تجديد وتنوير

ثامر عباس: الانتلجنسيا المشرقية ولوثة الايديولوجيا

المثقف العراقي (أنموذجا)

لعل الذي تستهويه منهجية المقارنة والمضاهاة، وهو يتابع معطيات الحراك الثقافي والنشاط الفكري، لدى كل من بلدان المشرق العربي ونظيرها بلدان المغرب العربي، لابد له أن يلاحظ وجود ظاهرة لا تفتأ تتعمق على مستوى بنى الوعي وتترسخ على صعيد انساق الثقافة، تنبئ بوقوع تفاوت في تمثل الأفكار الجديدة، وحصول اختلاف في استيعاب المنهجيات المستحدثة. ليس فقط فيما يتعلق بالتوجهات الثقافية العامة للنخب الفاعلة على جبهتي الفالق الجغرافي، لاسيما لجهة التعاطي مع الموضوعات المرشحة للبحث والدراسة فحسب، بل وفيما يتصل بمستويات التطور المعرفي لتلك النخب من جهة، وتنوع مقاربات خيارها المنهجي من جهة أخرى أيضا". ففيما تبقى المواضيع ذات المنزع السياسي / الإيديولوجي، تتصدر اهتمامات المثقفين المشرقيين بشكل عام، فان المواضيع ذات الطابع الثقافي / السوسيولوجي، تحتل الصدارة في أجندة نظرائهم من المثقفين المغاربيين على نحو خاص. وذلك لأسباب ذاتية ودواعي موضوعية، نعتقد أنها تشكل – بتضافرها وتفاعلها – العوامل الأساسية في تبلور تلك الاتجاهات والمعطيات، المؤثرة في أشكال توزعها وأنماط انتشارها. ومن ثم تعطينا المسوغات الواقعية والمبررات العقلانية، التي من خلالها ننسب للمثقف المغاربي أفضلية معرفية على نظيره المشرقي، الذي لم يبرح يعاني لوثة سحر الايديولوجيا وخطابها السجالي، سواء بنسختها القوموية الفجة، أو بطبعتها الماركسوية الكاريكاتورية، أو بواجهتها الاسلاموية المؤسطرة. ولعل هذه الوضعية الإشكالية هي ما سوّغ للباحث العربي (عاطف عصيبات) نفي إمكانية وجود (انتلجنسيا) عربية بالقول (ليست هناك انتلجنسيا في العالم العربي، على الرغم من وجود وفرة من المثقفين العرب. وأقصد بالانتلجنسيا هنا تلك الفئة الاجتماعية المنظمة، التي تقوم بين أفرادها نسيج فكري وثقافي يربط فيما بينهم، ويساعدهم على صياغة رؤية شمولية لواقع مجتمعهم وطموحاته. فبدلا"من وجود انتلجنسيا عربية، كمجموعة مثقفة اجتماعية منظمة ومتجددة في التاريخ والثقافة العربية، توجد في حقيقة الأمر فرديات مثقفة).

الظاهرة الكولونيالية والانتلجنسيا الوطنية 

يكاد أغلب الكتاب والباحثين من العرب والغرب، يجمعون على حقيقة تاريخية مفادها؛ إن مجتمعات العالم العربي بشقيه المشرقي والمغربي – ناهيك بالطبع عن بقية مجتمعات العالم الثالث – كانت في غالبيتها المطلقة، قبل أن تتعرض لصدمات الظاهرة الكولونيالية المتعددة، وتعاني اختراقات أفانينها المتنوعة، مجتمعات راكدة تاريخيا"ومتأخرة حضاريا"ومتخلفة اجتماعيا". لاسيما وان رواسب قرون العثمنة ومخلفات قيمها التقليدية، كانت قد خلعت عليها نوعا"من التجانس الاستاتيكي، لا في مجال علاقاتها وعاداتها وسلوكياتها فحسب، بل وفي مجال ذهنياتها وفكرياتها وذاكراتها أيضا"، وبالتالي فان قاعها السوسيولوجي (= البنية التحتية) أضحى  نوعما واحدا"،  وان إيقاعها الابستمولوجي (= البنية الفوقية) بات إلى حدّ ما متشابها". لاسيما وان (العرب – كما لاحظ رائد الفكر القومي العروبي (ساطع الحصري) – اعتبروا حكم السلاطين العثمانيين استمرارا"مباشرا"للخلافة الإسلامية، وإنهم لم يشعروا بأنهم شعب مستعمر تابع لسلطة أجنبية). بحيث لم تأخذ إجراءات الهيمنة الاستعمارية في حينها، إلاّ القليل من الوقت والشحيح من الجهد، حتى تغدو السيطرة تبعا"لذلك شاملة أفقيا"وتامة عموديا"، بعد أن كانت تلك الشعوب والمجتمعات المستهدفة، لا تزال في طور الذهول جراء صدمة القوة العسكرية الساحقة، وفي مرحلة الانبهار بالتفوق التكنولوجي الكاسح. بيد انه وان تشابهت تجارب