تكريمات

سيميائيـــة الصورة الفوتوغرافية في"شمس في الغبار" للقاصّ العراقي د / فرج ياسين / دينا نبيل

وذلك بعدما أثبتت الاتجاهات البنيوية عدم قدرتها على تجاوز النص بسبب انغلاقها عليه، بل وإلغائها (الملابسات والسياقات المتصلة بفضائه الخارجي واكتفائها بالمبدأ النسقي الذي يعتبر النص بنيةً مكتفيةً بذاتها)[1]، إلى جانب عدم قدرتها على تجاوز الخطاب اللساني ودلالاته الحرفية، والتي أثبتت بالمثل عجزها عن كشف خفايا النص ومقصديّته، لذلك تم تولية الأهمية (لدراسة الإشارات والرموز وأنظمتها حتى ما كان منها خارج نطاق الكلمات التي تصنع الحيّز الداخلي للنص)[2]، فضلاً عن أنّ أشكال التواصل تعددت فلم تعد مقصورة على ما هو لغوي أو لساني، فأخذ التواصل البصري نصيباً كبيراً من الدراسة كحاملٍ لرسالة، بعدما اتسعت الثقافة إلى ما بعد المكتوب، فهناك السينما والرسوم المتحركة والصور الإشهارية والإعلانية والفوتوغرافية، ومن ثمّ كان ظهور السيمياء أو السيميولوجيا أو السيميوطيقا والتي تُعنى بـــ(دراسة الأنماط والأنساق العلاماتية غير اللسانية، أو علم الإشارة الدالة مهما كان نوعها وأصلها، وهو باختصار "علم خاص بالعلامات")[3]، وهدفها هو (الكشف عن القيم الدلالية والعلامات لأن السيميولوجيا جاءت لتقريب العلوم الإنسانية من حقل العلوم التجريبية وإعادة المعنى غير المرئي للصورة والإنسان والتاريخ)[4]، فهي تحول العلوم الإنسانية من مواد خاضعة للانطباع والتأمل إلى مواد قابلة للتحليل والمنهجية العلمية، لذا فالألوان والأشكال والضوء والظلّ والمنظور والإيماءة والحركة كلها ذات دلالات، فيكون عمل المتلقي فضلاً عن الناقد الحاذق هو الكشف عن مدلول هذه الإشارات ومعرفة ما توصله من رسائل، والتي تختلف طبقاً للخلفية الثقافية والإيديولوجية والنفسية والاجتماعية للمتلقي .

 

 

 

وفي " شمس في الغبار" للقاصّ العراقي د / فرج ياسين، يُلاحظُ أنّ النصّ قد ارتكز على صورة فوتوغرافية تخصّ بطل القصة - الراوي، وتدور الأحداث حول شخوصها ومكانها، ثم تظهر في نهاية النص بشكل مغاير لما سبقت عليه في أول النص . رغم أن الصورة في القصة ليست مرئية للمتلقي، إلا أنّ الراوي (المتلقي الأول) للصورة هو من يقرؤها لقارئ القصة، وكانت هذه الصورة الفوتوغراقية ضمن سياق سردي لا يمكن فصلها عنه، إذ أنها تُجلي وجهة نظر الراوي (المتلقي الأول) لها . وفي هذا المقال نقوم بإلقاء الضوء على تلك الصورة الفوتوغرافية سيميائياً والتعرف على كيفية قراءتها في أول النص وآخره،  وإبداع الكاتب باشتغاله على توليد أكثر من قراءة مختلفة من صورة فوتوغرافية، بل والخروج من إطارها الآلي وتوظيفها في خدمة النص السردي.

 

 

 

 وذلك من خلال هذه المحاور:

 

1- آليات قراءة الصورة الفوتوغرافية 

 

2- علاقة العنوان بالصورة

 

3- الصورة كعلامة أيقونية

 

 

 

1- آليات قراءة الصورة الفوتوغرافية:

 

