تجديد وتنوير

حاتم السروي: إحياء منهج الإصلاح الديني عند الأفغاني ومحمد عبده

حاتم السرويلم تعد الرغبة في الإصلاح الديني الآن موضعًا للشك والخلاف؛ فجميعنا نطالب بإصلاح بنيوي للفكر الديني بناءً على فهمٍ سليم لجوهر التعاليم الإسلامية وروح الشريعة ومعرفة مقاصدها، ولأننا جربنا الاستماع كثيرًا إلى الخطاب المتشنج غير المنطقي والمغرق في الإرهاب الفكري ونبذ الآخر، والقائم على المنع والكبت والوقوف عند ظواهر النصوص ومنع التفكير مطلقًا بحجة أن العقل لا دخل له في الدين، مع أن غير العاقل لا يًخَاطب بنصوص الكتاب والسنة ويخرج عن دائرة التكليف، لأننا جربنا كل ذلك وكانت النتيجة هزيمة حضارية كبرى؛ فلماذا لا نجرب النهج الحداثي المبني على استيعاب التراث العقلي عند المسلمين، والذي دعا إليه المصلح الثائر جمال الدين الأفغاني، وتلميذه الحكيم الأستاذ الإمام محمد عبده.

وقبل الشروع في الحديث عن دور المصلح الفيلسوف جمال الدين الأفغاني وتلميذه الإمام محمد عبده، تجدر الإشارة إلى أن الكاتب لا يأخذ آراءهما كلها بمأخذ الإيمان المطلق، إذ تقوم دعوتهما على إعمال الفكر واحترام الشخصية الباحثة المستقلة، وقد خالف الإمام محمد عبده بعض تلاميذه النجباء ولم يروا في ذلك حرجًا، وما يهمنا الآن من تراث محمد عبده وأستاذه الأفغاني هو تلك النهضة التي كان لهما فضل ابتعاثها، وهذه الروح الإصلاحية التي ساهمت ولا شك في إعمار دنيانا وحفظت علينا ديننا أيضًا.

ولا نبالغ إذا قلنا أن عقلية جمال الدين الأفغاني كانت في مستوى عقليات الفارابي وابن سينا وابن رشد، فقد امتاز بالحكمة "ومن يؤت الحكمة فقد أوتيَ خيرًا كثيرا" وهو لم يكتفِ بحكمته لنفسه؛ وإنما بعزيمته الماضية وروحه الطيبة ورغبته الصادقة في إصلاح أمته، رأيناه ينهض لبث أفكاره الإصلاحية في بلاده أولاً..هناك حيث أفغانستان البعيدة بطبيعتها الجبلية الوعرة، ثم حاول أن يقدم أفكاره النهضوية في إيران التي كان يجيد لغتها الفارسية، على أنه لم يجد يدًا تحنو عليه ولا أذنًا تصغي إليه ولا عقلاً يفكر في عباراته إلا في مصر، التي اهتمت نخبتها بأفكار الأفغاني وجعلتها موضعًا للتنفيذ.

 وقد نجح الأفغاني بفضل المشروع الحداثي الشامل والذي كان يجري العمل به في مصر حينذاك، فلم تكن الشعارات التي رفعها ذلك المصلح غريبةً على مسامع النخبة المثقفة لدينا في سبعينيات القرن التاسع عشر، لكنها الآن تعد غريبةً على مسامع الجامدين الذين علا صوتهم وانتشر خطابهم المدمر، وهذا لعمري من عجائب الكنانة، فنحن الأمة الوحيدة التي كان ماضيها أكثر تقدمًا من حاضرها!.

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: بماذا تميز الأفغاني ليصبح محل احترام النخبة المثقفة في مصر وموضع تقديرها؟ والإجابة أنه تميز بعلمه الغزير، وموسوعيته المدهشة، وأنه كان ذكيًا بل عبقرياً، فقد أعمل ذهنه فيما تعلمه، واستطاع أن يبلور أفكاره الإصلاحية الطموحة من خلال سيل المعلومات والمعارف التي لديه.. وقد كان له مجلس أدبي ضم كثيرًا من رموز الحداثة المصرية، والذين كان لهم الفضل في بناء المؤسسات العلمية التي لا تزال قائمةً حتى الآن، وبفضلهم عرفت مصر واقعًا ثقافيًا مختلفًا ومثمرًا، ومن مجلسه الأدبي هذا تخرج ذلك العالم الأزهري الذي نفخ روح الحداثة في الجامع العريق، وأعني به الإمام محمد عبده.