مجتمعات المشرق والمغرب العربيين، من حيث وقوعهما ضمن دائرة نفوذ القوى العظمى في القرنين التاسع عشر والعشرين المنصرمين، فضلا"عن تساوي حظوظهما لجهة الخضوع لهيمنة الظاهرة الكولونيالية، وما تمخض عنها من تبعات سياسية بعيدة المدى وتداعيات اجتماعية عميقة الأثر. فان مظاهر الاختلاف ومعالم التباين بينهما، سرعان ما تطفو على السطح وتغدو من سماتها الغالبة، حين نعتزم التوغل في تدقيق التفاصيل والتعمق بفحص المعطيات، المترتبة عن تلك الظاهرة في كلا الشطرين. ولعل من أبرز تلك الاختلافات والتباينات، الطبيعة النوعية للإستراتيجية السياسية الفرنسية، مقارنة بنظيرها الإستراتيجية السياسية البريطانية، من حيث نمط الثقافة الفرانكفونية التي جسدتها الأولى في بلدان المغرب العربي، وما يقابلها من نمط الثقافة الانكلوسكسونية التي بلورتها الثانية في بلدان المشرق العربي. ففي الوقت الذي مارست فيه الكولونيالية البريطانية، وهي تجتاح مناطق حصتها في مجتمعات الشرق، الغافية على أمجاد ماضيها المعفر بالأساطير؛ أنشطة تفكيك البنى السوسيولوجية المتكلسة، وتفتيت المكونات الانثروبولوجية المتحجرة، وتشطير المنظومات السيكولوجية المتصلبة، عبر سياسات (فرق تسد) سيئة الصيت والذكر، للحيلولة دون أن تفيق هذه المجتمعات من سباتها، وتستطيع التغلب على كبوتها، ويكون بمقدورها التخلص من خرافاتها. هذا من جهة، وعمدت، من جهة أخرى، إلى  إبقاء مظاهر التخلف الاجتماعي قائمة، وترك معالم التأخر الحضاري سائدة، والحفاظ على بؤر الجهل الثقافي رائجة. باستثناء ما كانت الحاجة اللوجستية تضطرها للقيام بتدريب البعض هنا وتعليم البعض الآخر هناك، ضمن حدود مرسومة وضوابط مدروسة، بحيث يتسنى  لها  تحقيق أكبر عائد مصلحي ومردود اقتصادي بأقل كلفة سياسية وعسكرية ممكنة، كما وبلوغ أعلى مستوى هيمنة إستراتيجية وجيوبولتيكية بأدنى قياس زمني متاح. ولهذا فقد استخلص أحد الباحثين في شؤون الشرق الأوسط  (دريير)، وهو يتحدث عن التجربة المصرية في هذا المضمار، ملاحظة مفادها إن (المستعمرون الانجليز وحفائهم الطبقيون من الملاك العقاريين والرأسماليين المصريين، لم يعتنوا بتطوير التعليم العام. كان جزء كبير من الاعتمادات المخصصة من ميزانية الدولة، يصرف على إعالة الجيش والبوليس والمحاكم وما شابهها من مصروفات). ولعل هذه السياسة البرغماتية قصيرة النظر وبعيدة الأثر، قد ساهمت باكرا"لا في إحياء النزعات القبلية / العشائرية، وترسيخ الولاءات الدينية / الطائفية، وتكريس الانتماءات المناطقية / الجهوية فحسب، وإنما لعبت دورا"مسرّعا"في تشكيل الأحزاب الطفيلية، ونمو الإيديولوجيات الخلاصية، وانبعاث التطلعات العسكرية. مما حدا بتلك القبائل والفصائل والطوائف والأقوام كلا"على شاكلته، لاستثمار رصيد نخبها السياسية والثقافية والفكرية؛ لا من أجل قمع تلك النزعات البدائية وردع تلك التطلعات التعصبية، وبالتالي تذليل الخلافات وتعقيل الاختلافات،  التي كانت – ولا زالت – تعزل هذه الجماعة عن تلك، وتنأى بهذا الطرف عن ذاك. وإنما للاستعانة بها لتفعيل عواقب الأولى وتهويل مثالب الثانية، ومن ثم زيادة التصدع في الكيان الاجتماعي، ومضاعفة التشرذم في المدماك الثقافي، وتعميق الهوة في السستام النفسي، وتأبيد القطيعة في المتخيل الجمعي. من هنا فان بواكير نشأة المثقف المشرقي، كانت مصممة بالأساس لأغراض الحجاج الإيديولوجي، بدلا"من الاحتجاج المعرفي. ومنذورة بالأصل لغايات التجهيل السياسي، بدلا"من التحليل السوسيولوجي. ومجيرة بالفطرة لمصالح الأقوام والقبائل والطوائف، بدلا"من مصالح الوطن الواحد والتاريخ المشترك والثقافة الجامعة. ولعل العالم الانثروبولوجي (جيرار ليكلرك)، لا