تجديد وتنوير

عصمت نصّار: محمد عبده ومدرسته من إحياء المشروع الفلسفي إلى تجديد الخطاب الديني

عصمت نصارلقد فطن محمد عبده ومدرسته، بأنه لا سبيل لتفعيل المشروع النهضوي - الذي خطط له وشرع في تنفيذه - إلا بإحياء العلوم العقلية وإدراجها في المعارف التعليمية والترويج لها في الصحف وعقد الحلقات النقاشية لتبسيطها للجمهور وإقناعهم بأنها خير سلاح يمكن للمسلمين الزود به عن دينهم أمام هجمة غلاة المستشرقين الشرسة التي أعدت العدّة للتشكيك في أصول الدين وسنة النبي والتاريخ الحضاري للأمة الإسلامية ونشر الإلحاد بين شبيبة هذا العصر.

وقد أرادوا بذلك استكمال الطريق الذي مهّد له حسن العطار في حديثه عن التجديد وتلميذه رفاعة الطهطاوي وما كان يكتبه من الأبحاث الفلسفية في (مجلة روضة المدارس 1870م) وجهود على مبارك في إصلاح التعليم وإنشاء دار الكتب 1870م ودار العلوم 1872م .

ومن أهم القضايا التي كانت تناقش في مجلس محمد عبده قضية ضرورة تبرأة الحكمة العقلية والمصنفات الفلسفية من تهمة الإلحاد التي ذاعت بين الأزهريين إلى درجة تحريمها والارتياب في عقيدة كل من يتحدث عن الفرق الكلامية، ولا سيما المعتزلة والكتابات العقلية مثل فلسفة ابن رشد وابن خلدون وذلك حتى عام 1871م. لم يدرس الأزهريون من العلوم الفلسفية سوى علم التوحيد والتصوف وأصول الفقه والمنطق والحكمة بكثير من التحفظ والريبة في مؤلفات الجاحظ (ت868م) والحلاج (ت922م) وأبن سينا (ت1037م).

وعلى الرغم من جهود الأفغاني ثم محمد عبده عام 1895م، لم يستجب الأزهريون لدعوة محمد عبده لتجديد المعارف الدينية وتطويرها وإدخال العلوم العقلية إلى ميدان البحث والدرس والتساجل في المقررات الدراسية حتى يتسنى للأزهريين تجديد الخطاب الدعوي وتحديث ضروب المحاججة والتناظر وشرح المقاصد الإسلامية وحمايتها من الضلالات والخرافات التي كانت تلصق بها من قبل المجترأين تارة والجامدين تارة أخرى، وقد ظل الأزهر على هذه الحال حتى عام 1933م. ومن أكثر دعاة التفكير العقلي في دراسة الفقه الإسلامي الشيخ محمد مصطفى المراغي (1881م-1945م) وهو من أخلص تلاميذ الأستاذ الإمام محمد عبده، وأحرصهم على تطبيق مشروعه الإصلاحي؛ إذ ذهب إلى أن الجمود والعزوف عن التفكير الناقد والمنهج المقارن في الفقه لانتخاب الأصلح لصالح الأمة من أخطر المعوقات التي تحول بين الناس والوقوف على مقاصد الشريعة الغرّاء ومن أقواله في ذلك (إنّ الشريعة الإسلامية فيها من السماحة والتوسعة ما يجعلنا نجد في تفريعاتها وأحكامها في القضايا المدنية والجنائية كل ما يفيدنا وينفعنا في كل وقت، وما يوافق رغائبنا وحاجاتنا وتقدّمنا في كل حين، ونحن في ذلك كله ملازمون لحدود شريعتنا).

