تجديد وتنوير

الفلسفة النسوية في مشروع ماجد الغرباوي التنويري

محمود محمد عليما زلت أؤمن بل ربما أكثر من أي وقت مضي مع أستاذي الدكتور حسن حنفي بأن التواصل بين الأجيال أحد مكونات الوعي التاريخي؛ حيث إن كل جيل يبدأ من الجيل السابق ويتجاوزه؛ فلا يوجد جيل بلا أساتذة إيجاباً أم سلباً؛ وكل جيل يواصل الجيل السابق ويقطع معه؛ ولا أحد يبدأ من الصفر حتى يحدث التراكم التاريخي الضروري لبلورة الوعي التاريخي الفلسفي كنواة للوعي التاريخي العام. ولا يعني تواصل الأجيال التكرير؛ تكرير الجيل اللاحق للجيل السابق أو المديح والتقريظ الذي يصل إلى حد التملق والتفخيم والتقديس والتأليه طلبا للشهرة الإعلامية والذي ينقصه الصدق نظرا لأنه يتوجه للكل وفي كل المناسبات بلا استثناء . بل يعني القدرة علي الإكمال وإعادة القراءة من الزمن الأول؛ زمن كتابة النص؛ إلى الزمن الثاني؛ زمن قراءته والذي قد يصل إلى حد نصف قرن؛ قل أو كبر؛ وهو عمر الجيل . يعني إعادة كتابة النص الأول ونقله من ظروفه الأولي إلى ظرفه الثاني؛ وكأن الجيل السابق قد بعث من جديد في روح الجيل الحالي؛ وأخذ  يتكلم بلسانه؛ فالروح تتواصل في التاريخ؛ والتاريخ يتراكم في الروح؛ والمراحل تتوالى علي الأمد القصير والدورات تبدأ وتنتهي علي المدي الطويل

وإذا كانت لكل عصر من العصور سماته وقضاياه؛ فإن الكثير من قضايا العصر الحديث  مرتبط بالمرأة؛ فالحديث لا يتوقف ولا يهدأ عن تحرر النساء وحقوقهن السياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ وعن إزالة كافة أشكال التمييز عنهن؛ كثر الحديث عن المرأة في التاريخ وعند الفلاسفة والمفكرين .

ولقد ظهرت فلسفة حديثة أطلق عليها الفلسفة النسوية أو الفلسفة الأنثوية أخذت علي عاتقها أن تري الوجود كله بعيون الأنثي؛ حتى العلوم الطبيعية أخذت نصيبها من الفلسفة؛ ومع بداية العصر الحديث ومع قيام الثورة الصناعية والحاجة للمزيد من الأيدي العاملة؛ ومع حروب عالمية استهلكت البشر كما استهلكت البيئة؛ كان التدشين لعصر جديد للنساء يدخلن آلة العمل بقوانينها الجبارة؛ وكان لا بد من قيام أفكار وفلسفات جديدة لخدمة هذا التوجه؛ فكانت حرية المرأة؛ وحرية الجسد؛ والبحث عن دور جديد للنساء ... الخ (وذلك حسب ما ذكرته الباحثة سلوى محمد نصره في مقدمة كتابها الفلسفة النسوية في فكر الإمام محمد عبده).

ومع دخول القرن التاسع عشر ظهر الفكر النسوي في شكل ثورة تطالب خلالها بحقوق المرأة نتيجة الاضطهاد الذي عانت منه عبر العصور وفي مختلف الديانات، انطلاقا من نقدها للسلطة الكلية للرجل على المرأة من خلال تغيرها لعدة مفاهيم، فتعتبر أن الأبوية ذريعة اتخذها الرجل للسيطرة على المرأة، باستغلاله لطبيعة جسدها الضعيف أمام جسده، فليكون هناك توازن على المرأة أن تحقق هويتها وذاتها بأن تكون عنصر فعال في المجتمع، لتظهر خلال هذا كله موجات وتيارات نسوية، فالموجات النسوية تمثلت في ثالث موجات ابتداءً من الموجة الأولى التي كانت تبلوراتها خلال سنة 1792م كتمهيد للموجة الثانية التي كانت بين سنة 1960م حتى نهاية القرن 20م، لتأتي الموجة الثالثة كآخر موجة التي كانت بداياتها من التسعينيات لتمتد إلى يومنا هذا؛ حيث عملت النسوية خلال هذه الموجات إعادة الحقوق للمرأة مهتمة بكل قضايا المرأة. نفسها. لنجد التيارات على تحقيق العدالة والنسوية التي تبدأ بالتيار النسوي الماركسي، ثم التيار النسوي الليبرالي، فالتيار النسوي الاشتراكي، أخيراً نجد التيار النسوي الراديكالي. لتبرز الفلسفة النسوية الغربية وحتى العربية في كافة المجالات العلمية والفكرية.

