علوم

معضلة الزمن بين حياة وموت كوننا المرئي (1)

جواد بشارةلنتطرق الآن إلى أهم مسألة، والأكثر غموضاً ولغزية في كوننا المرئي، ألا وهي: لماذا جاء كوننا المرئي قابلاً لاحتضان الحياة العاقلة ؟ الإجابة الصحيحة تتعلق بمعرفتنا بطبيعة وماهية الزمن وهل هو حقيقي واقعي مطلق أم افتراضي نسبي.

متى بدأ الزمن؟

ينبغي أولاً الحديث عن نشأة الكون في الأساطير المختلفة، حيث كان ثابتًا لا يتغير، وأن العديد من العلماء والفلاسفة اعتقدوا أن الكون كان مطلقًا بلا بداية أو نهاية، إلى أن قدّم العالم العبقري آلبرت آينشتاين نظريته النسبية عام 1915،والتي أثبت فيها وبشكلٍ واضح أن الزمان والمكان لم يكونا مطلقين أبدًا. بل ولم يكونا موجودين بهيئتهما الحالية قبل ظهور الكون المرئي للوجود.

كانت الكميات الديناميكية التي تشكلت من خلال المادة والطاقة تم تحديدها داخل الكون، لذا لم يكن من المنطقي أن نتحدث عن وقت قبل بدء الكون.

هناك الكثير من النظريات التي فسرت نشأة الكون، وأنه كون متغير عندما لاحظ إدوين هابل في العام 1920 المجرات من خلال تلسكوب صغير (100 بوصة) على جبل ويلسون. لم تكن ملاحظة هابل أن هناك مجرات أخرى وأن الكون متغير فحسب، بل حدد اتجاه تحرك مجراته من خلال تحليل الضوء الصادر منها، ليفاجأ أن المجرات آخذة في التباعد؛ أي أن الكون في اتساع دائم.

كما شرحت النظريات الفيزيائية لماذا الكون آخذ في الاتساع؟ وما الاحتمالات التي ستحدث لو كان الكون ثابتًا؟ والسؤال الذي يطرح نفسه هو ويتعلق بالزمن :

ما الذي كان موجوداً قبل الانفجار العظيم؟

تأتي الإجابة بأن السؤال ليس له معنى، لأنه لا يوجد مفهوم زمني متاح للإشارة إليه، ولأن مفهوم الوقت أو الزمن وجد فقط في عالمنا، بعد نشأة الكون. ولكن هل الزمن الكوني حقيقي أم وواقعي موجود بذاته أم وهم مرتبط بعوامل أخرى تحدد سماته؟

إذا كان الزمن حقاً واقعي وحقيقي، فلابد من وجود خصائص للكون المرئي لا يمكن شرحها إلا إذا اعتبرنا الزمن عاملاً جوهرياً، وإلا ستبدو غامضة وعارضة إذا افترضنا العكس ـ إن الزمن أمر طارئ ومنبثق. إن مثل تلك الخصائص موجودة فعلاً حيث دلت نتائج مشاهدتنا ورصدنا للكون المرئي أنه يمتلك تاريخاً تطورياً من البسيط إلى المركب، وهذا يضفي على الزمن مسحة توجهية أو اتجاهية معروفة بمسلمة تقول أن للزمن سهم واتجاه، والاتجاهية غير محتملة في عالم لا يكون فيه الزمن أساسياً وجوهرياً ويكون نسبي منبثق.

ولو نظرنا للكون لوجدناه في غاية الترتيب والانتظام والتعقيد . والتعقيد ليس محتملاً فهو يتطلب شرحاً . فلا شيء يمكنه القفز من تنظيم بسيط إلى تنظيم معقد جداً . فالتعقيد الكبير يستدعي سلسلة من الحقب أو المراحل القصيرة. فهو يتولد على شاكلة مشهد أو فصل وبالتالي ينطوي على تنظيم وترتيب قوي للأحداث داخل الزمن. فكل التفسيرات والشروحات العلمية للتعقيد تتطلب قصة تنبثق خلالها مستويات التعقيد ببطء من خلال الزيادات . لذا يتوجب أن يكون للكون قصة أو حكاية أو تاريخ داخل حيز زمني وبالتالي لابد من نظام وتتابع سببي من أجل شرح وتفسير لماذا أصبح الكون على ماهو عليه الآن.

