اللاتي برزن في التاريخ الإسلامي من خلال أثرهن على سلطة الحاكم، وقد قدمت نماذج لتلك النسوة أبرزهن " الخيزران"، وزبيدة".

وأول من كتب دراسة كاملة عن فكر " نبيهة عبود" كان تلميذها النجيب الدكتور محسن مهدي، وذلك من خلال التأبين الكبير الذي أقامه معهد شيكاغو للدراسات الشرقية بعد وفاتها سنة 1981، كتب محسن مهدي مؤرخا لحياتها فقال : نبيهة عبود صاحبت الفصل الكبير حيث أشرفت على رسالتي في الدكتوراه في موضوع بعنوان "فلسفة التاريخ عند ابن خلدون" سنة 1954، وهي من أهم من ساهم في تكوين توجهي الفكري والفلسفي فيما بعد نحو الاهتمام بالعلم المدني، وقد سألتها ذات يوم على حياتها الأولي، فأخبرتني بأنه ولدت في مدينة مارديف (جنوب غرب تركيا) في الحادي والثلاثين من يناير (كانون الأول)عام 1897، وكانت لا تزال طفلة حين سافرت مع عائلتها في عربة بصحبة قافلة من الخيالة البدو نزولاُ إلى الموصل . وأبحرت العائلة نزولاً خلال نهر دجلة إلى بغداد، ولاحقاً إلى الخليج العربي، لتبدأ رحلة أخرى إلى مومباي عام 1907، وهناك دخلت مدارس إنجليزية، إذ استغرقت فيها كل دراساتها للمرحلة الثانوية، لتصبح مؤهلة الالتحاق بجامعة كامبردج حتى عام 1915، لكنها بقيت في الهند خلال الحرب العالمية الأولي، وارتحلت لشمال لكينو Luck now، إذ التحقت بكلية إيزابيلا ثوبرن للبنات Isabella Thoburn، وحصلت منها على البكالوريوس في الآداب والفنون وبمرتبة الشرف عام 1919، وفيما بعد التحقت لبدء برنامج تعليم المرأة في العراق خلال نشوء الملكية، إذ تمتعت بدعم كبير من السيدة " جيرترود مارغريت لوثيان بل (كاتبة إنجليزية)، ويبدو أنها استمرت بالعمل في هذا البرنامج إلى عام 1925، إذ تبعت أسرتها لمدينة بوسطن الأمريكية، وحصلت على الماجستير في الآداب في جامعة بوسطن، ومن ثم انضمت للكادر التدريسي في كلية ازبري في مدينة ويلمور Wilmore في مقاطعة كنتاكي، حيث درست في قسم التعليم، ومن ثم أصبحت رئيسة قسم التاريخ فيها ما بين عامي 1925 إلى 1933، وانتقلت عائلتها للإقامة في ولاية شيكاغو حينها انضمت "نبيهة عبود" للتدريس في الفصول التي يقدمها "مارتن سبرنكلنك Martin Sprengling، أصبحت " نبيهة عبود" بعد ذلك أستاذاً للغة العربية في المعهد الشرقي، وهي أول عضو نسوي مارس التدريس في المعهد الشرقي .

ويستطرد الدكتور محسن مهدي فيقول : ولقد كانت المدة التي قضتها " نبيهة عبود" في المعهد الشرقي هي التي حددت اهتماماتها المستقبلية، حيث أن نتاج المعهد تمحور في المدة التي سبقت، والتي تلت الحرب العالمية الأولي والثانية حول العلاقة بين الدراسات العربية الإسلامية والشرق الأدنى القديم . فالمعهد ضم العديد من الوثائق الثمينة للفترة الإسلامية المبكرة .

ويشير محسن مهدي إلى أنه لطالما اعتبرت " نبيهة عبود" المعهد الشرقي منزلاً لها، لذلك لك تتركه أبداً ما عدا سنة واحدة فقط عندما ذهبت للشق الأوسط على سبيل التفرغ بين عامي 1946 حتي 1947، إذ درست ونشرت العديد من الوثائق السياسية للفترة الإسلامية المبكرة بحيث مكنتها دراستها تلك من الحصول على وثائق مهمة أخرى وسعت بها مقتنيات مكتبة المعهد في هذا المجال، وبعد إحالتها على التقاعد عام 1963، حازت على لقب أستاذة فخرية في الجامعة.