ومن أهم المفكرين الذين أولوا قضية المرأة عناية فائقة والمنظرين لأسس الفلسفة النسوية بمفهوم ورؤية خاصة تستحق الدراسة والتحليل هو الأستاذ ماجد الغرباوي؛ ذلك الرجل الذي يمثل (كما قال الأستاذ شاكر فريد حسن في مقاله ... ماجد الغرباوي المثقف التنويري والمفكر المضيء): رمز ونجم فكري وثقافي نقدي لامع يتجدد كل يوم في فضاءات العلم والثقافة والسياسة والمعرفة؛ ويقف ضمن طليعة المفكرين والمثقفين العرب المستنيرين والنقديين المشتغلين على نقد الفكر الديني والحركات الاسلامية ومسائل النهضة والاصلاح والتجديد والمعاصرة والتنوير والعنف والتسامح بين الاديان والعقائد والمذاهب؛ وقضية المرأة ومسألة تحررها المرتبطة بتحرر المجتمع كله . فهو يتمتع بموهبة أدبية ابداعية وخلاقة وآفاق علمية واسعة؛ ويتصف بالذكاء والفطنة والبصيرة الثاقبة وبعد النظر والرؤية الواضحة والوعي المتجدد المتوهج المتوقد ... وهو المفكر المتواضع الثري بالثقافة الاسلامية والفكر الانساني والوعي النقدي؛ والانسان العصامي؛ الصلب؛ المقاتل والمحارب بالكلمة والقلم؛ والثورة لديه فصل حب وعشق كوني شمولي ... هو كذلك المفكر المتمرس المتبحر في التراث الاسلامي؛ يملك الأسس العقلية المنفتحة والأدوات الفنية التي يعتمدها اسلوبه الكتابي النقدي ومقارباته الفكرية والثقافية؛ التي تعد اهم ركائز واوليات الاستنساخ للمثقف المبدع الخلاق المبتكر المجدد ... وهو أيضا كاتب وباحث عميق وجاد؛ صاحب مشروع فكري نهضوي معاصر يسعى من خلاله الى ترشيد الوعي عبر تحرير الخطاب الديني من سطوة التراث وتداعيات العقل التقليدي؛ ومن خلال قراءة متجددة للنص الديني على اساس النقد والمراجعة المستمرة من اجل فهم متجدد للدين كشرط أساس لأي نهوض حضاري وعصري متقدم وجذري  يساهم في تأصيل قيم الحرية والتسامح والعدالة في اطار مجتمع مدني خال من العنف والتنابذ والاحتراب .

والسؤال الآن : ما هي رؤية ماجد الغرباوي لأفكار الفلسفة النسوية من مكانة المرأة ؟ والمساواة؛ والحرية؛ وحقوق المرأة وأيضا موقفه من الفلسفة النسوية الغربية والفلسفة النسوية العربية؟ ما وماهي المنطلقات الفكرية في نظر الأستاذ لنسوية ما بعد الكولونيالية ؟ وهل يعد القهر الذي تتعرض له المرأة موضوعا عالميا وليس موضوعا عربيا؟؛ وكيف تقهر المرأة من وجهة ماجد الغرباوي ؟ وما هو مفهوم النظام الأبوي وما ماصدقاته؟ وماهي الأصول الفلسفية لتبعية المرأة في هذا النظام ؟ وما فلسفة النظام الأبوي في تربية المرأة ؟   وذلك من وجهة نظر الأستاذ انطلاقا من الايدلوجية التي يتبناها ماجد الغرباوي ؟ وأسئلة كثيرة أخري صاغها كاتب تلك السطور وأجاب عنها بإفاضة الأستاذ ماجد الغرباوي .