فحسب فيزيائيو القرن التاسع عشر، وبعض علماء الكونيات المعاصرين ممن يتبنون الرؤية اللازمنية، فإن التعقيد الذي نحن بصدده هو عارض وبالتالي بالضرورة وقتي زائل، ومن وجهة نظرهم، فإن مصير الكون هو أن ينتهي إلى حالة من التوازن، وهي المعروفة " بالموت الحراري للكون la mort thermique de l’univers حيث تتوزع المادة والطاقة على نحو متشابه ومتسق في الكون ولا شيء يحدث عدا بعض التقلبات العشوائية النادرة التي تختفي فور ظهورها و لا تنتج شيئاً. لهذا فإن كونناً ذا التعقيدية المتنامية، هو حتمي لامفر منه . وهكذا يمتد أمامنا طريقان مختلفان يقودان إلى رؤيتين متباينتين كلياً عن مستقبل الكون المرئي. في الأولى لا يوجد مستقبل لأنه لا يوجد زمن، فالزمن وفق هذه الرؤية مجرد وهم وهو لا يعدو كونه وحدة قياس للتغيير، وبالتالي فهو وهم مآله الاضمحلال عند اختفاء التغيير. أما الرؤية المرتبط بالزمن باعتباره حقيقة ملموسة وكينونة موجودة فعلياً وذات كيان منفصل، فإن الكون هو عبارة عن سيرورة تسمح بخلق ظواهر جديدة وحالات تنظيم تتجدد بلا توقف وهو في طريقه للتطور نحو حالات متفوقة دوماً من التعقيد والتنظيم .

المعطيات الرصدية تعلمنا بلا لبس بأن الكون يصبح أكثر أهمية كلما مر عليه الزمن . ففي البدء كان مليئاً بــــ بلازما في حالة توازن . ومن تلك البداية البسيطة يخلق تعقيداً هائلاً على مختلف المستويات، من تحشد المجرات أو آماسات المجرات إلى الجزيئة البيولوجية. أي من اللامتناهي في الكبر إلى اللامتناهي في الصغر.

إن هذا الاستعصاء والثبات والمثابرة والمواصلة لتطور هذه البنية التعقيدية يثير الحيرة، لأنه يلغي التفسير الأبسط المفضل لدى الوسط العلمي بخصوص البنية التي نلاحظها أو نرصدها والموجودة منذ مليارات السنين والتي تزايدت تعقيداتها مع مرور الزمن .

فالتنبؤ بالموت الحراري للكون المرئي هو مرحلة أخرى إضافية لانتزاع الزمن من الفيزياء والكوسمولوجيا بغية التوافق مع أفكار قديمة تقول أن الحالة الطبيعية للكون المرئي هي حالة خالية من التغيير. فالاتجاه القديم للتفكير الكوسمولوجي هو أن الحالة الطبيعية للكون المرئي في حالة توازن، أي، بما أن كل شيء موجود في مكانه، فلا وجود أو دفع نحو التنظيم وهذا هو جوهر كوسمولوجيا آرسطوطاليس . في حين يوجد لدى الفيزياء المعاصرة مفهومها الخاص للتوازن المرتبط بقوانين الثرمودينامكا، أو الديناميكا الحرارية، المطبقة على الفيزياء المعلبة أو الجاهزة للاستعمال. فالظرف بالنسبة لقوانين الديناميكا الحرارية هو عبارة عن نظام منعزل لا تتبادل فيه، لا الطاقة، ولا المواد، و لا تتفاعل مع المحيط. فالتوازن عند القدماء، آرسطوطاليس ونيوتن، ناجم عن توازن القوى، في حين أن مفهوم التوازن في الديناميكا الحرارية مختلف جداً وهو يطبق على أنظمة تحتوي على عدد كبير جداً من الجسيمات الأولية ويتعاطى إلى حد ما مع مفاهيم الاحتمالية.