ولم تقف دعوته الإصلاحية عند هذا الحد؛ بل فتح باب الاجتهاد متخذاً من المنطق والقياس العقلي منهجاً في الاستنباط، ونادى للتوفيق بين المذاهب الطائفية والفقهية والكلامية، وفرّق بين الحكمة العقلية والنظريات الفلسفية من جهة والنظر العقلي وآراء المتفلسفة من جهة أخرى، ومج التعصب بكل أشكاله، وكره أن يوصف بالكفر من يبوح برأيه حتى لو كان مخالفاً للمألوف أو المتفق على صحته، والأصوب في رأيه مجابهة الكتابات الجانحة والمعتقدات الشاذة بالمثاقفات العقلية والحجج العلمية والمنطقية والشرعية من قبل العلماء، وليس من فيهم المتعالمين والأدعياء، ولم يوافق كذلك على مصادرة الكتب أو معاقبة المجترأين؛ بل كان يرى أن الحوار والمحاججة أيسر السبُل لإثبات بطلان ادعاءات الخصوم أو كذب المدلّسين.

كما دعا لتشكيل مجلس أعلى للعلوم الإسلامية للحد من خلافات الأقطار الإسلامية من جهة، والصراع الملّي من جهة ثانية، وتجديد فقه المعاملات والأحوال الشخصية تبعاً لثقافة العصر ومقتضيات الواقع من جهة ثالثة؛ ذلك فضلاً عن حثه لأول مرة ضرورة إدراج علم مقارنة الأديان، وتاريخ المذاهب الفلسفية، وكتابات المستشرقين والرد عليها، والفلسفات قديمها وحديثها، والأخلاق والمنطق، والتوسع في علم الكلام، ضمن المناهج الدراسية العالية، ولاسيما للطلاب المتخصصين في علوم الدعوة. 

والجدير بالإشارة أن الشيخ الأحمدي الظواهري (1878م-1943م) الذي خلف الشيخ المراغي في رئاسة الأزهر فترة قد حقق له ما أراد، وذلك لأن كليهما من أخلص تلاميذ الشيخ محمد عبده، وأقواهم عزيمة لتحقيق رسالته الإصلاحية. فقد أنشأ الظواهري كلية أصول الدين وأرسل البعثات إلى أوروبا وأصدر مجلة نور الإسلام عام 1931م، لتعبّر عن رأي الأزهر في القضايا المطروحة، وقد حرص على إثراء العقول العلمية الأزهرية بالعلوم العقلية. 

وفي عام 1930م أصدر قانوناً بإصلاح التعليم في الأزهر، وشرع في تحرير موسوعة إسلامية شاملة للفكر الإسلامي. ومن أشهر المواد الدراسية التي أضافها على لائحة الأزهر في كلية أصول الدين (التوحيد والرد على مطاعن الأغيار والشُّبَه، الخطاب الدعوي والمناظرة، الملل والنحل، المذاهب الفقهية وتاريخها، والبدع والعادات والأخلاق، الفلسفة، المنطق)؛ وبذلك أضحت مادة الفلسفة تدرس في الأزهر وتحرر في موضوعاتها الأبحاث العلمية والمقالات النقدية والدراسات السردية التحليلية، وذلك منذ عام 1933م.

وفي عام 1935م واصل الشيخ المراغي ما بدأه بالإصلاحات؛ فشكل لجنة للفتوى تضم نخبة من شيوخ المذاهب الإسلامية، وذلك لانتخاب النافع للمجتمع والمعبر عن المقاصد الشرعية في آنٍ واحد مع عدم التقيد للتراث الفقهي والجمود على ما انتهى إليه، وحجته في ذلك دعوة الأئمة الفقهاء أنفسهم للتجديد وعدم التقيد برأي مادام هناك أفضل منه لصالح حال المسلمين. كما شكل لجنة أخرى لنشر الثقافة الوسطية بين الجمهور وأطلق عليها لجنة الوعظ والإرشاد، وذلك لمحاربة البدع والجماعات الضالة وتفسير ما غمض من أصل الدين ومناظرة المرتابين والرد على الملحدين، مخافة أن يتصدّى لهذا الأمر نفرٌ من المغرضين أو غير المؤهلين لذلك العمل الخطير. وقد نجحت هذه اللجنة في الحد من نفوذ جماعة الإخوان المسلمين، وما تنشره من آراء - وكان من أشهر أعضائها الشيخ يوسف الدجوي (1870م-1946م) الذي فضح تهافت دعوة حسن البنا (1906م-1949م) - وقد تصدّت كذلك للفرق الصوفية الضالة وشطحاتها المشوهة للإسلام. وكذا ما تسلل من أفكار (فرقة البهائية، والقضيانية، والمعتقدات المهدية، والفتوى الوهابية).