يجانب الصواب حين أشار في بحثه عن (سوسيولوجيا المثقفين)، إلى أن:  (ثمة خصوصية لا يمكن التنازع فيها، أنها خصوصية المثقفين الأوروبيين (الغربيين) مقارنة بخصوصية المثقفين (المشرقيين)، أو مثقفي العالم الثالث كما كان يقال سنوات 1960 – 1970، آسيا، أفريقيا، والإسلام. إذ كانت ولادتهم نتيجة تطور بطئ ومسار علمنة محلية داخل أوروبا. أما ولادة المثقفين غير الغربيين،  فقد حصلت نتيجة القطيعة المفاجئة مع الثقافة المحلية (التقليدية)، ونتيجة علمنة آتية من الخارج، وغالبا"ما أخذت طابعا"صداميا"). هذا في حين سعت الكولونيالية الفرنسية وبشكل محموم، ليس فقط إلى احتلال البلدان المغاربية احتلالا"عسكريا"مباشرا"، بقصد استغلال مواقعها الجيوبولتيكية ونهب ثرواتها الطبيعية واستثمار طاقاتها الديموغرافية فحسب – كما ديدن القوى الاستعمارية في كل زمان ومكان – وإنما عمدت، علاوة على ذلك، إلى إلحاقها ثقافيا"ودمجها لغويا"، عبر نسخ ثقافاتها المحلية، ومسخ شخصياتها الوطنية، وإقصاء لغاتها القومية، وطمس هوياتها الدينية، للحد الذي اعتبرتها – بالنسبة للحكومة الفرنسية وقتذاك - بمثابة جزء من مقومات سيادتها الوطنية، وعنصر من مكونات مجالها الحيوي. ولهذا فقد جعلت من اللغة الفرنسية (لغة المحتل)، اللغة الرسمية في التعامل السياسي والتواصل الاجتماعي، فضلا"عن اتخاذها معيارا"إلزاميا"وشرطا"إجباريا"، لمن كان يرغب في اعتلاء سلم الترقي الوظيفي والتقدم العلمي. كما حاولت توطين قيم الثقافة الفرانكفونية الموسومة بالطابع اللائيكي الحاد، والتي لم تلبث أن حفرت لها أخاديد في بنية الوعي الجمعي الفضفاضة، لاسيما بعد أن وجدت لها صدى لدى معظم قادة الحركات الوطنية، والذي تمثل بسعيها لامتلاك ناصية تلك اللغة والعوم وسط تياراتها، وذلك من خلال هضم الطروحات التنويرية التي تنطوي عليها، واستيعاب الدلالات العقلانية التي تحتكم إليها، لكي يصار إلى استخدامها في مقارعة سلطات الاحتلال بسلاحها ذاته، جنبا"إلى جنب مع بقية الوسائل النضالية الأخرى. وهو الأمر الذي أوجد – لاحقا"- رهطا"من المثقفين المغاربيين، الذين سيشايعون مذاك تيارات الثقافة الفرنسية، ويستمرأوا التتلمذ على أفكار فلاسفتها الكبار، ويتشربوا بصرعاتها ما قبل وما بعد الحداثية، ويستأنسوا بزخم منهجياتها البنيوية والألسنية والتفكيكية والتأويلية وسواها. ولذلك فقد لاحظ المؤرخ العربي الدكتور (ألبرت حوراني) من خلال كتابه (تاريخ الشعوب العربية)، إن هذا الأمر أفضى إلى (تطور جيل جديد تعوّد على القراءة، كثير منهم كانوا يقرأون بلغات أجنبية. وفي حاولي منتصف القرن التاسع عشر كانت اللغة الفرنسية قد حلت محل الايطالية كلغة مشتركة للتجارة في المدن. الإلمام بالانكليزية بالكاد كان موجودا"في بلاد المغرب وكان أقل انشارا"من الفرنسية). وحيث إن اللغة – أية لغة – ليست مجرد عبارات يتلفظ بها المرء للتعبير عن نفسه، أو جمل يفصح من  خلالها عن لواعج ذاته، إنما هي – بالأساس – أفكار يتفاعل معها، وقيم يتشرب بها، ورموز يندمج فيها، وثقافة يعتمد عليها، وحضارة ينتسب إليها.  فانه مع اتساع رقعة اللغة الفرنسية داخل رحاب الجغرافيا المغاربية، فضلا"عن ازدياد عدد المتعاطين لها والمنخرطين بها، سواء أكان عن طريق المخاطبة / المشافهة، أو من خلال المفاكرة / المكاتبة، فقد بدأت تتآكل – عند النخبة المثقفة والمتعلمة تحديدا"- أسس الدعوات الطوباوية والخطابات الإيديولوجية، التي كانت تحتل المسرح السياسي المعروف، وتغطي المشهد الثقافي المألوف، لتحل مكانها أنماط جديدة من التفكير المنطقي والتحليل العلمي، القائمة على أساليب الاستقراء والاستنتاج والتحليل والتأويل. (ففي الجزائر وتونس والمغرب – كما يؤكد الباحث المغاربي الدكتور (محمود الذوادي) – كان من وظائف اللغة الفرنسية (وما زال) بث القيم والتقاليد والفلسفات الغربية بين فئات هذه الشعوب خاصة المتفرنسة منها). وهو الأمر الذي عزز لاحقا"، ليس فقط مكانة اللغة الفرنسية بين الشرائح المتعلمة والمثقفة، لكي تصبح الوسيلة المعرفية المعتمدة لولوج عالم الفكر الغربي الشاسع، والسياحة بين تضاريسه المتعرجة والنهل من معينه الثر فسحب، وإنما لتوطين سساتيمه الفلسفية بكل جذريتها، وتمكين نظرياته الاجتماعية بكل جرأتها، وتجذير صرعاته المنهجية بكل جسارتها أيضا". وهو الأمر الذي سوف يسوق المثقف (المغاربي) – خلافا"لقرينه (المشرقي)، الذي رانت على تفكيره مظاهر الدعة والعطالة والترهل - إلى الميل بنشاطه الفكري وإبداعه الثقافي؛ نحو استلهام الأحداث الفعلية بدلا"من الاستسلام للأضغاث الوهمية، والركون إلى السوسيولوجيا الواقعية بدلا"من الافتتان بالايديولوجيا الطوباوية، والانتحاء صوب المنهجيات التفكيكية والتأويلية والجينالوجية، بدلا"من الانكفاء نحو التنطعات الترقيعية والانتقائية والتلفيقية، والتطلع نحو تحليل المعطيات الواقعية بدلا"من التموضع خلف التصورات الافتراضية، والسعي لتفكيك الأنماط الذهنية بدلا"من تسليك الأوهام الخرافية، والمثابرة على نقد الأصوليات والعصبيات المتحجرة بدلا"من تمجيد الحركات الراديكالية والجماهيريات العدوانية، والتماهي بالقيم العقلانية والعلمانية والحداثية بدلا"من التعاطي بالنزعات الأسطورية والغيبية والرجعية. وفي هذا السياق، فقد أدلى المفكر المغربي الدكتور (عبد الإله بلقزيز) بملاحظة مفادها انه (كان الباحثون المغاربة، ثم الجزائريون والتونسيون، أبكر من شغل ميدان نظرية المعرفة وفلسفة العلوم والايبيستمولوجيا في نطاق الدرس الفلسفي الجامعي – في البلدان العربية – قبل أن ينتقل هذا الانشغال إلى ميدان البحث والتأليف.  وليس من شك في إن الانجذاب إلى هذا الميدان المعرفي إنما كان بأثر من الدراسات الايبيستمولوجية المزدهرة، لحظتئذ، في أوروبا، وفي فرنسا على نحو خاص : التي قرئت في المغرب العربي على نطاق واسع ودرست في أقسام الفلسفة في الجامعة، بل وانتشر تأثيرها خراج الجامعة، فامتد إلى الدرس الفلسفي للبكالوريا، قبل أن يبدأ الاهتمام بها في الاضمحلال والخفوت في نهاية الثمانينات). هذا في حين قننت أنماط الثقافة الانكلوسكسونية توجهات المثقف العراقي – باعتباره الممثل الأبرز للانتلجنسيا المشرقية – وأطرت وعيه، ضمن دائرة ضيقة من الاهتمامات الفكرية والمعرفية، بحيث لم يتعدى حقل التاريخ المؤسطر والتراث المؤمثل، التي لم يلبث صداها وقد انداح  في أروقة تجمعاته الثقافة وتنظيماته الحزبية على شكل إيديولوجيات؛ ليبرالية ممسوخة وموجهة، أو قومية رومانسية متعصبة، أو دينية ارتدادية مجاهدة، أو شيوعية طفولية مغامرة. بعبارة أخرى سيق للتموضع في أطر من التفكير والتنظير، لم ترقى به إلى مستوى من النضج المعرفي والتطور المنهجي، بحيث يتمكن من إدراك طبيعة الواقع الاجتماعي كما هو، لا كما يعتقده أو يتمناه، فضلا"عن اكتناه الأواليات التي تتحكم بسيروراته، واستشراف الآفاق التي ستئول إليه تفاعلاته. ولهذا فقد أحسن المؤرخ العراقي الدكتور (سيار الجميل) الوصف حين كتب يقول (إن انتلجنسيا العراق المخضرمة، بنية فكرية ذات نظام شبه معرفي ومؤدلج، تتوافر فيه الشروط الكاملة لتفكيك خطابه المتنوع على نحو ابستمولوجي، يسعى لفهم الواقع الذي دفع بتلك النخبة كي تعمل من وراء الستر، أو بشكل علني على تحقيق الحلم القومي للأمة العربية قبيل الحرب العالمية الأولى، ثم السعي إلى تكوين العراق، نظرا"لما حدث في مداخلات الحرب، وما أعقبها).  