ويستطرد محسن مهدي أيضا فيقول كذلك عملت " نبيهة عبود" على الاستفادة الكاملة من الفرص التي منحت لها تحقيقا وتدريساً للمواضيع التي تطلب منها العمل عليها وتقديمها بأشد درجات الدقة والرصانة . إن عمل " نبيهة عبود" الدؤوب في المعهد الشرقي منج عنه العديد من الأعمال المهمة، إضافة إلى أنها نوعت ميدان دراستها فلم تقف عند دراسة الوثائق المصرية القديمة والبرديات، بل شمل عملها أيضاً دراسات تتناول تاريخ الإسلام المبكر، حيث كانت أهم حقولها ما قدمته " نبيهة عبود" في دراستها لوضع المرأة المسلمة ودورها السياسي الذي لعبته في الفترة المبكرة من تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، وقد استمرت " نبيهة عبود" في المعهد الشرقي حتى عام 1963، إذ عملت " نبيهة عبود" بعدها كأستاذ متفرغ، وتوفيت في الخامس عشر من تشرين الأول لعام 1981.

وقد ألفت "نبيهة عبود"  العديد من المقالات والبحوث كما يقول محسن مهدي حيث صدر لها عام 1946 كتاب بعنوان ملكتا بغداد الخيزران وزبيدة (Two Queens of Baghdad) طبع ونشر في شيكاغو.. هذا بالإضافة إلى مؤلفاتها والتب لاحصر لها حيث نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر" عائشة أم المؤمنين، قرة بن شريك حاكم مصر، الإسلام والحضارة الحديثة في مصر.. كما صدر لها مجموعة مقالات ودراسات نشرت في العديد من الصحف والمجلات منها: أوراق بردي عربية من عام 250 هـ (الصحيفة الأمريكية الشرقية 1937)، ورق بردي عن حكم جعفر المتوكل على الله (المجلة الشرقية الألمانية، 92، 1938) ونسخة مغربية من القرآن في مجموعة الدكتور بول هدسون (الصحيفة الأمريكية للغات والآداب السامية، 55، 1938)، الأرقام العربية (مجلة الجمعية الملكية الآسيوية 1938)، تزيين نسخ القرآن في مكتبة الشاه حسين صفوي (الفن الإسلامي , 1938 – 39)، كتابة ابن مقلة (الصحيفة الأمريكية للغات والآداب السامية 1939)، وثائق فارسية عن مغول الهند (صحيفة الجمعية الأمريكية الشرقية 1939)، عقود الزواج العربية على ورق البردي (المجلة الشرقية الألمانية , 95 , 1941)، استقراء الكتابات العربية القديمة (الفن الإسلامي، 1941)، المرأة والدولة في فجر الإسلام (صحيفة دراسات الشرق الأدنى , 1 , 1943 , وقد نقلها إلى العربية الأستاذ محمد عبد الغني حسن , المقتطف 1943)، أوراق البردي في المعهد الشرقي : تواريخ الأنبياء (الصحيفة الأمريكية 1946(،كتابات قصر الخزانة (الفن الإسلامي، 1946، ألف ليلة ولية (صحيفة دراسات الشرق الأدنى، 1949،وثائق عن مصر وإدارتها في أوائل القرن الثامن عشر (مطبوعات جامعة شيكاغو 1939).

وفي تلك الكتابات يقول الدكتور محسن مهدي : لقد أثبتت لنا " نبيهة عيود" إلى أن هناك افتراض خاطئ في مضمونه بأنه ليس هناك إسهام نسائي في مجال الفكر الفلسفي،أى أن كل الفلاسفة رجال، وليس هناك نساء فيلسوفات. وهناك من يتخذ من هذا الافتراض الخاطئ، كدليل على أنه ليس للمرآه مقدره على التفكير العقلاني- الذي يعتبر التفكير الفلسفي شكل من أشكاله.

وثمة نقطة مهمة أكد عليها الدكتور محسن مهدي وهي أن " نبيهة عيود" أعطت حياتها كلها للمعهد الشرقي : تعليماً وبحثاً، وظلت اهتماماتها الرئيسة هي اهتمامات أستاذ جامعي أكاديمي يسعي إلي أن يرتفع بعمله إلي أعلي مستوي ممكن، وكثيرا ما يؤكد الدكتور محسن مهدي على أن " نبيهة عيود " (من خلال الفترة التي قضاها معها)، أنها كانت تعتقد أن قدراتها الخاصة في الفكر النسوي لا تقل بحال من الأحوال عن قدرات أي فيلسوفة نسوية مماثلة لها في الجامعات الأمريكية . لذلك فإن حوارها مع كبار الفيلسوفات النسويات في أمريكا، كان يتسم بالندية . وكانت تصحح الكثير من آرائهم ومعتقداتهم عن دور المرأة في الإسلام، كما استطاعت " نبيهة عيود" قراءة المصادر العربية بطريقة عميقة رسمت بها صورة واضحة للوشع الحقيقي الذي بلغته النساء في القصور الأموية والعباسية.