 للصورة لغة كما النص اللساني، وهي تقرأ وتؤول مثله، ولكن (تختلف آليات قراءة الصورة وقواعد القراءة، عن قراءة النص الأدبي، وإن احتفظتْ بشيء مشترك معه. إن القراءة التأويلية للصورة بوصفها قريناً ذا لغة وقواعد خاصة، هي مفهومة غدت بداهة في عالم الميديا المعاصر ضمن المعنى المتسع الممنوح للنص راهناً)[5]، وتعتمد الصورة في قراءتها على قطبين أساسيين: القطب التعيني وهو الوصفي لطبيعتها ومكوناتها، فيطرح سؤال " ماذا تقول الصورة ؟"، والقطب التضميني وهو التأويلي، وهو يبحث في سؤال " كيف تقول الصورة ما تريد ؟ "، وبهذين القطبين – قطبي الوظيفة السيميائية – يتم تحقيق (شكل مضمون الصورة،لأن تأويل الصورة مثل كل تأويل،يحتاج إلى بناء السياقات المفترضة من خلال ما يعطى بشكل مباشر،ولا يمكن لهذا التاويل أن يتم دون استعادة المعاني الأولية للعناصر المكونة للصورة)[6]، فتكون الصورة دائما في حاجة إلى مؤوليين يقرؤنها بشرط عدم الدخول عليها بحكم مسبق.

 

 وفي (شمس في الغبار) يعتمد النص على صورة فوتوغرافية كانت محور السرد . وقد ظهرت هذه الصورة بطريقتين مختلفتين في أول النص وآخره . وفي وصف طبيعتها ومكوناتها نتناول التأويل معها جنباً إلى جنب للتعرف على مدلولات الصورة

 

 

 

1)   طبيعة الصورة:

 

الصورة في القصة هي صورة فوتوغرافية تذكارية لأيام الدراسة الجامعية، لا يشاهدها القارئ بعينيه، وإنما يراها بعين الراوي - بطل القصة والصورة معاً - من خلال وصفه إيّاها مقرناً معها سرداً لظروف التقاط الصورة . وهي صورة يظهر فيها البطل مع لفيف من زملائه:" كنا نقف أنا وبيداء وعالية، وفي أقصى الصورة . بعيداً في العمق، أقبل مثل سحابة دخان" وذلك في حديقة الجامعة: " أطرافنا الطوال الشوهاء يبلها الضوء المتقطر من شآبيب ظلال الأغصان فوقنا.." . أما الصورة ذاتها في آخر النص فيظهر فيها البطل وحده أمام القاعات الدراسية الخاوية:" كنت أقف وحيداً في الساحة الخالية .. وكأن المصوّر تعمد أن يبرز ليس صورتي بل الفضاءات الخالية المحيطة بها" .

 

 

 

إنّ الصورة الفوتوغرافية على ما تطرحه من فكرة التوثيق الزمني وحبس الزمن في لقطة داخل الإطار يطرح فكرة الحنين إلى المفقود: " من ذا يغامر بالاعتراف أمام نفسه بأنه يرتضي فراق ما يجب فراقه . ألسنا نصوّر أنفسنا والناس والأشياء لأننا نعترف بانقضائها؟ .."، لتقف هذه الصورة القديمة في المقابلة مع صورة البطل الحالية على المرآة في منتصف النص بعدما تبدلّت ملامحه وحالته:" وما كان سيسلمني ذلك التذكر العميق إلى غير ما ارتسم في بؤبؤي عيني حال مشاهدتي تلك الصورة الفاجعة في المرآة .. "، ليظلّ البطل حبيس تلك الصورة القديمة، وحيداً في هذا العالم القديم الذي قد غادره جميع رفاقه عداه، وهذا يتآزر مع الاقتباس الذي بدأ به الكاتب النص (صه يا قلبي الوحيد!).

 

 

 

2/3) مكونات الصورة وتأويلها:

 

عند التعرض لمكونات الصورة، فلابد من تناول العناصر التالية:

 

 

 

أ - التنظيم المجمل للصورة:

 

فبمسح العين للصورة – كما يصفها الراوي ويتخيّلها القارئ بناءً على ذلك - في اتجاهات خطية أفقية ورأسية ودائرية يمكن التعرّف على النظام الذي تسير عليه تلك الصورة . فهناك المقدمة وهناك الخلفية ؛ في المقدمة يوجد الراوي وزميلتيه عالية وبيداء: " أجرامنا الثلاثة ما كانت ستلوح إلا لأنها خلفية تافهة، مقحمة إقحاماً في المقدمة .." ، أما الخلفية فيظهر فيها من العمق ذلك الفتى الأشبه في طلعته وهيئته وتصرفاته بالشمس " وفي أقصى الصورة . بعيداً في العمق، أقبل مثل سحابة دخان . طالعاً من ظلمة الدهليز "، وهذا ما سيتم تناوله عن تحليل العنوان وعلاقته بالصورة، إلا أنّه لا يمكن للقارئ اكتناه هذا الفتى إلا عند مقاربة منتصف القصة

 

 

 