إن رؤية ماجد الغرباوي تتضح من خلال مشروعه التنويري والذي يقول عنه: أما عن مشروعي، فسأبداء ببيان الخطوط العريضة لرؤيتي حول النسوية، معززة بالمبادئ التي اؤمن بها:

أولاً - أسعى في مشروعي إلى إقامة مجتمع مدني متحضر، يأخذ بأسباب العلم والمعرفة، ويعزز قيم الدين والفضيلة، باعتبارهما قيما إنسانية أصيلة تكافح الظلم والعنف وتعضّد روح التسامح والسلم الأهلي. وتقوض مشاريع الهيمنة والتوسع والسيطرة، وخطط إذلال الشعوب ونهب ثرواتهم. وتساهم في التحرر من سطوة المؤسسات الدينية والأفكار المتطرفة والهدامة. وعلى هذا الأساس أقارب موضوعات النسوية تارة باعتبارها فردا، وثانية باعتبارها جزءا من المجتمع.

ثانياً- تعريفي لمفهوم النسوية - Feminism، وفقا لمفهوم الفلسفة المعاصرة، القائمة على النقد والعقلانية، هو: (تحرير وعي المرأة وإعادة تشكيله وفق رؤية إنسانية عادلة). ليكون موضوعها: (نقد مكونات الوعي وارتهانات تشكيله). وقد تمت الإشارة له سابقا، أذكر به للمناسبة.

ثالثاً - تبدأ الخطوة الأولى على طريق تحرير المرأة، واستعادة حقوقها، من استرداد إنسانيتها، واستعادة ثقتها بنفسها، وبعقلانيتها وحكمتها وقدراتها العقلية والنفسية، بعد تحرير الوعي من تراكمات التربية والبيئة وسطوة التراث والعادات والتقاليد، وعقد النقص والدونية.

رابعاً - توظيف الخطاب الديني العقلاني، وقيم الحضارة الحديثة، والقيم الأخلاقية والإنسانية، لإعادة تشكيل وعي الرجل بالمرأة، وانتزاع اعتراف حقيقي بإنسانيتها، يضعها على قدم المساواة معه. للتخلص من منطق المنّة والشفقة والتكرّم والتفضّل المستوطن وعي الذكر في تعامله معها.

خامساً - ما لم يكن اعتراف المجتمع بإنسانية المرأة اعترافا حقيقيا يبقى التسامح معها تسامحا شكليا، ويواصل الرجل نظرة الازدراء، يضع نفسه فوقها، ويتعامل معها بتعالٍ ذكوري.

سادساً - تستمد حقوق المرأة مشروعيتها من إنسانيتها. تبقى تدافع عنها على هذا الأساس، وتشعر بالظلم والإهانة عند الاستهانة بها. أما المرأة المنهزمة فتبقى مشروعية حقوقها مرتهنة للرجل وإرادته. فتتعرض للاضطهاد والظلم، دون التمرد عليه باعتباره قدرها. وهذا فارق جوهري اؤكد عليه دائما في مسألة النسوية، وأعتبر جميع الحقوق بناء فوقيا، ينبغي أن يؤسس على أسس إنسانية وعقلية وأخلاقية. ينبغي للمرأة أن تحدد حقوقها بنفسها، بعيدا عن سطوة الرجل وسلطته. وهو ما نراه الآن، حيث الذكر هو الذي يحدد حقوق المرأة.

سابعاً - أؤمن من حيث المبدأ بحرية المرأة ومساواتها مع الرجل، ما لم تمسا قيم الفضيلة، التي هي أساس تماسك الشعوب. لذا أميل للحرية العادلة، والمساواة العادلة. والعدالة قيمة نسبية، تحددها مصالح الشعوب ومرتكزاتها الفكرية والعقدية إضافة إلى التزاماتها الاجتماعية (عادات، تقاليد، تعليمات دينية، لوائح قانونية، مقررات) التي تستمد شرعيتها من شرعية تعاقد مضمر بين أبناء الشعب، أو عقد اجتماعي، وجود الفرد يؤكد قبوله به، فيفرض عليها الالتزام به. ومن يعش داخل مجتمع، يلتزم بما يلتزم به أفراده. التزام يحيل على عقد اجتماعي يستمد شرعيته هو الآخر من عدالته والالتزام به. وقد يحد المجتمع من حريات أفراده، شريطة أن تكون قيودا عقلانية، تصب في مصلحة الجميع، وينتفي عنها صفة الاعتداء والظلم. أي أن تحديد الحرية التي هي صفة وجودية للإنسان، لا يعتبر اعتداء، مادام له مردود إيجابي على الجميع والمرأة جزء منه. فهي تتنازل عن بعض حريتها لأجل تعزيز قيم الفضيلة التي تعضد تماسك الشعب. وهكذا بالنسبة للمساواة، فهي حق للمرأة أصالة، لكن لا ينبغي للرجل استغلالها لإقحام المرأة باسم المساواة إلى سلوك يضر بمصداقيتها، كأن يجبرها على عمل شاق فوق طاقتها وقابلياتها، باسم المساواة فيوجب عليها ذلك، لذا اشترطت في المساواة العدالة، كشرط أساس لتحقيق توازن قيمي، يراعي خصائص المرأة، خاصة البايلوجية. والعدالة تحفظ حقوق الجميع، دون غَبن أو ظلم. فثمة فرق بين الحرية والمساواة باعتبارهما لازمين لوجود المرأة. وبين الحرية والمساواة كممارسة اجتماعية خاضعة لشروط العقد الاجتماعي.