ابتلاء المشرق باعتلاء العسكر للسلطة

لسنا هنا بصدد إلقاء اللوم على مجتمعات المشرق العربي، كونها شكلت تأريخيا"(الحاضنة) السياسية والاجتماعية، لتوالد وتناسل الظاهرة العسكرية على مدى عقود ما بعد الاستقلال، والسعي، من ثم، لمحاولة تبرئة مجتمعات المغرب العربي من مساوئ تلك الظاهرة، التي تسللت، في غفلة من الزمن، إلى حقل السياسية لتحكم قبضتها على عناصر السلطة التي فيه، وتتحكم بمصادر الامتيازات المترتبة عليه، والإيحاء، تبعا"لذلك، بانفراد بلدان المشرق بهذا الضرب من الأنظمة الطغيانية. لا مشاحة من القول إن مجتمعات المغرب العربي، كانت قد عرفت خلال تاريخها السياسي لفترة ما بعد الاستقلال، هذا النمط من الأنظمة وخبرت طبيعتها التعسفية، وهو الأمر الذي ما انفكت آثاره شاخصة لحدن، لاسيما بالاحتكام إلى تجارب كل من تونس وليبيا والجزائر، على سبيل المثال لا الحصر. إلاّ إن مجتمعات المشرق العربي لم تكن فقط السبّاقة باختبار هذا النوع من الحكم فحسب، وإنما كانت من حيث تواتر حصول هذه التجربة واستمرار معطياتها، تحتل الصدارة في هذا المضمار. ولعل الباحث العربي (منذر سليمان) يلامس الحقيقة عندما يقول (وربما ساعد ارث الانتداب الفرنسي والبريطاني العسكري وقبله الحكم العثماني العسكري، في ترسيخ حفر صورة مبهرة للبذلة العسكرية والنجوم اللامعة التي ترافقها. وتدافعت هذه الصورة عبر الأجيال المتعاقبة تمنح مرتدي البذلة مكانة خاصة تستوجب الاحترام والمهابة، وترمز إلى السلطة والنفوذ والامتيازات، وتنتزع الإعجاب والاعتزاز. وليس مستغربا"في هذه الحالة أن يكون مفهوم النخبة أو الصفوة في المخيلة الشعبية العربية،  منذ أواسط القرن العشرين قد انحصر بمرتدي البذلة العسكرية، أكثر من أقرانه من  نخب الفكر والثقافة والآداب والعلوم والطب والهندسة. وجاءت الانقلابات العسكرية على أيدي الضباط لتزيد من ترسيخ هذه المخيلة). وللوقوف على أسباب حصول هذه الحالة ومعرفة دوافع اتخاذها هذا المنحى، فان عودة إلى طبيعة الظاهرة الكولونيالية وما تمخض عنها كفيل بإعطائنا تفسيرا"معقولا"لذلك. فبينما عقدت الكولونيالية الفرنسية العزم على إلحاق بلدان المغرب العربي ضمن إطار ممتلكاتها لما وراء البحار، وبالتالي التخطيط للبقاء في هذه البلدان إلى مشاء الله، فإنها عمدت إلى التقليل من شأن الجيوش الوطنية الفتية، واستمرت مواظبة على سياسة تهميش دورها وإضعاف سلطتها وتقليص نفوذها. وبالتالي فقد راهنت على طبيعة النخب التي أبصرت نور السياسية حديثا"، في ظل قوانين الاحتلال وشروطه الاجتماعية والثقافية، لاسيما وان هذه الأخيرة نجحت نسبيا"في التعامل مع ما يطرحه الواقع الجديد، من تحديات سياسية وإشكاليات اجتماعية وتهديدات ثقافية، على خلفية ما تحصل لها من وعي وما تراكم لديها من معارف، نتيجة لاحتكاكها المباشر وغير المباشر بأنماط الفكر الغربي وأشواط الحضارة الأوروبية، ناهيك بالطبع عما تبلور لديها من سياقات تاريخية وأنظمة معرفية، ساهمت بهذا القدر أو ذاك على إضفاء الطابع العقلاني على العلاقات والفكريات، مثلما المدني على السياسات والمؤسسات، للحد الذي قلما تقاطعت توجهات السياسة الوطنية واعتبارات السلطة المحلية، مع تطلعات الثقافة الإنسانية وإرهاصات الفكر العالمي  وتشوفات الوعي الكوني. هذا إذا لم تحاول تلك السلطات من استمالة نخبها الثقافية الصاعدة وكوادرها الفكرية الواعدة، للاستفادة من خبراتها والاستئناس برأيها والاستقواء بعطائها، وذلك لزيادة الانطباع لدى الرأي العام الداخلي والخارجي، من أن حكومات ما بعد الاحتلال أضحت مهتمة بتطوير الثقافة وتشجيع المثقفين، ليس فقط على ارتياد مجلات معرفية متنوعة والتحليق