## مفارقة قلب المقدمة والخلفية: إنّ الوصف الذي خلعه الراوي على الخلفية والمقدمة يجعل المتلقي حائراً بل ويصل إلى حدٍ لا يعرف فيه أين الخلفية والمقدمة وكأنّ الحد الفاصل بينهما قد تلاشى، ولكن عند تناولنا للإضاءة والألوان في هذه الصورة، يلاحظ القارئ أن الكاتب قد قام بعكس مبدأ المقدمة والخلفية ؛ فجعل الخلفية في الأمام والمقدمة في الخلف، فما كانت الشخوص في المقدمة سوى ظلّ يعكس الأشخاص الحقيقيين في الخلفية، وما كان الراوي في واجهة الصورة إلا ظلّا للفتى – بطل القصة - الظاهر من أقصى الصورة ، وهذا ما أوضحته الصورة الثانية بذكر نفس وصف الفتى على لسان الراوي بضمير المتكلم: " في الساحة الخالية بشعري الطويل وابتسامتي المفتعلة، وربطة العنق المخرمة القصيرة، التي تعيد إلى الذهن مفارقات أزياء أوائل السبعينيات، ارتدي بنطالاً وسترة مخططة".

 

ولا شك أن لهذا القلب دور كبير في جذب انتباه القارئ في محاولته رسم تلك الصورة في مخيلته، أضف أنّ هذا القلب ينبؤ عن واقع ذلك البطل، لقد كانت حياته أشبه بخلفية لشخصية يتمنّاها ويرنو إليها، شخصية لها طموحات وآمال كبار، لذلك أغلب النص يقوم على افتراض ما يمكن لهذه الشخصية أن تعمل أو تكون عليه سواء في مجال الزواج أو العمل: " بعد عام أو عامين هل تراه غادر قشرته الصخرية والتف حول رقبة عالية .. أتكون هي التي حظيت به وليس عالية؟ ولم لا.. هل كان يحمل كتاب اللا منتمي . شناشيل ابنة الجلبي ..؟ ولكنه لم يكتب شعراً بعد ذلك أبداً .. قرر أن يصير أكاديمياً . أما كان يليق به ذلك؟ .."، هذه الافتراضات والاحتمالات التي يطرحها طيلة النص في المقابل مع ما هو عليه ككهل مسجى على سرير قديم، لم يكن لها في الواقع (الشمسي) الحقيقي وجود .

 

 

 

أما في الصورة الثانية لا توجد خلفية ولا مقدمة، وإنما وحده الراوي البطل وسط الفراغ ومن حوله قاعات الدراسة:" كنت أقف وحيداً في الساحة الخالية .. وكأن المصوّر تعمد أن يبرز ليس صورتي بل الفضاءات الخالية المحيطة بها ". ومن هنا تتمظهر وحدة البطل وانعزاله في حدود عالمه القديم أيام الدراسة وعدم تجاوزه تلك الحدود الوهمية عن كونها ذكريات وأحلام قديمة لم تجد لها وجوداً في الواقع .

 

 

 

ب - المنظور:

 

يُعرّف المنظور بأنه تأثير مرئي يعطي الناظر إحساس البعد والحجم، فهو يجعل الأشكال والأجسام القريبة تبدو أكبر من تلك الأبعد . ونظراً لأنّ الصورة في القصة صورة فوتوغرافية، فإنها تعتمد المنظور المركزي أو الفوتوغرافي، حيث يظهر الجسم كما تراه العين البشرية، لأن جميع الخطوط في الشكل تظهر وكأنها تمتد نحو نقطة بعيدة جداً (نقطة التلاشي) حيث تتلاقى هذه الخطوط عندها.

 

 وفي القصة تظهر نقطة التلاشي في العمق في أقصى الصورة وهو المكان الذي خرج منه الفتى – الراوي البطل: " وفي أقصى الصورة . بعيداً في العمق، أقبل .. طالعاً من ظلمة الدهليز المفضي  إلى الأقسام الدراسية.."، وكان لهذا التوظيف ربط دلالي بشخصية هذا الفتى، فهو محور الصورة كما القصة، فعنده تتجمع خطوط الصورة، ومنه تخرج آشعته وتأثيره على من حوله بشخصيته وطلعته الفريدة: " كيف لها أن تخفي إغراء ظهوره مرة أخرى؟  .. بقامته السامقة وشعره المفروق، وكل تلك القصائد الحارة التي تنثها مجرد نظرته . أبصرت به فتوقفت ذاهلة، سقطت الحقيبة من يدها  .. يمسك بكفيها، يصهرهما ثم يفلتهما ويبتعد قليلاً ليرنو إليها بجماع وجهه . تتفصد جبهته وترقص أعطافه .. "، بل ومن نقطة (التلاشي) هذه يتم انطلاق الراوي إلى السرد القصصي: " بعد عام أو عامين هل تراه غادر قشرته الصخرية والتف حول رقبة عالية .. التقى بها مصادفة .. "، فيبدأ سرد القصة انطلاقا منه .