ولو عدنا إلى الوراء، إلى طفولة الكون، وإلى الــ 32- 10 من الثانية الأولى بعد الانفجار العظيم البغ بانغ كان هناك زمكان بحالة غريبة، جامد بلا ماضي و لا مستقبل، وبدون سهم زمن واتجاه زمني. وفجأة بدأ يتحلحل ويتقلب محولاً الطاقة البدائية الأولية إلى بلازما من الكواركات والغليونات، ومن ثم إثر تفاعلات، تكونت ذرات ومنها تكونت النجوم والكواكب. ولقد نجح العلماء في مطلع العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين من إعادة إنتاج هذه العملية في مختبر. في البدء لم يكن هناك قبل وبعد. وقبل مضي 13.8 مليار سني من الانفجار العظيم انبثق الكون المرئي من " فرادة" أو متفردة singularité ولم يتحقق أي حدث، ومن ثم بدأ الفضاء بالتمدد والتضخم ولم تكن هناك جسيمات أولية و لا ضوء، وكل ما كان موجوداً هو ماهية غير واضحة المعالم ولا شيء قابل للانعكاس كما لو أن الزمن لم يبدأ مساره ويفرض بصماته لأنه لم تكن هناك حركة. لم يتململ الكون البدئي ألا بفعل زبدة أو رغوة كمومية أو كوانتية وهي حال غريبة بين المادة والطاقة التي تتقلب بطريقة غير قابلة للانعكاس. وبفعل التقلبات الكمومية fluctuations quantiques بدأت الجسيمات الأولية بالتصادم والتفاعل ووجدت الحركة العشوائية، فنشأ الزمن وتولدت البروتونات والنيوترونات والتي تطورت في تفاعلات إلى ذرات وجزيئات وبنيات أكثر تعقيداً وتولدت حالة من التوازن ومع توالي الأحداث الكمومية أو الكوانتية بدأت مسيرة الزمن وولد الزمن الحراري المعاصر واستمر في سريانه خلال مليارات السنين.