بفضاءات فكرية متعددة فحسب، وإنما لأجل أن يتاح لأرباب الفكر والثقافة، توسيع مداركهم وتنويع معلوماتهم. وهو الأمر الذي أفضى باكرا"إلى تقديم خيارات الجماعات المدينية المتعلمة لاستلام دفة السلطة وإدارة شؤون المجتمع عقب الاستقلال من جهة، والى تحجيم تطلعات المؤسسات العسكرية من التدخل في أمور السياسية والتأثير على توجهات المجتمع من جهة أخرى. (وهكذا يتبين – كما أوضح أستاذ علم الاجتماع الدكتور (عبد الصمد الديالمي) – إن السوسيولوجيا في بداياتها في المغرب كانت مؤسسة إدارية سياسية في خدمة الحماية. فالعلاقة بين السياسة (الاستعمارية) والسوسيولوجيا علاقة جدلية، علاقة أخذ وعطاء، علاقة يؤثر داخلها كل طرف على الآخر : السياسة تحدد خطوط البحث السوسيولوجي، والسوسيولوجيا تزكي، معرفيا"القرارات السياسية). هذا في حين إن الأمور ستأخذ منحا"آخر تماما"، فيما لو نظرنا إلى الشطر المشرقي من هذه المسألة، حيث إن الإستراتيجية البريطانية التي حكمت شعوب المشرق العربي، بوحي من ثقافتها الانكلوسكسونية الرامية ليس فقط إلى؛ تأبيد التخلف الاجتماعي، وتجنيد التوتر السياسي، وتوطيد التأخر الاقتصادي فحسب، بل وإلى تجميد الحراك الثقافي، وتخليد السكون المعرفي، وتسييد الجهل الفكري أيضا". بمعنى أنها حسمت أمرها واتخذت تدابيرها حيال الشرائح المثقفة والفئات المتعلمة، لجهة تهميش دورها رغم ضعفه، وتقليص نفوذها رغم هزاله، وتحجيم تأثيرها رغم ضحالته من جهة، ومحولة وجهة اهتمامها، من جهة أخرى، نحو استقطاب العناصر العسكرية التي لفضتها جبهات القتال ضد الدولة العثمانية، على أمل تعزيز مراكز المؤسسة العسكرية وبناء نواة الجيش الوطني. بيد أن هذا الأمر لم يكن بدافع الحرص على مصالح البلاد ومطامح العباد، وإنما لتكليف تلك المؤسسة للقيام بدور الوكيل التابع، لكي تمارس ضبط الحراك السياسي، ولجم الاحتقان الاجتماعي، وكبح الغليان الديني. الذي كان في أطوار التفاقم ومراحل التأزم، على خلفية إحياء النزعات المذهبية والفزعات القبلية والنعرات العشائرية، التي برعت سلطات الاحتلال البريطاني في توظيفها على أسوأ ما يكون،  فضلا"عن استثمار خلفياتها المؤسطرة ورموزها المؤمثلة، في السيكولوجيا الاجتماعية العراقية المتشظية أصلا". وهكذا فقد كان (اتجاه الاستعمار البريطاني في العراق – كما استخلص الباحث المصري الدكتور (مجدي حماد) – إلى تركيز الأمور حول شخص الملك فيصل، وعرقلة قيام منظمات سياسية فعالة. وكان الجيش العراقي هو القوة الوحيدة المنظمة. ولذلك فحينما مات فيصل، قفز الجيش إلى مقدمة العوامل المؤثرة في تطور الحياة السياسية في  العراق). وإذا ما عمدنا إلى المقارنة الموضوعية بين الموقف الذي اتخذته كلآ"من السلطات العثمانية السابقة ونظيرها السلطات البريطانية اللاحقة، إزاء السياسات المصاغة للتعامل مع ظواهر من مثل؛ القومية / العنصرية، والدينية / الطائفية، والفبلية / والعشائرية، والجهوية / المناطقية، فان أفضليات الأولى تكاد تتغلب على الثانية بأشواط. ففي الوقت الذي حاولت فيه السلطات العثمانية القضاء على نفوذ القبائل وتقليص سيطرتها الجغرافية، ناهيك عن مغامرة إشراكها بأمور السياسة وقضايا السلطة، فان سلطات الاحتلال البريطاني عمدت ليس فقط إلى إبقائها ناشطة في محيطها وفاعلة في علاقاتها فحسب، وإنما بادرت إلى تشجيعها على مزاولة العمل السياسي وحثها على ولوج عرين السلطة، لا بل أنها أقدمت على مأسسة كيانها عبر التشريعات التي وضعتها والقرارات التي اتخذتها. ولعل كل ذلك كان بدافع تسهيل مهمتها الاستعمارية، وتقوية سلطتها السياسية، وتأمين أطماعها الاقتصادية من جهة، وإضعاف المقاومة المحلية، وتفكيك العلاقات الاجتماعية، وقمع التطلعات الإصلاحية، ووئد التوجهات الفكرية من جهة أخرى.  