 

 أما في الصورة الثانية فمن المؤكد أن هناك (نقطة التلاشي) إلا أنها تغيب وسط الفراغ والفضاء الواسع حول الراوي بحيث تصير عديمة الأهمية: " ليس صورتي بل الفضاءات الخالية المحيطة بها."، فهي تمثل الحالة السرابية التي قد آل إليها البطل، فتلك الخطوط التي تتجمع فيه وتلك الآشعة الخارجة من ابتسامته كالشمس كلها قد زالت وتبددت وتشتت في أرجاء الفضاءات الواسعة حوله.

 

 

 

جـــ - الإطار:

 

الإطار هو كل تقرير للتناسب أوالانسجام بين الموضوع المقدم وإطار الصورة، وهو أنواع كثيرة .

 

 وفي هذه القصة يستخدم الكاتب الإطار العام أو المجمل والذي يضم الحقل المرئي بأكمله وتفصيلاته من شخوص وطبيعة وأماكن وقاعات محيطة بهم:" جاعلاً خلف ظهره تماماً قاعة الإدريسي، وراسماً خطوة صغيرة بمجرد ظهور بساط أوراق الخريف الساقطة حديثاً تحت قدميه وليس بينهما ! هل كان يحمل كتاباً؟ ببنطال أسود وسترة مخططة .." .

 

 

 

 ويُلاحظ أن الكاتب قد لجأ إلى الإطار العام وذلك ليساعده على وصف الشخوص لا سيما الفتى وتفرّده وتفاعله مع من حوله، فالإطار العام يفسح المجال للمتناقضات خاصة الثنائية الضدية بين مايطرحه لفظي (شمس – غبار) كما سيوضح فيما بعد عند تأويل العنوان، إلى جانب أن هذا الإطار يساعد في تخيل الشخصية كاملة لدى المتلقي تمهيداً للانطلاق من هذه الصورة الآلية إلى السرد القصصي والوقوف أمام الشخوص وهي تتحرك بحركة أشبه ما تكون بالسينمائية.

 

بينما في الصورة الثانية يظل الإطار مجملا إلا أنه لا يعكس تفصيلات لأية أماكن سوى الفضاء الواسع حول البطل ليعضد بالتالي نفس فكرة الفراغ والوحدة .

 

 

 

د – زاوية النظر:

 

الصورة الفوتوغرافية من وضع المصوّر الفوتوغرافي ؛ فهو من يختار موقعه ليحدد إطار الموضوع الذي سيلتقطه، وليس من الضروري أن تكون زاوية نظر المصوّر هي ذاتها زاوية النظر التي يعتمدها المشاهِد . ففي الصورة هنا ربما تكون الواجهة الأمامية هي ما تمّ التركيز عليه من ناحية المصوّر، إلا أنّ المتلقي الأول – البطل الراوي الذي نرى الصورة بعينيه – يركّز على ذلك الفتى الآتي من أقصى الصورة في العمق لأنّه أهم ما في الصورة:" أجرامنا الثلاثة ما كانت ستلوح إلا لأنها خلفية تافهة، مقحمة إقحاماً في المقدمة .. " . وفي الصورة الثانية كان التركيز كما أوضح الراوي نفسه على صورته هو، وكأنّه بتعمد من المصوّر: " وكأن المصوّر تعمد أن يبرز ليس صورتي بل الفضاءات الخالية المحيطة بها".

 

 

 

هـــ - الإضاءة:

 

هي من العناصر الهامة التي يجب أن يوليها قارئ الصورة الاهتمام، فزمن التقاط الصورة هو:  "الساعة الثالثة والنصف ؛ يا إلهي ! .." وهنا تكون الشمس قد جاوزت الزوال وتعدت إلى أيسر الشخوص - موضوع الصورة، إلا أن الشمس في الصورة تبدو في اليمين تاركة ظلهم على الأرض أيسرهم .