لم يكن الانفجار العظيم انفجارًا في الفضاء كما يوحي اسم النظرية، بل كان ظهور الفضاء في كلّ مكانٍ في الكون المرئي. ووفقًا لنظرية الانفجار العظيم فإن بداية الكون كانت من نقطةٍ واحدةٍ في الفضاء ذات كثافةٍ وحرارةٍ شديدتين جدًّا هي التي أسميت بالفرادة. لم يكن علماء الفلك على يقينٍ مما حصل قبل هذه اللحظة، ولكنهم مع بعثات الفضاء المتطورة والتلسكوبات الأرضية والحسابات المعقدة ما زالوا يعملون على رسم صورةٍ أوضح لبداية الكون وتشكله. ويأتي الدور الأساسي في هذه الاكتشافات إلى عمليات رصد إشعاع الخلفية الكونية الميكروية، والذي يحتوي وهج الضوء الأول والإشعاع المتبقي من الانفجار العظيم. تسود بقايا الانفجار العظيم الكون، وهي مرئيةٌ لأجهزة كشف الموجات الدقيقة، فتسمح للعلماء بربط أدلة بداية الكون مع بعضها البعض. أطلقت ناسا في عام 2001 مهمة مسبار ويلكنسون للأمواج الميكروية متعدد الخواص Wilkinson Microwave Anisotropy Probe (WMAP) لدراسة الشروط والظروف الأولية كما وُجِدَت في بداية الكون عبر قياس الإشعاعات الصادرة عن الخلفية الميكروية، ومن خلال الكثير من الاكتشافات، استطاعت بعثة WMAP ومن بعدها بعثة بلانك Planck من تحديد عمر الكون بـ 13.8 مليار سنةٍ. ومن ثم حدثت طفرة نمو الكون الأولى عندما كان الكون حديثًا جدًّا وعمره مئة جزءٍ من مليارٍ من تريليون من تريليون من الثانية حيث تعرض الكون الوليد لطفرةٍ ولاديةٍ مذهلةٍ، وخلال الانفجار المتمدد هذا (والذي يُعرَفُ بالتضخم infgation) كبُرَ الكون بشكلٍ هائلٍ وتضاعف حجمه 90 مرةً على الأقل. يقول ديفيد سبيرغل David Spergel عالم الفيزياء الفلكية النظرية في جامعة برنستون في نيوجيرسي "كان الكون يتمدد، وبتمدده بدأ يبرد ويصبح أقل كثافةً". استمر الكون في النمو بعد التضخم ولكن بمعدلٍ أبطأ، وبينما توسع الفضاء برد الكون وتشكلت المادة. كان أشد حرارةً من أن يشع ويطلق ضوءاً،وقد نشأت العناصر الكيميائية الخفيفة خلال الدقائق الثلاث الأولى من تشكل الكون، وبتمدد الكون انخفضت درجة الحرارة، واصطدمت البروتونات بالنترونات لتولد الديتيريوم وهو نظيرٌ مشعٌ للهيدروجين، ثم اتحد الكثير من الديتيريوم ليُشكل الهيليوم. وبعد مرور 380 ألف سنة بعد الانفجار العظيم جعلت حرارة تشكل الكون الشديدة الجو حارًا جدًّا بحيث لا يسمح للضوء بأن يشع، واصطدمت الذرات ببعضها بقوةٍ كافيةٍ لتتجزأ إلى بلازما كثيفةٍ ومبهمةٍ من البروتونات والنترونات والإلكترونات التي بعثرت الضوء كالضباب. ومن ثم كان النور بعد نحو 380 ألف سنةٍ من الانفجار العظيم عندما تبرّدت المادة بشكلٍ كافٍ لكي تتحد الإلكترونات بالنوى وتشكل الذرات المتعادلة كهربائيًا. تُعرَفُ هذه المرحلة بـ "إعادة التجميع"، حيث سبّب امتصاص الإلكترونات الحرة شفافية الكون. ويمكن الكشف عن هذا الضوء المتحرر اليوم على شكل إشعاع الخلفية الكونية الميكروية. ولكن، تلا عصر إعادة التجميع فترة ظلامٍ قبل تشكل النجوم والأجرام المضيئة الأخرى. وبعد ذلك حدث الانبثاق من عصر الظلمات الكوني بعد 400 مليون سنةٍ تقريبًا بعد الانفجار العظيم، عندما بدأ الكون بالخروج من عصر ظلماته، حيث تُسمّى هذه المرحلة من تطور الكون بـ "عصر إعادة التأين". يُعتقد أن هذه الفترة النشيطة استمرت أكثر من نصف مليار سنةٍ، ولكن وفقًا لعمليات رصدٍ حديثةٍ يعتقد العلماء أن إعادة التأين ربما حدثت بسرعةٍ أكبر مما اعتُقِد في السابق. وفي هذه الأثناء، تداعت كتل الغاز حتى شكلت المجرات والنجوم الأولى، وقد أزال ضوء الأشعة فوق البنفسجية المنبعث من هذه الأحداث الطاقوية معظم غاز الهيدروجين المحيط المتعادل كهربائيًا وخرّبه. نتج عن عملية إعادة التأين وإزالة غاز الهيدروجين الضبابي أن أصبح الكون شفافًا لضوء الأشعة فوق البنفسجية للمرة الأولى. وتولى تشكل النجوم والمجرات كما نقّب علماء الكونيات باحثين عن أبعد المجرات وأقدمها لمساعدتهم على فهم خصائص الكون المبكر، وبشكلٍ مماثلٍ يستطيع الفلكيون الآن العمل بالرجوع بالوقت لربط الأحداث التي حدثت مسبقًا ببعضها، وذلك عبر دراسة خلفية الإشعاع الكوني الميكروية. إذ تساعد بياناتٌ من بعثاتٍ أقدم مثل بعثة WMAP، ومستكشف الخلفية الكونية COBE الذي أُطلِقَ عام 1989، وبعثاتٍ أخرى لا تزال قيد التنفيذ، العلماءَ على محاولة حلّ الألغاز وفك الأسرار المستمرة والإجابة عن أكثر الأسئلة المطروحة جدلًا في علم الكون. وفي سياق التطور الكوني كانت ولادة نظامنا الشمسي حيث يُقدّر زمن ولادة نظامنا الشمسي بـ 9 مليارات سنةٍ بعد الانفجار العظيم، ما يجعل عمره 4.6 مليار سنةٍ. ووفقًا للتقديرات الحالية، تُعتبر الشمس واحدةً من 100 إلى 200 مليار نجمٍ أو أكثر في مجرتنا درب التبانة لوحدها، وتدور على بعد 25 ألف سنةٍ ضوئيةٍ عن مركز المجرة. يعتقد العديد من العلماء أن الشمس وبقية نظامنا الشمسي تشكلوا من غيمةٍ عملاقةٍ ودوارةٍ مكونةٍ من الغبار والغاز، تُعرف أيضًا بالسديم الشمسي، وحين سببت الجاذبية انهيار السديم، بدأ يدور بشكلٍ أسرع وتسطح ليأخذ شكل قرصٍ. سُحبت في هذه المرحلة معظم المواد نحو المركز لتشكل الشمس. هناك الكثير من مواد الكون غير مرئية. و في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي بدأ العلماء بالاعتقاد بأن هناك مواد في الكون أكثر مما هو مرئيٌّ، حيث إن عالمة الفلك في معهد كارنيجي في واشنطن (فيرا روبن Vera Rubin) راقبت سرعات النجوم في مواقع مختلفةٍ من المجرات. تنص الفيزياء النيوتونية الأساسية على أن النجوم التي تقع على أطراف المجرة تدور بسرعةٍ أقل من سرعة النجوم في المركز، لكن روبن لم تجد فرقًا في سرعات النجوم الأبعد، حتى أنها في الحقيقة اكتشفت أن كلّ نجوم المجرة تدور حول المركز بالسرعة ذاتها مع فروقاتٍ بسيطةٍ. أصبحت تُعرَفُ هذه المادة الغامضة وغير المرئية بالمادة المظلمة أو السوداء، وعُرفت المادة المظلمة بالاستدلال بسبب الجذب الثقالي الذي تمارسه على المادة النظامية العادية المعروفة. وتفترض إحدى الفرضيات أن المواد الغامضة (المادة المظلمة) ربما تشكلت من جزيئاتٍ غريبةٍ لا تتفاعل مع الضوء أو المادة الطبيعية، ولهذا السبب صعُبَ الكشف عنها. كما يُعتقد أن المادة المظلمة أو السوداء تشكل 23 بالمائة من الكون، بينما تشكل المادة الطبيعية 4 بالمائة فقط من الكون وهي تشمل النجوم، والكواكب، والبشر. الكون ليس ثابت ومستقر بل هو كون متمدد ومتسارع وقد أنجز عالم الفلك إدوين هابل في عشرينيات القرن الماضي اكتشافًا ثوريًّا يتعلق بالكون، وذلك باستخدام تلسكوب حديث البناء على مرصد جبل ويلسون في لوس أنجلوس، حيث أثبت هابل أن الكون ليس ثابتًا وإنما متمدد. بعد ذلك بعقودٍ، وفي عام 1998، درس التلسكوب الفضائي ذو النتائج الغزيرة والمُسمّى على اسم العالم الشهير (تلسكوب هابل الفضائي) مستعراتٍ عظمى بعيدةً (السوبرنوفا)، ووجد أن الكون منذ زمنٍ طويلٍ كان يتمدد بشكلٍ أبطأ مما يفعل الآن، وهذا الاكتشاف كان مفاجِئًا فالمعتقد ولوقتٍ طويلٍ بأن جاذبية مادة الكون ستُبطِئ من تمدده أو حتى تسبب تقلصه. يُعتقد أن الطاقة المظلمة هي القوة الغريبة التي تزيد في تباعد مكونات الكون عن بعضها بسرعاتٍ متزايدةٍ باستمرارٍ لكنها تبقى غير محددةٍ ويكتنفها الغموض ومجهولة المهاية. إن وجود هذه الطاقة بعيدة المنال، التي يُعتقد أنها تشكل 73 بالمائة من الكون، هو واحدٌ من أكثر مواضيع النقاش الساخنة جدلًا في علم الكون حالياً. وما زلنا بحاجةٍ لمعرفة المزيد بكلّ ما اكتُشِفَ عن بداية الكون وتطوره، وتبقى هناك أسئلةٌ مستمرةٌ تبحث عن أجوبةً عنها، حيث تبقى المادة المظلمة والطاقة المظلمة من أكثر الأسرار المتبقية غموضًا، لكن لا يزال علماء الكون يسبرون الكون على أمل فهمٍ أفضل عن كيفية بدايته. وهي بالضبط مهمة فريق البحث العلمي الكوسمولوجي في جامعة هيدلبيرغ Heidelberg حيث يعمل فريق من علماء الفيزياء على اكتشاف جوهري حققوه مؤخراً ولكن دون إحداث ضجة إعلامية حوله. ولم يكن هذا الفريق العلمي يصدق نفسه عما حققه من نتائج وما توصل إليه من استنتاجات وتحليلات نظرية وعلمية مختبرية وتأكيدات تجريبية مختبرية :" لقد رصدنا شيئاً مهولاً يمكن أن يشكل فاتحة لما حصل بالفعل بعد عملية التضخم الكوني المفاجيء والشامل للكون المرئي بعد لحظة ولادته. كما صرح العالم الفيزيائي توماس غاسينزر Thomas Gasenzer، و اضاف زميلة العالم يورغن بيرجيس المتخصص بمادة الطاقات الفائقة Jurgen Berges:" المقصود هنا هو ظاهرة كونية جديدة حيث تمت بنجاح محاكاة حدث مذهل " حيث وضع فريق العمل وأثبت مختبرياً قانوناً يشرح تطور مادة ذات ماهية غريبة لكنها من مكونات الكون المرئي الأساسية والتي تواجدت بعد الانفجار العظيم مباشرة حيث لم يصل أحد غيرهم من قبل إلى تلك الفترة الحرجة من عمر الكون . وسوف يقدم هذا الفريق البحثي الفيزيائي وصفاً علمياً دقيقاً سيكون الأول من نوعه لديناميكية بلازما الكواركات والغليونات التي كانت تملأ الكون المرئي بعد ولادته مباشرة. والحال إن هذا القانون يتيح تشخيص لحظة مفصلية بمثابة مفتاح، في تاريخ كوننا وهي اللحظة التي بدأ فيها كل شئ وظهر فيها سهم الزمن وانطلقت فيها معمعة التطور الكوني الحقيقي الأصلي والذي قام بتحويل الطاقة المتكثفة جداً في اللحظة البدئية إلى عالم جديد مليء بالجسيمات الأولية ومن بعدها بالنجوم والمجرات والكواكب وبالكائنات الحية التي تشعر وتعي بأن شيئاً ما يحدث وإن الزمن يجري . ويعترف العالم ماركو شيرو Marco Schiro المتخصص بالفيزياء الكمومية أو الكوانتية غير المألوفة في مفوضية الطاقة النووية وفي لجنة الطاقات البديلة، بأن:" هذا الاكتشاف مدهش لأن فهم ديناميكية الطاقة بشكلها الكمومي أو الكوانتي الأكثر جوهرية ويسمح بتوضيح وشرح وتفسير ظواهر الكون البدائي بقدر توضيحه لأحد التساؤلات الجوهرية المتعلقة بالترموديناميك أو الديناميك الحراري الكمومي أو الكوانتي وهو لماذا لايمكننا على الإطلاق الإفلات من الترموية thermalisation والتطور غير القابل للانعكاس أو الارتداد".