لقد سيطرت شخصية الأفغاني على قلب وروح محمد عبده، فقد كان طلق اللسان، فصيحًا بليغًا، ولحديثه حلاوة تعجب السامعين، وكان يجيد الفارسية والتركية والعربية الفصحى، ثم تعلم الفرنسية فأجادها أيضًا، بل إنه كان يعرف بعض العبارات من اللغة الروسية، وبفضل تشجيعه تعلم الإمام محمد عبده اللغة الفرنسية، كما شجعه كذلك على الاهتمام بالعلوم العقلية عند المسلمين وإحياء المصنفات العربية القديمة في مجال الفلسفة، ومن هنا رأينا محمد عبده يضع حاشيةً على شرح الدُوَاني للعقائد العَضُدِيَّة، ومن هذه الحاشية عرفنا براعة الإمام رحمه الله في علم الكلام والإلهيات، وقد خرجت هذه الحاشية للنور عام 1875م وكانت انعكاسًا لآراء جمال الدين الأفغاني ودعوته إلى عودة الاهتمام بالفلسفة العربية والتصوف.

 ومصطلح التصوف هنا يعني تلك الفلسفة الروحية وعلم الأخلاق الذي قدمه كبار حكماء المسلمين، إنه الميراث الراقي الذي وجدناه عند ذي النون المصري والحارث المحاسبي وسهل التستري والجنيد البغدادي والسري السقطي ورابعة العدوية وأبي عبد الرحمن السُّلَمي وأبي القاسم القشيري وأبي طالب المكي؛ أما التصوف الطرقي الذي نعرفه الآن فقد كان موضع انتقاد واضح من السيد جمال الدين، ولم يتوانَ تلميذه محمد عبده في الهجوم على الطرق وما أشاعته من خرافات وما أحدثته من بدع؛ ولهذا كان محمد عبده ولا يزال محل نقمة وكراهية أبناء الطرق بشيوخها ومريديها، وقد سمعت بأذني أحد أبناء الطريقة العزمية يصفه بأنه كان عميلاً للإنجليز وصنيعةً للاستعمار؛ مع أن الإمام كان قد تصوف بمطلع شبابه ولم يترك المنهج الصوفي حتى مات، لكنه بعد أن خلع نفسه من الطرق التي اتصل بها في بداياته، عاد إلى روح التصوف وأخلاقه العالية وحكمته التي مثلت للشيخ معينًا للرؤية الحكيمة المستنيرة، والروح الثائرة على الفساد والجهل.

وقد كان الإمام ولا يزال محل هجوم من الشيوخ التقليديين، وذلك أنه دعا لفتح أبواب الاجتهاد وعدم الاقتصار في تلقي العلم وإصدار الفتوى على مذهب واحد، فالحق لا يقتصر على مذهب دون آخر؛ بل إنه لا يقتصر على المذاهب الأربعة وحدها، فقد يوجد عند الظاهرية على سبيل المثال، كما أن الإمام رغم تعلمه في الأزهر خالف الأشاعرة في بعض ما ذهبوا إليه.

 وبعض الباحثين أو أغلبهم يحلو لهم القول بأن الإمام كان من المعتزلة؛ غير أنني مع البحث والتدقيق وجدت أن الإمام  لم يكن مع أولئك ولا هؤلاء كما قال عن نفسه؛ ولا يمكن حسبانه معتزليًّا أو أشعريًّا مجددًا كما كنت اعتقدت في السابق؛ فقد طرح عن نفسه روح التقليد وعصبية الانتماء للفرق، وأخذ من كل فريق ما يعتقد أن الدليل يدعمه ويقويه، وبهذا كانت للإمام الريادة والأسبقية في الدعوة إلى علم كلام جديد، وهي الدعوة التي شرع في تطبيقها على نحوٍ عملي حين كتب رسالته في التوحيد، والتي هي حاصل جمع دروس  كان يلقيها للطلبة في بيروت التي كان منفيًّا إليها، وفي الرسالة نرى أسلوبًا مختلفًا في الكتابة العلمية الدينية، وهو أسلوب بليغ وفي الوقت نفسه يمكن فهمه بسهولة، حيث يخلو من المعضلات، ويتحدث في المسألة بوضوح ومباشرة ودونما حشوٍ أوغموض،  ونرى فيها قضايا حديثة لم تكن تخطر على بال العلماء التقليديين، وحتى الآن رغم هجمات الإلحاد الشرسة لم تخطر على هذا البال! كما ترجم الإمام رسالة أستاذه الأفغاني في الرد على الدهريين من الفارسية التي كان يجيدها إلى العربية، وفيها تكريس واضح لمبدأ العقلانية في فهم العقائد الإسلامية والرد على خصومها من الملحدين.