 

لقد طرح الكاتب فكرة التباين(Contrast) بين الضوء والظلام من خلال وصف الدائرة التي توجد فيها شخوص الصورة ؛ فمقدمة الصورة تبدو وكأنّها واقعةٌ تحت ظل الأغصان وغير واضحة وهذا يعكس عدم أهمية هذه الشخوص أو أنها ثانوية بل وأنها في جوهرها متشابهة بلا شيء يميزها: " أطرافنا الطوال الشوهاء يبلها الضوء المتقطر من شآبيب ظلال الأغصان فوقنا .."، بينما الوصف من العمق قد جاء واضحاً وكأنّ الخلفية هي المقدمة والمقدمة هي الخلفية: " أجرامنا الثلاثة ما كانت ستلوح إلا لأنها خلفية تافهة، مقحمة إقحاماً في المقدمة .. "، " لابد أن يلوح في الخلفية المشمسة وبذلك تكون الصورة له وليست لي .. " فشخصية الفتى هي محور الصورة والقصة فكان تسليط الضوء عليها لمعرفة جميع أوصافها الجسدية والمعنوية . بينما في الصورة الثانية ينعدم الضوء والظلّ وتبقى الخلفية والمقدمة في درجة واحدة بلا تمايز وهي (العتمة السوداء):" ثم المجاز المعتم أمام باب قاعة الإدريسي .. "وهذا يؤيد حالة البطل من اللامبالاة لواقعه الأشبه بالمفروض عليه والذي لم يعد يملك شيئا حياله، والسوداوية التي لحقت به عند فقدانه ما يحب وانحباسه في ذكرى أشبه بالسجن المطوّق .

 

 

 

و – الألوان:

 

إنّ أول ما يلفت نظر قارئ الصورة هو مبدآن أساسيان: هارمونية الألوان أو تباينها، فالهارمونية هي انسجام الألوان وتوالد لون من آخر، بينما التباين يأتي بالعكس كما هو واضح في وصف صورة القصة حيث يوجد الظل بألوانه الباهتة الغامقة، وهناك الموقع القابع تحت الشمس حيث الألوان الحارة الفاتحة، وهذا يرتبط بشخصية كل شخص يقع في أي من الدائرتين، فالشخوص الواقعة تحت بؤرة الظل رغم وجودها في المقدمة قد مازج ألوانها الظلام لتصير أشبه بالأجسام الشوهاء الغير مميزة: " أطرافنا الطوال الشوهاء .. "، فهي تتناسب مع ما يطرحه لفظ (الغبار) من تأويلات كما سيظهر في تأويل العنوان، بينما الفتى ظهوره في أقصى الصورة إلا أنّ ألوان ملابسه زاهية بالأبيض والأسود: " هل كان يحمل كتاباً؟ ببنطال أسود وسترة مخططة .. "، بما يطرحه اللونان من تناقضات ووضوح في الشخصية وبروز في ملامحها شأنها في ذلك شأن الشمس .

 

 

 

2-   العنوان وعلاقته بالصورة:

 

من هذه العلاقة يستطيع المتلقي اكتناه الشخص في الصورة والذي دارت حوله القصة بأكملها، فالعنوان هو عتبة النص وأول ما يلاقيه المتلقي، فإما أن يكون متفقاً مع النص ممهداً له وجاذباً للقارئ بانزياحاته ومفارقاته التي يثيرها أو لا .

 

 

 

(شمس في الغبار):[ الدال – المدلول ]

 

 شمس:  ترمز إلى (إضاءة – إشراق – مركز الجاذبية – الاستقلالية عن الغير – مصدر للدفء والحرارة)

 

 وعند متابعة القارئ لقراءة الراوي للصورة يلاحظ ارتباط الشخصية الرئيسة في الصورة بالعنوان، إنّ صفات الشمس نفسها تتمظهر من خلاله:

 

1-  " وفي أقصى الصورة .. بعيداً في العمق، أقبل مثل سحابة دخان . طالعاً من ظلمة الدهليز .. " --- صفة الإشراق وتبديد الظلام

 

2-  " راسماً خطوة صغيرة بمجرد ظهور بساط أوراق الخريف الساقطة حديثاً تحت قدميه وليس بينهما .." --- صفة الإنارة وظهور الأشياء

 

3-  " ابتسامته وحدها تملأ الفضاءات كلها بحيث أن أجرامنا الثلاثة ما كانت ستلوح إلا لأنها خلفية تافهة .." --- صفة المركزية والجاذبية

 

4-   " قالت: هل نشرب؟ ولم أعترض . لكنه قال: لا . ثم انقضى كل شيء .." --- الاستقلالية والتحكم

 

الغبار: يرمز إلى (التكدس – القبح وفوضى التناسق – رائحة خانقة – الظلام)

 