كان هناك نشاز أو تنافر وعدم انسجام وتناغم ضئيل لا يعتد به وسط محيط كمومي أو كوانتي شاسع . فقبل هذه الظاهرة لم يكن هناك قبل و لا بعد كما قلنا، أي لم يكن هناك تاريخ قد بدأ ولم يحدث شيء . لكن هذا لا يعني أن الكون لم يكن موجوداً فلقد نشأ زمكان بمواصفات غامضة من الفرادة التي نجم عنها الانفجار العظيم . لكن الحدث الأول والأهم هو جر الزمكان إلى توسع مهول ومفاجىء الذي عرف بإسم " التضخم" والذي نفخ حجم الكون إلى أبعاد مذهلة مضاعفاً حجمه بمقدار 1026 في جزء من الثانية لكن ذلك الزمن الذي بدأ للتو ليس هو الزمن الذي نعرفه . فالطاقة المكونة للكون البدئي رافقت حركة التضخم وكان بالإمكان أن تظل هكذا إلى ما لا نهاية دون أن يتغير شيء، في حين إن المكان أو الفضاء موجود لكن الزمن بدا متوقفاً ومتجمداً لا يجري، أي زمن بدون سهم متجه أو بدون اتجاه . لا أحد يعرف المدة التي استغرقها هذا الزمن المتوقف وتقدر بين 10-32 و 10-6 من الثانية وفجأة حدث شيء، نوع من التأرجحات في الطاقة البدائية التي كانت المكون الأساس للكون البدئي الأولي، نوع من الطفرة التي بدأت عملية التغيير في الوضع فارضة على الطاقة البدئية اتجاهاً، وفجأة صار هناك " ماضي" و " حاضر " و "مستقبل" وبدأ الزمن يجرف معه كل شيء وبدأت الطاقة الأولية تتحول إلى جسيمات وبفعل الثقالة الكونية والتفاعلات والتصادمات تكونت الذرات التي كونت بدورها النجوم والمجرات كما نشاهدها ونرصدها اليوم. يعمل العلم على معرفة سبب وآلية هذا التعاقب الزمني ويرتكز على مسلمة نقل الحرارة . وكان العقل العبقري لودفيغ بولتزمان Ludwig Boltzmann قد درس وأحصى حركة الجسيمات الأولية في الكون وقال أنها تقودنا حتماً إلى نوع من التوازن الحراري، فكل شيء ينحو نحو حالة التوازن الخاصة به، الثرموية، وهي أساس القانون أو المبدأ الثاني للثرموديناميك أو الديناميكا الحرارية، وهي المعادلة الفيزيائية التي تتوائم مع الإدراك الحدسي للزمن ومروره دائماً من الماضي نحو المستقبل.