ويعطينا محسن مهدي نموذجاً لهذا النقاش الحاد الذي دار بين " نبيهة عيود"  وبين بعض الكاتبات النسويات وهي تناقشها في كتابها " ملكتان من بغداد"، حيث حاولت الكاتبة أن تسفه في مكانة " زبيدة " والخيزران"، ولكن " نبيهة عيود"  ردت عليها قائلة " فاقد الشئ لا يعطيه "، وكان أجدر بكِ أن تقرأين التراث العربي الإسلامي فيما مكانة المرأة في الإسلام، ثم سألت الكاتبة الأمريكية " نبيهة عيود"  أن تفسر لنا المقارنة التي أجرتها بين " زبيدة " و" الخيزران" في كتابها " ملكتا بغداد " .

وهنا يقول الدكتور محسن مهدي : وعلى الفور قامت " نبيهة عيود"  تشرح للكاتبة الأمريكية مغزي الكتاب فتقول (نقلاً عن محسن مهدي) :" إن اسم "زبيدة" و" الخيزران" بشهرة الخليفة العباسي " هارون الرشيد"، لكن " نبيهة عيود"  تحدد اختلاف تلك الشهرة فتقول بأن اسم " هارون الرشيد" لا يزال أكثر اسماء الخلفاء دوراناً على الألسنة، كما أن لزبيدة زوجته حظها من هذه الشهرة المترامية الأطراف، ولكن القليلون يذكرون اسم "الخيزران" التي كانت أكثر جرأة وسياسة من زميلتها، ولذلك عملت جاهداً حتى يتسلم أولادها العرش بعد أبيهم " المهدي"، وتشير " نبيهة عيود"  إلى أنه بمجرد وفاة " المهدي" تغير دور الخيزران من زوجة خليفة إلى أم خليفة بحيث أطلقت يدها على مؤسسات الدولة، وتربط " نبيهة عيود"  هذه المسألة بالطريقة التي تم بها نشأة كل من " موسي الهادي" وأخيه " هارون الرشيد" .

ثم يشير محسن مهدي قائلاً أن " سيدني كلاوز قال واصفا " نبيهة عيود"  في الكتاب بأنه ركزت على متابعة دور الامرأتين، وهما " زبيدة" و" الخيزران" وراء فيما وراء الكواليس في تشكيل واحدة من أعظم الإمبراطوريات العظمي في العصور الوسطي.

واكتف بهذا القدر، وفي نهاية هذه الورقة أقول : أن المادة العلمية التي كتبها الدكتور محسن مهدي قد أفادت بمعلومات كثيرة عن " نبيهة عبود"، حيث استفاد الأستاذ وميض محمد شاكر إبراهيم في دراسته الشيفة بعنوان : نبيهة عبود ودور المرأة الشرقية الحاكمة دراسة في كتابها " ملكتان من بغداد، وكذلك موقع ويكبيديا حين كتب عنها .

حسبنا هذه الإطلالة السريعة الموجزة علي الجانبين الإنساني والعلمي لتلك الفيلسوفة المبدعة، والنموذج المتفرد للنسوية العراقية " نبيهة عبود" والتي نذرت حياتها بطولها وعرضها لخدمة الفلسفة والثقافة العربية، وأثرت حياتنا الفكرية بكل ما قدمته من جهود.

تحيةً مني لـ" نبيهة عبود" التي  لم تستهوها السلطة، ولم يجذبها النفوذ ولكنها آثرت أن تكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع، وسوف تبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً . بارك الله لنا في " نبيهة عبود" قيمة جميلة وسامية في زمن سيطر عليه "أشباه الفلاسفة" .

***

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل - جامعة أسيوط

...................

المراجع:

1- Muhsin Mahdi: Journal of near Eastern Studies , Vol. 4, N. 3, Arabic and Islamic in honor of Nabiaabbott : part 1, Jul-1981,P.163-177.

2-وميض محمد شاكر إبراهيم: نبيهة عبود ودور المرأة الشرقية الحاكمة دراسة في كتابها " ملكتان من بغداد، مجلة أدب الرافدين، ملحق العدد (82)، 1442هـ-2020م.

3- نبيهة عبود: ويكبيديا .

4- مجلة مجمع اللغة العربية المصري.

 

في المثقف اليوم