وعند ملاحظة القارئ لمدلولات الغبار في الصورة يلاحظ ارتباط الشخوص المحيطة بالشخصية الرئيسة في الصورة بمدلولات الغبار:

 

1-  " وأبحث عن تلك الصورة القديمة، أمسح وجهها الملبد بطبقات الغبار المطبوعة فوق بعضها، منذ أعوام .. كنا نقف أنا وبيداء وعالية .. كان عدد من الزملاء ينتظرون تحت الشمس ويحملون أكواب الشاي .. " ---- التكدّس

 

2-  " أجرامنا الثلاثة ما كانت ستلوح إلا لأنها خلفية تافهة، مقحمة إقحاماً في المقدمة، أطرافنا الطوال الشوهاء يبلها الضوء المتقطر .. وضحكة بيداء الدائرية الشبيهة بحدوة مغلقة .. " ---- القبح وفوضى التناسق

 

3-   " ظلمة الدهليز المفضي  إلى الأقسام الدراسية .." ---- الظلام

 

وبربط الدالتين معاً (الشمس – الغبار) تظهر الشخصية الرئيسة في الصورة كشخصية فريدة من نوعها لا يوجد من يشبهها وهذا هو ما يؤيده بقية النص، فبتتبع صفات هذا البطل، تظل صفات الشمس ملازمة له على سبيل المثال لا الحصر: " بطلعته الفاتنة والربيع الثر الذي يضوع من عينيه . كم زميلة شقراء أو سمراء صعقها فوح كبريائه الساخن .. هناك ستكون الأرض والسماء والهواء والضوء لائقة به ! .. "

 

بل إن شخصيته تقف في مقابلة مع الراوي الذي صار مكتهلاً بالسنين والحمّى، يعيش في برودة وغبار: " مع ذلك الجزء المأهول بالظلال البعيدة، التي أفرخت بثوراً وشروخاً وتجعدات، تلاشت وراء حمّاها صورة الفتى الذي كنته  .. " ذلك الذي تظل هذه الصورة الفوتوغرافية تلوح له من حين لآخر على الجدران وفي المرآة.

 

 

 

3-   الصورة كعلامة أيقونية:

 

 تُعرّف الأيقونة (Icon) بأنها (أي شيء يؤدي عمله ووظيفته كعلامة انطلاقاً من سمات ذاتية تشبه المرجع أو المشار إليه وهكذا فإن الأيقونة تقوم على مبدأ المشابهة بين العلامة و.. مرجعها . كما هو الحال في الصور الفوتوغرافية ..)[7]، إلا أنّ هذا التماثل أو التشابه إنما يتمثل في الشكل العام للصورة وإلا لصارت الصورة منغلقة على نفسها، إذ أنّ الصورة في ذاتها تحوي علاقات اعتباطية رمزية، (وهذا يؤدي بالضرورة إلى الخروج من الحيز المطلق للصورة لإقامة نوع من التواصل مع أنظمة دالة أخرى وفي مقدمتها اللغة لما يكتسيها هي أيضا من طباع اعتباطي)[8]، مما يفتح التأويل والقراءات أمام المتلقي ويصير كما يدعوه بارت بالمنتج للنص وليس المستهلك.

 

 وفي (شمس في الغبار)، يُفتتح النصُ بهذا المشهد حيث البحث عن تلك الصورة الفوتوغرافية القديمة من أيام زمالة الجامعة والتي يظهر فيها الراوي مع بعض الزملاء ليأخذ الكاتب منها نقطة إنطلاق السرد في القصة . يبدو وصف الصورة في بادئ الأمر طبيعياً واقعياً: " إذ كنا نقف أنا وبيداء وعالية، وفي أقصى الصورة . بعيداً في العمق، أقبل مثل سحابة دخان . طالعاً من ظلمة الدهليز المفضي  إلى الأقسام الدراسية بشعره الطويل، وابتسامته المفتعلة، وربطة العنق المخرّمة القصيرة التي تعيد إلى الذهن مفارقات أزياء أوائل السبعينات.. "

 

ربما كانت الصورة مطابقة للواقع، إلا أنّ قراءة أول متلقٍ لها (الراوي) هي ما يضفي عليها من التأويلات ما يجعلها تتجاوز حدود التماثلية إلى بعد أشد عمقاً .