كما حدّث المراغي هيئة كبار العلماء واشترط في أعضاءها الحرص على تجديد معارفهم وتأهيل أذهانهم للاجتهاد والإيمان برسالة الأمة الإسلامية وحملتها على الجهل والجمود والتعصب. وشكل لجنة من كبار المفسرين الذين يجيدون اللغات الأجنبية لوضع ترجمة دقيقة لمعاني القرآن، عوضاً عن الترجمات الشاغلة بالأخطاء الاصطلاحية واللغوية التي تجنح عن مقصد الشرعية في الكثير من المواضع، وذلك للحدّ من جهالات عشرات المستشرقين والمبشرين الأوروبيين عن حقيقة القرآن.

كما دعا لإنشاء مجمع للبحوث الإسلامية تضم كبار علماء العالم الإسلامي ومن مهامه انتخاب شيخ الإسلام الذي يقوم بالإشراف على كل المنابر العلمية مثل جامع الزيتونة والقيروان والجامع النبوي في شتى أنحاء العالم الإسلامي؛ وذلك للحدّ من الخلافات العقيدة وتحزبات الفرق المذهبية، ومحاربة كل أشكال الجنوح عن أصول العقيدة، والرد الجميل على الطاعنين والمشككين والمخالفين بالحجة والبرهان والمنطق العقلي والعلوم الحديثة بمعزل عن كل أشكال التعصب والعنف والعداء والتكفير. أي أن الأزهر في هذه الحقبة شارك بقدر موفور في حركة التنوير التي كان يقودها تلاميذ الشيخ "محمد عبده" في شتى مرافق البلاد لتنفيذ مشروعه النهضوي.

وليس أدلّ على ذلك من الجهود المتواصلة من تلاميذه داخل الأزهر الذين شاركوا في المؤتمرات الدولية؛ لشرح العقيدة الوسطية وللتأكيد على دعوة الأزهر للسلام بين الأديان ودعوتهم لوحدة تجمع بينها حب الخير للناس كافة في ظل طاعتها للمقاصد التي أرشد إليها الرسل والأنبياء والأولياء والمصلحين والحيلولة بين صراع الأديان والكتابات العدائية التي تثير العوام وتدفعهم للعنف انتصاراً لما يعتقدون. ومن أقوال المراغي في ذلك: (من الواجب أن يتعاون أهل الأديان على تقوية الشعور الديني وإعادته ليغمر القلوب ويملأ النفوس هيبة ورهبة من الله، ورحمة ورفقاً بعباد الله، وعلى إعزاز مركز الأديان أمام العلم وأمام الفلسفة).

 وتتحقق رسالة "محمد عبده" شيئاً فشيئاً بجهود تلاميذه الذين ربط بينهم الإصرار على تطبيق المشروع، وتحقيق مرامي هذا الاتجاه الذي جابه الكثير من السلطات المعادية والكارهة والمعطلة للمشروع الفلسفي من جهة، وتجديد الخطاب الديني من جهة أخرى.

وها هو الشيخ مصطفى عبدالرازق (1885م-1947م) الذي نجح في إكمال ما بدأه المراغي والظواهري وجمع حوله عشرات التلاميذ من شبيبة الأزهر المؤمنين برسالة الإمام "محمد عبده"، ومشروع النهضة والاستنارة مثل محمد فريد وجدي (1878م-1954م) الذي أثرى الثقافة الإسلامية بمناظراته العلمية حول قضايا الفكر الإسلامي وذلك منذ توليه تحرير مجلة الأزهر عام 1935م.