ويمكن القول أن أفضل ما في الإمام محمد عبده هو شخصيته التي جمعت بين النزعة العملية والروح المثالية، وهو جمعٌ نغبطه عليه، لأن أغلب الناس لا يوفقون إلى هذه الخلطة الساحرة، ولقد كانت له نظرة عامة شاملة وعميقة، وقدرة على تشخيص أمراض الأمة مع وضع العلاجات المناسبة، ولهذا نراه يدعو إلى إصلاح اجتماعي شامل ومتعدد الأبعاد، ويأخذ بعض خصومه إهماله للسياسة وعدم مقاومته المباشرة للاستعمار الإنجليزي، والسبب في ذلك هو إيمانه بعدم قدرة البلاد في ذلك الوقت على مواجهة دولة كبرى لها أدوات سيطرة كبيرة وهائلة، وأدرك محمد عبده أن الذي تنبغي مقاومته قبل الاستعمار هو قابليتنا للاستعمار، فالشعب الواعي الذي يمتلك أبناؤه تعليمًا جيدًا وهمة عالية وقدرة على التعاون والإنجاز، هو شعب غير قابل للخضوع ولا للسيطرة، أما الشعب الذي يفشو فيه الجهل والخنوع والثرثرة والأنانية فهو شعب قابل للإبادة وليس للاستعمار فقط.

وقد عمل الإمام على إصلاح التعليم وحاول ذلك مرارًا في الأزهر الشريف، ولاقى عنتًا من شيوخه لدرجة أنه أحضر معه عصا، حتى إذا جاء الشيخ عليش يُشَغِّب عليه في درسه كعادته رفعها أمامه عَلَّهُ ينصرف! وعندما أنشئت دار العلوم في عهد الخديوي إسماعيل كان في طليعة أساتذتها، وكانت مدرسة عصرية تسير على منهج الحداثة في طرائقها التعليمية وتجمع بين علوم الدين واللغة والعلوم الطبيعية والجغرافيا والفلك، ونظرًا لأفكاره الحداثية التي بعثت القلق في نفس الحكام تم إبعاده عن دار العلوم والتدريس فيها، وأُسْنِدَت إليه رئاسة تحرير "الوقائع المصرية" فلم تكن حكومة الخديوي مؤهلة لتقبل أفكار محمد عبده الجريئة، وظنوا أنهم بنفيه إلى الوقائع المصرية سوف يستريحون من صوته الثائر، فعاندهم أكثر وحوَّل الصحيفة إلى منبر للإصلاح الاجتماعي بعد أن كانت منشورًا حكوميًا لا وزن له في عالم الفكر والإصلاح.

وعندما عُين الإمام قاضيًا في مدينة الزقازيق عمل على إصلاح القضاء بدوره، ولم يكتفِ بتحري العدالة في أحكامه بل كان يحكم أيضًا بروح القانون، وكانت أحكامه في الجملة فتاوى قانونية مثيرة للاهتمام وجديرة بالتعلم منها، ولَمَّا عُيَّنَ مفتيًا للديار المصرية في آخر ست سنوات من عمره القصير بحساب السنين والكبير بحجم الإنجازات، أصدر عدة فتاوى لا زالت حتى الآن موضع اهتمام من العلماء ودارسي الفقه الإسلامي، وفيها يظهر تمكنه العلمي وقوته في هذا المنصب الذي تشرف به، وكان محمد عبده أول مفتي للديار المصرية ولا يمكن لعاقل أن يشكك في قدراته العلمية التي أقر بها أعتى خصومه سواءً من الشيوخ التقليديين أو أتباع التيار السلفي الذين كالوا له مع الأسف العديد من الاتهامات.

وقد اتجه الإمام في أواخر عمره الذي لم يزد على 56 سنة إلى العمل الخيري وعمل على خدمة الفقراء واليتامى وأنشأ جمعية إسلامية للبر والصدقات، وبعد هذا الميراث الحافل من التعليم والكتابة والدعوة الإصلاحية والعمل الخيري، هل يمكن أيها السادة أن نسمح بإطلاق سهام التكفير على هذا الرجل الذي آمن بدينه وبلده حتى أنه لم يجد وقتًا ليهتم بنفسه، وساءت أحواله الصحية حتى مات شهيدًا بداءٍ في بطنه وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "شهداء أمتي خمس: المطعون والمبطون والحريق والغريق والهدم"..لقد كان محمد عبده أمة في رجل، ونحن الآن في أمس الحاجة إلى أمثال هذا العالم الذي كان آخر ما قاله من الدنيا:

ولست أبالي أن يقال محمدٌ أَبَلَّ.. أم اكتظت عليه المآتمُ

ولكنه دينٌ أردت صلاحًهُ.. أُحاذِرُ أن تقضي عليه العمائمُ

رحم الله الإمام البطل..مولانا محمد عبده...

 

حاتم السروي

 

في المثقف اليوم