 

 لقد كان البطل هنا هو (الذات المرئية) لأنه هو موضوع الصورة  و(الذات الرائية أو الناظرة) في آن واحد والتي تسعى إلى  تأويل الحدث في الصورة الفوتوغرافية من خلال الوصف الذي خلعه الكاتب على الصورة لينظر القارئ بعين بطل القصة، فكانت أشبه بالصورة السينمائية المتحركة أمام المتلقي من خلال رواية البطل:" كيف لك أن تنسى؟ جاعلاً خلف ظهره تماماً قاعة الإدريسي، وراسماً خطوة صغيرة بمجرد ظهور بساط أوراق الخريف الساقطة حديثاً تحت قدميه وليس بينهما !.. " والأكثر من ذلك أن الكاتب تعمّد إبراز أثر الصورة في هذا المتلقي وما تصنعه في شعوره وسلوكياته من خلال السرد على لسان الراوي بضمير المتكلم وكأنها تجربة شخصية له، وهكذا تبدأ علاقات هذه الصورة الفوتوغرافية مع ما حولها من نص لساني .

 

 

 

## توظيف الصورة الفوتوغرافية في القصة: لقد استطاع الكاتب الخروج من وظيفة الصورة كأيقونة إلى التنقل بها في أرجاء المكان الروائي (الغرفة): " في رأسي يدوّم فراغ أسود ثقيل . فباغتني الوجه في المرآة المثبتة على الجدار فوق المغسلة .. "، وفي ذهن الراوي: " تراودني هيئته لحظة بعد أخرى . في مثل تناوب المويجات على شاطئ من الصلصال. حزوز رفيعة تتلامح فيها مسطحات صافية .. فأسحب الغطاء فوق عيني . إذ يتاح لي أن أراه مرة بعد مرة، وهو يهبط المدرج المفضي إلى الأقسام الدراسية .. "

 

كما أن الكاتب استطاع باقتدار توظيف الصورة الفوتوغرافية في خدمة تقنيات القصّ الفنية، فمن خلالها أمكن الاسترجاع بزمن السرد والرجوع به للماضي لاصطياد ماضي الشخصيات التي ظهرت في الصورة، وإنه من المعروف أن للاسترجاع أكثر من وظيفة في السرد إلى جانب ترتيب الأحداث زمنياً.

 

 ففي هذا النص بالتحديد يتمكّن المتلقي من عقد المقارنة بين حال الراوي البطل في الماضي والحاضر وإظهار تبدل الحال وتغير المآل عن المأمول وهو القضية الأساسية في النص، (فهو يحاول فهم الأحداث ودوافعها ومن أجل ذلك فهو يرتب الأحداث في ذهنه تبعا لتسلسلها)[9]، فيسترجع الماضي حينما كان شاباً كله فتوة وكبرياء ويحمل بين جنباته آمالا تناطح السحاب يضجّ منها عالمه المحدود: " ثم لكي يجعل منها الإكسير الذي سوف يرفعه إلى المنصات الإينوسيّة البراقة في الصفوف الجامعية ! هارفارد أم السوربون، موسكو أم جامعة محمد الخامس.. كم زميلة شقراء أو سمراء صعقها فوح كبريائه الساخن، دون أن تنال منه قلامةً أو مضغةً أو رشفةً مما يودعه في دماء ضحاياه .. " .

 

 إلا أنّ صاحب الكبرياء هذا واللعب (الاستفزازية القديمة) مع الفتيات ووعدوده لعالية أو بيداء، لم يصل لأي منهما وإنما هو محض تخيّل وهذه الأحلام العريضة بالسفر والدراسة قد تساقطت ذرىً كــ " ألواح الضوء المخرّم على الجدار " أو " الضوء المتقطّر من شآبيب ظلال الأغصان " في الصورة .

 

 وقد أسلمه هذا الحال إلى ما هو عليه الآن:" استلقى منفرداً مع المدفأة والصمت والحمى، أشبك كفي حول رأسي .. جاداً في إخفاء كلمات الطبيب بالتدخين والثرثرة مع النفس .. أول ما رأيت قذالاً كثا أشيب مبعثراً، أوشك على الخروج من الإطار . فتراجعت خطوة إلى الخلف والتفت لكي أرى . فسمعت همساً أجش مدوياً ذا صدى كالعويل: من أنت؟ قلت لنفسي: أأنت الذي نطق هذه الكلمة، يا للعار ! .." إنه وحيد وإن كانت له أسرة قد طوت أحلامه النسيان وصار عجوزا تدب في أوصاله الحمّى وتجمّدها البرودة .

 

لقد انطفأت شمسه بحرارتها وجاذبيتها وقوة شبابها، فكما للشمس من شروق، فلابد لها من غروب، وكما لها من توهّج فلابد لها من انحباس خلف غبار السنين والأعمار التي لا يملك المرء حيالها شيئا . لتأتي الصورة نفسها في المشهد الأخير معلنة رحيل هذه الشمس عن عالم الحياة:" كنت أقف وحيداً في الساحة الخالية بشعري الطويل وابتسامتي المفتعلة .. ثم المجاز المعتم أمام باب قاعة الإدريسي وكأن المصوّر تعمد أن يبرز ليس صورتي بل الفضاءات الخالية المحيطة بها .."  فتلعب هذه الصورة هنا دور الاستباق كتقنية فنية في القصّ،  وهو (كل حركة سردية تقوم على أن يروى حدث لاحق أو يذكر مقدما)[10]، وإن كان لا يذكر صراحة أية ملابسات عن موت أو انتهاء حياة البطل الراوي، وإنما تركها الكاتب مفتوحة على التأويلات العدة، حسبه ما ذكر عن الوحدة المحدقة بالبطل وانطفاء شمسه .

 

وهنا يطرح هذه الحلقة المفقودة في التصوير الفوتوغرافي والتي لا يمكن التوصل إلى حلها بأي حال من الأحوال، ألا وهي تلك العاطفة أو الدافع على الأقل الذي ربط بين المصوّر وثقب الكاميرا الصغير والذي جعله يلتقط الصورة من هذه الزاوية محدداً بذلك ظهور الأشخاص والإضاءة والأحجام، والفراغ : " ثم المجاز المعتم أمام باب قاعة الإدريسي وكأن المصوّر تعمد أن يبرز ليس صورتي بل الفضاءات الخالية المحيطة بها .. ". ليظهر في آخر لقطة في النص أو في الصورة بنظرته الأخيرة لها بشكل أشبه بالسجن ، كما أشارت سوزان سونتاغ للصورة بكونها كذلك سجن مصغر للواقع ومستقبل هذا البطل المحصور في ذكرى أحبّها وسراب يظل يلاحقه حتى مماته .

 

 

 

خاتمة:

 

 لقد استطاع الكاتب طرح فكرة الذكرى والنفس التي تطوق إلى ما فقدته من خلال استخدام الصورة الفوتوغرافية، وقد تمّ في هذا المقال طرح كيفية قراءة هذه الصورة وصفياً وتأويلياً للوقوف على كيفية طرح الكاتب ما يريد من أفكار، كذلك لقد تمكن الكاتب من توظيف الصورة داخل النسيج السردي لخدمة السرد بل واستخدامها بشكل حداثي والخروج بها من حدودها كصورة آلية إلى شيء

 

أكثر حيوية بإمكانه التحرك والتأثير . وأرى أن النص ينفتح  على تأويلات عدة ويمكن دراسته من أكثر من جانب، لكن ربما الصورة الفوتوغرافية وتوظيفها هو أكثر ما يميزه كنص حديث في الأدب العربي.

 

 

 

 دينا نبيل - مصر

 

 

 

....................

 

المراجع:

 

-1الموقف الأدبي:المنهج السيميائي وتحليل البنية العميقة للنص:د/ حلّام الجيلالي، عدد365 أيلول 2001،اتحاد الكتّاب العرب- دمشق  ص 34

 

-2 المصدر ذاته

 

-3  الكتاب: سيميائية الصورة.. مغامرة سيميائية في أشهر الإرساليات البصرية في العالم: قدور عبد الله ثاني دار الغرب للنشر والتوزيع، الجزائر، ط1 2005

 

-4 المصدر ذاته

 

-5  قراءات سيميولوجية في الصورة: شاكر لعيبي البغدادي، المدى الثقافي، العدد 722 تموز  2006، ص 10

 

-6 مقال: سيميائيات الصورة بين آليات القراءة وفتوحات التأويل،الأستاذ: عبد الحق بلعابد

 

-7  دليل الناقد الأدبي: د/ ميجان الرويلي، د / سعد البازعي، المركز الثقافي العربي، الرباط – المغرب، ط3 2002، ص 180

 

-8 مجلة فكر ونقد الإلكترونية: قراءة في السيميولوجيا البصرية: محمد غرافي، العدد 13، سبتمبر 1998

 

-9 الراوي وتقنيات القص الفني: عزة عبد اللطيف عامر، الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة، ط1  2010، ص192

 

-10  المصدر ذاته

 

 

 

 

خاص بالمثقف

.................................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (عدد خاص لمناسبة تكريم القاص المبدع فرج ياسين اعتبارا من 14 / 4 / 2012)

 

في المثقف اليوم