ومحمد يوسف موسى (1899-1963م) الذي كشف عن أثر فلسفة ابن رشد في الثقافة الأوروبية والفلسفة المسيحية، ونبّه على بعض الأغاليط التي أُلصقت بفكر ابن تيمية، وبين وجهته العقلية في نقد المنطق الأرسطي واجتهاده في ميدان الفتوى وانتصاره للعقل في معالجة الكثير من القضايا. ذلك فضلاً عن مقابلة محمد يوسف موسى بين القوانين الوضعية للشريعة الإسلامية وتبيان حكمة الباري في دستوره والفلسفة الكامنة وراء آيات القرآن الكريم،

ومحمد غلاب (1899م-1970م) الذي راح يشرح القضايا الرئيسة في الفلسفة قديمها وحديثها ويبرز أصالة الفلسفة الإسلامية ونقاء التصوف من البدع والخرافات التي حاقت به.

ومحمود شلتوت (1893م-1963م) الذي برهن على أن الشريعة الإسلامية تعد مصدراً أصيلاً من مصادر التشريع الحديث.

وعبد المتعال الصعيدي (1894م-1966م) الذي أحيا خطاب التجديد، ووضع شروطاً للداعية المجدد، وحدّد المفهوم الحقيقي للأصولية الإسلامية، وفعّل منهج الشيخ "محمد عبده" في تجديد علم أصول الفقه وعلم التوحيد، وناقش العديد من القضايا المعاصرة للمنهج العقلي البرهاني.

ومحمد البهي (1905-1982م) الذي أخذ على عاتقه رد الهجمة المنظمة على المنهج العقلي والكتابات النقديّة للأزهر، وتوسع في البعثات العلمية للخارج وكشف زيف كتابات التغريبيين الطاعنين في مشروع الأستاذ الإمام محمد عبده.

وعبد الحليم محمود (1910م-1978م) الذي عكف على دراسة التصوف الإسلامي للكشف عن أصالته وطرافة مباحثه، وغيرهم من الذين حملوا راية التجديد في الأزهر في النصف الأول من القرن العشرين.

أمّا جهود الشيخ مصطفى عبدالرازق في ميدان الفلسفة؛ فيرد إليه وضع المباحث الرئيسة في دراسة الفلسفة الإسلاميّة، مُوضحاً أن علم أصول الفقه، وعلم الكلام، والتصوف السّني، وعلم مقارنة الأديان، ومباحث المسلمين العلمية الطبيعية والفلكية، ومناهج فلاسفة الإسلام في التأليف بين المنقول والمعقول، والحكمة والشريعة، والكشف عن تأثرهم بالفلسفة اليونانية في بعض النظريات التي صاغوها في السياسة والاجتماع، وتبيان أصالة فلسفاتهم في مناقشتهم لقضايا النبوة، وحرية الإرادة، وخلق العالم، وفلسفة التربية والأخلاق، ذلك فضلاً عن ردّه على المعترضين على دراسة الفلسفة، وبيان أن الحكمة العقلية ومحبة الحكمة والبحث عن الحقيقة لا يخالف الشرع ولا يشكك في الدين ولا يزعزع الإيمان؛ بل التعصب والجمود والجهل هو الذي يدفع بعضنا إلى التكفير ورمي المخالفين بأبشع التهم؛ الأمر الذي يحرض الجمهور على حرق كتب المشتغلين بالفلسفة مثل الغزالي ثم ابن رشد ثم ابن حزم ثم ابن تيمية، فجميعهم اتهم في دينه، وصدق إيمانه. وحجة المتهمين والأدعياء هو الجمود والتقليد والتعصب. 

(وللحديث بقية)

 

بقلم : د. عصمت نصّار

 

في المثقف اليوم