هل هناك حالة أخرى غير معروفة للمادة؟

المشكلة التي واجهت فرق البحث هي أن المادة موجودة في حالة خاصة لا تطبق فيها قوانين الثرموديناميك المعتادة . فلا توجد أية ذرات ولا حتى من نوعية ذرات الهيدروجين البسيطة التي ظهرت بعد مرور 379000 سنة بعد الانفجار العظيم. إذ أن الكون البدئي آنذاك كان عبارة عن محيط كمومي أو كوانتي وقوانين الميكانيك والحرارة عمياء لا ترى شيء، أي أن الكون البدئي كان في وضع خارج حالة التوازن. ومن تقصي نظري للحالات " خارج التوازن" وبعيداً عن أساسيات الفيزياء المعتادة والمتبعة، ومع الوقت جاءت الاختراقة الأولى بصحبة عمليات النمذجة والحسابات، نجح فيزيائيو جامعة هيدلبيرغ في صياغة معادلة قادرة على وصف تطور تلك الحالة الغريبة أو الشاذة من المادة الأولية التأسيسية واكتشفوا أن طاقة ذلك المحيط الكمومي أو الكوانتي تنتشر وفق قانون على نطاق كوني في المكان وفي الزمان . صيغت المعادلة شكلياً على هيئة دالة تستخلص قيمها في كل نقطة من المكان مع كل خطوة زمنية حيث يعاد في كل مرة ترتيب المعايير والإعدادات reparamétrant عبر عوامل المستوى والنطاق المحدد بثابتين، بعبارة أخرى فإن الديناميك كسوري fractale . لو تتبعنا مع مرور الزمن، هذه الحركة الكمومية أو الكوانتية بمساعدة مكروسكوب وتراجعنا بزوم تقهقري وفق إيقاع عوامل النطاق المشار إليها أعلاه، سيتولد لدينا شعور بأن كل شيء جامد وثابت وإن لا شيء يتغير على غرار الهندسية الكسورية التي تتكرر إلى ما لا نهاية .