ثامناً - الدين تجربة روحية تروي ظمأ الإنسان المتعطش للمطلق، والمرتهن للغيب والمقدس. يغمره قلق مصيري لا شعوري، وتوق جنوني للسمو يستبد به وهو يعيش تجربته، فتنعكس آثارها على سلوكه ومشاعره ومواقفه. والدين بهذا الفهم الصوفي يساهم في تعميق قيم التسامح والسلم الأهلي، حينما يضفي الدين معنى لحياته وتضحياته، ويرفد المجتمع بقيم المحبة والسلام، ويساهم في تماسك الأواصر الاجتماعية، والحث على العمل الصالح. وعدم التآمر ضد مصالح شعبه ووطنه. لا يسود الاستقرار والأمن، ولا تحقق المواطنة أهدافها من خلال القوانين وقوة القضاء، بل ينبغي وجود ثقافة موازية تثقف الشعب على القيم والمبادئ الكفيلة باستقرار الشعب. والدين بالمعنى المتقدم يلعب دورا إيجابيا عندما يخلق وازع التقوى، وحب الخير، وحينئذ سيلتزم بالأنظمة والقوانين حتى في خلواته بعيدا عن عدسة الرقيب الأمني. وهذا النمط الديني يعارض منطق الفرقة الناجية، ويفتح باب النجاة أمام  الجميع، ويحول دون دعوى احتكار الحقيقة، وسيادة منطق التكفير.

تاسعاً - الأحكام الشرعية، أحكام نسبية، ترتهن فعليتها لفعلية موضوعها، وبعد أربعة عشر قرنا، حصلت تحوّلات حقيقية، ينبغي أخذها بنظر الاعتبار، إذا أن الشريعة قائمة على أساس ملاكات ومصالح ومقاصد، ويمكن اعادة النظر بجملة منها، باستثناء بعض العبادات.

عاشراً - أهم إشكالية تواجه المرأة عامة والمرأة المثقفة خاصة، تحرير العقل الجمعي من ذكوريته وسلطويته واستخفافه، ليرقى إلى مستوى إنسانيته في تعامله معها. مع تعميق ثقتها بذاتها وبمنجزها، بعيدا عن تاء التأنيث، تحاشيا لإعادة انتاج الذكورة من خلال تكريس الأنوثة. وهذه اشكالية مركبة، تتطلب من المرأة عملا مزدوجا. تنقية العقل الجمعي من قيم التمايز الجنسي، وتأكيد إنسانيتها، من خلال مواقفها ومنجزاتها بعيدا عن التكريس اللاشعوري للأنوثة. فتارة تكرّس المرأة الذكورة وهي تقاوم تحدياتها، فتعيد انتاجها بصيغ مختلفة. وهذا ما يحصل حينما تصرّ المرأة على تأنيث منجزها تفاخرا أو تحديا، أو تكريسا لخصوصيتها، ليبقى المجتمع العربي في دوامة ثنائية المرأة / الرجل. الذكر / الأنثى. وتبقى نبرة الرجل تعلو صوت المرأة، رغم حضورها الكبير على المستوى العلمي والأكاديمي والاجتماعي والثقافي والأدبي والفني. بل ونافست الرجل في أعلى مناصب القيادة عندما مارست السلطة والحكم (رئيسة دولة أو رئيسة وزراء)، أو كوزيرة ومستشارة، ومديرة، ورائدة فضاء، وبرلمانية... وللحديث بقية !

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

................................

يمكنك الاطلاع على الكتاب من خلال الرابط أدناه 

 

الفلسفة النسوية في مشروع ماجد الغرباوي التنويري

 

 

 

 

 

 

في المثقف اليوم