تظهر الحسابات أن هذه الديناميكية الكسورية تنحو نحو نقطة ثابتة لا حرارية point fixe non thermal تتساوق أو تتطابق مع حالة " اللاتطور" و " اللازمن" . فهناك حركة في المحيط الكمومي أو الكوانتي، إلا أن كثافة الطاقة تظل دائماً، وفي كافة نقاط المكان والزمان، هي نفسها في حالة انتشار منبسط تماماً. بيد أن قانون النطاق ينطوي على ألا تبلغ حالة الكون تلك النقطة الثابتة، فهو يحيد عنها قليلاً دائماً . فبنيته الكسورية تنحل ببطء إلى أن تغير الطاقة حالتها، وهذه الديناميكية مؤقتة . فبعد أن أدارته الديناميكا الكسورية، غير الكون حالته وغدا نوعاً من بلازما الكواركات والغليونات . إن تغير المرحلة changement de phase هو بعينه الدافع الأساسي l'impulsion primordiale حيث يفلت الكون من العودة الأبدية . وكما يقول العالم توماس غاسينزر:" نعم، إن انتشار الجسيمات يمكن أن يؤدي إلى تشكل وتطور بنيات داخل حقل الطاقة. ويمكن أن يؤثر على تشكل الجسيمات والجسيمات المضادة وتوزعها، وفي نهاية المطاف يولد بلازما الكواركات والغليونات" وهذه أول مرة يقدم فيها علماء سسيناريو عن ولادة بلازما الكواركات والغليونات والتي بدورها، بعد جزء من الثانية، أدت إلى انبثاق البروتونات والنيوترونات، ومن ثم النوى أو النواتات الأولى الذرية . فإذا كان الكون قد سلك مسار المادة التي وضعتها الثقالة والعمليات الثرموديناميكية، في حالة حركة، فذلك بفضل قانون النطاق الذي اقترحه فريق جامعة هيدلبيرغ وهو شذوذ ضئيل جداً في خضم التموجات الكونية لتي تنتشر ببطء والتي سوف تتوافق باتجاه إيقاع آخر يؤدي لولادة حالة أخرى للمادة ألا وهي الجسيمات الأولية.

إن مفتاح فهم الثرموديناميك المعاصر هو أنه ينطوي على مستويين من الوصف : مستوى ميكروسكوبي microscopique وهو يعطي وصفاً دقيقاً لمواقع وحركات كافة الذرات في أي نظام خاص، وهو المعروف بالميكرو – حالة micro-état . ومستوى ماكروسكوبي macroscopique أو ماكرو – حالة macro-état للنظام، وهو وصف تقريبي بعملية مسح واسعة بواسطة عدد صغير من المتغيرات variables كالحرارة وضغط الغاز. فدراسة ثرموديناميك نظام ما يترتب عليه إقامة علاقات بين مستويي الوصف هذين.والمفهوم الذي يحدد العلاقة بين المستويين يسمى الأنتروبي l’entropie أو اللاإنتظام أو حساب عدد الطرق والإمكانيات المختلفة لتجميع عناصر النظام لتحقيق وتنفيذ التصميم المزمع، وبالتالي فالأنتروبي هو عكس المعلومة الدقيقة . وفي حالة نظام فيزيائي، لنتصور وعاء كوني محتوي مليء بغاز مكون من عدد كبير جداً من الجزيئات . الوصف الجوهري هو ميكروسكوبي ويخبرنا بمكان كل جزيء وكيف ينتقل بحيث تتوفر لدينا كمية هائلة من المعلومات . ومن ثم هناك الوصف الماكروسكوبي الذي يوصف فيه الغاز بمفاهيم الكثافة والحرارة والضغط. . علما إن تحديد الكثافة والحرارة يتطلب كمية أقل من المعلومات مما يحتاجه تحديد تواجد كل ذرة بدقة. من السهل توضيح وترجمة تتجه من الوصف الميكروسكوبي إلى الوصف الماكروسكوبي وليس العكس. فلو عرفنا موضع كل جزيء حينها سنعرف الكثافة ودرجة الحرارة التي هي متوسط طاقة الحركة لكن الذهاب بالاتجاه المعاكس شبه مستحيل لأن هناك عدد لامتناهي لترتيب وتنظيم ورصف الذرات المفردة في المستوى الميكروسكوبي للحصول على نفس الكثافة ودرجة الحرارة. وبعدها ينبغي ربط الأنتروبي بالاحتمالات وذلك من خلال فرضية أن كل الميكرو – حالات محتملة وهذه مسلمة فيزيائية تؤكدها حقيقة أن كل الذرات في غاز ما هي في حالة حركة عشوائية مضطربة فوضوية chaotique تحطم الاتجاهات وتجعلها عشوائية. ومع ذلك تسمى بالحالة التوازنية l’état d’équilibre والتوازن هنا هو الحالة التي يوجد فيها أكبر أنتروبي ممكن.

يتبع

 

د. جواد بشارة

 

في المثقف اليوم