وهو الأمر الذي سيفضي – من جملة ما أفضى – إلى استحالت العلاقات الإقطاعية، القائمة على الاقتصاد الريعي المحلي والروابط الأبوية، التي كانت سائدة في أغلب مناطق العراق  لفترة ما قبل الاحتلال، إلى العلاقات (شبه الرأسمالية) القائمة على اقتصاد السوق العالمي والصلات السلعية، بحيث تحول شيخ القبلية أو العشيرة من مالك زراعي (إقطاعي) يحتكم لأعرف القبلية وعادات العشيرة، إلى تاجر عقاري (برجوازي) يخضع لقوانين السوق وعلاقاته البضاعية. وبالتالي هيأت الظروف الذاتية والموضوعية لاستشراء ظاهرة الهجرة المتفاقمة من الريف إلى المدن، تلك الظاهرة التي عمت مدن بلدان المشرق بصورة عامة، ومدن العراق على وجه الخصوص، لاسيما العاصمة بغداد التي تضاعفت أعداد الوافدين إليها بمتوالية هندسية على مرّ الأيام والسنين. ولأن التوجه المركزي لسلطات الاحتلال السابقة، فضلا"عن سلطات الاستقلال اللاحقة، كان يرمي إلى تعزيز مكانة الجيش في المجتمع لضبط حالات الفوضى ولجم مظاهر التفكك من جانب، وتقوية نفوذه في السياسة لتدارك ميل الدولة إلى الضعف في الأداء والعجز في المواجهة من جانب ثان. وعليه فقد سمح هذا الإجراء باستقطاب المزيد من الراغبين للانخراط بهذا المسلك الجاذب ماديا"والمغري معنويا"، بحيث حصل تحول نوعي في التركيبة الطبقية والبنية الثقافية للمؤسسة العسكرية العراقية، قاد في نهاية المطاف إلى مضاعفة حصة العناصر المتريفة إلى نظيرها المتمدينة. وهو الأمر الذي جعل من المؤسسة العسكرية منذ البداية، لا تحتل الصدارة في اهتمامات المجتمع السياسي فحسب، وإنما تلعب الدور الرئيسي في أنشطة المجتمع المدني أيضا". ويمكن القول مع المدير العام لمركز دراسات الوحدة العربية الدكتور (خير الدين حسيب) انه (إلى حدود عام 1941 كان الجيش هو مطمح أنظار الشباب. الذهاب إلى الكلية العسكرية كان مصدرا"للفخر والاعتزاز، وكان يستقطب كفاءات عالية. لكن الوضع تغير بعد عام 1941. وبشكل خاص بدأت تأتي في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، ونتيجة انتشار التعليم في العراق، أعداد متزايدة من خريجي الثانويات من المناطق الريفية، إمكانياتها المادية محدودة جدا"ومستواها العلمي محدود كذلك. والذي لا يستطيع منها الالتحاق بكلية أخرى فيها أقسام داخلية، يأتي إلى الجيش للالتحاق به. فالكلية العسكرية استقطبت مجموعة من  التلاميذ أغلبهم من الريف ومستواهم دون الوسط. لذلك كان تكوينهم الثقافي محدودا"، وعندما أتت ثورة 1958، جاءت مجموعة من الضباط وبينهم عدد غير قليل من أبناء الريف. هؤلاء جاء معهم تدريجيا"آخرون وزادت العملية بالانقلابات وزادت نسبة العسكريين. وحصل بذلك ترييف واسع نسبيا"للسلطة... وفي هذه الفترة بات في وسع الضابط أن يصير وزير خارجية، وزيرا"للداخلية، أو للصحة أو المواصلات أو الزراعة.. الخ. وفي هذه الفترة كلها كان الرؤساء عسكريين). وهكذا فقد أسهمت الظروف الذاتية والموضوعية المحيطة بالمجتمع العراقي، في عسكرة الحياة السياسية (أحزاب سياسية وقوى اجتماعية ومنظمات مهنية)، لا بمعنى أنها لم تحابي العناصر العسكرية وتتملقها للانخراط ضمن تنظيماتها فحسب – وهذا ما سيفعله الجميع بلا استثناء – وإنما بمعنى عسكرة الفكر السياسي في تعاطيه مع الواقع الاجتماعي من جهة، وجعل الايديويولوجيا، من جهة أخرى، مدججة بقيم التغالب في العلاقات والتكالب في الامتيازات والتصالب في التوجهات، بحيث أصبحت الكراهية المتبادلة والعنف البيني هي من السمات الغالبة على الحوار بين الفرقاء. كما أنها (ردكلة) – أي جعلها راديكالية – البيئة الثقافية (بنى الوعي وأنماط الفكر وأنساق الثقافة)، لا بمعنى ترويجها لمظاهر التعصب والتطرف على المستوى الاجتماعي، كما لو أنها من خصائص الطبيعة الإنسانية وشفرة جبلتها. ولكن بمعنى حضها على ممارسة هذا الضرب من التصور البدائي والسلوك العدواني، واعتباره صفة معيارية لتجسيد قيم  الشجاعة السياسية والرجولة القبلية والفحولة الذكورية. ولعل هذه الخلفية المركبة من شظايا السوسيولوجيا وبقايا الانثروبولوجيا وخفايا السيكولوجيا، تفسر لنا أسباب ابتلاء بلدان المشرق عامة والعراق خاصة، بظاهرة تكرار الانقلابات العسكرية واستمرار تحكم العسكر بمقاليد السلطة وتقاليد السياسة. ولذلك فقد (أثبتت التجربة – كما شخّص الأكاديمي والباحث المصري الدكتور (جميل مطر) – إن المجندين أو المرشحين لوظائف الضباط من (المواطن الريفي المنتقل حديثا"إلى المدينة) و(المواطن المديني المنتقل حديثا"إلى الطبقة الوسطى)، هم بين الأكثر احتمالا"أن يكونوا من الانقلابيين، أو الضباط المسيسيين). ولأن أصولها رثة  وتطلعاتها راديكالية وقيمها تفاضلية، فان العقلية العسكرية المتريفة تمقت الثقافة وتزدري الانتلجنسيا، من منطلق إن الأولى تحاول علمنة الدولة التي تتزعم سلطتها، وان الثانية تتوخى عقلنة المجتمع الذي تتحكم بمصيره. ولهذا فقد شخص المفكر (عبد الإله بلقزيز) طبيعة العلاقة بين السياسة والثقافة بالقول (لا تنظر السياسة بعين الرضا للثقافة على خلفية الشعور -  الذي لا يخلو من صحة – بأنها تمثل سلطة موازية تضاهي قوتها ماديا"ورمزيا". وهو ما يتضافر مع وعيها إن مشروع سلطة السياسة جديدة يبدأ دائما"من  مدخل ثقافي). وإذا كان لابد من اللجوء إلى الثقافة لتلميع صورتها وتسليع موقفها، فينبغي حينئذ أن تنطلق من منظور إيديولوجيا السلطة وإلاّ فلا. وإذا كانت الضرورة تستلزم الاستعانة (بالانتلجنسيا) لتزويق سياستها وتسويق خطابها، فالمفروض أن تكون ضمن طاقم النظام وتحت وصايته وطليعة ديماغوجيه وإلاّ فبدونها. وهكذا يكون المثقف المشرقي قد وضع بين شقي رحى؛ إما إن يكون بوق للسلطة ومهرج للنظام، يلهج باسمه يؤدلج بفكره ويحاجج بمنطقه، وإما إن يقع تحت طائلة المحضور السياسي والإيديولوجي، وبالتالي الاختيار بين انغلاق المحجر أو انعتاق المهجر. وفي ضوء التجربة السياسية لبلدان المشرق العربي، فان الغلبة كانت ولا تزال للخيار الأول للأسف، بحيث اقترنت صفة (الإيديولوجي) بالمثقف المشرقي أكثر من نظيره المثقف المغربي، وهو ما شكل المثقف العراقي مثاله البارز ونموذجه الصارخ !!.

إيديولوجيا من غير إيديولوجيين 

لعل الانطباع الذي يرجّح تكوّنه لدى القارئ سيكون مؤداه؛ إن الموضوع يرشح بمظاهر الاستنكار للايديولوجيا  والاستهجان للإيديولوجيين. وهو في حقيقة الأمر انطباع مغاير بالكامل لوجهة النظر التي نتبناها، ليس فقط ضمن إطار هذا الحيز المتواضع من الكتاب، وإنما نشايعها باستمرار كقناعة راسخة وموقف ثابت، تتمحور حول ضرورة الفصل والتمييز ما بين الايديولوجيا كنظام معرفي يحايث الواقع الموضوعي ويستبطن الوعي الاجتماعي من جهة، وبين الإيديولوجيين كجماعة سوسيولوجية تتعاطى هذا الضرب من النشاط الفكري والانخراط السياسي من جهة أخرى. فبقدر ما يحافظ المثقف على المسافة الافتراضية التي ينبغي عدم تجاوزها، والفاصل المتخيل الذي يتوجب عدم إهماله، بقدر ما تكون الايديولوجيا حقل أفكار نسبية قابلة للنقد والمساءلة، وتصورات مؤقتة مرشحة للجرح والتعديل، ورؤى آنية مباحة  للتفكيك والنقض، وقيم مطاوعة معرضة للتشريح والتنقيح. وبقدر ما يستحيل الإيديولوجيين إلى شريحة مثقفة (انتلجنسيا)، تتعامل بالأفكار العلمية على سبيل التفاعل، وتتعاطى بالمعرفة العقلانية على سبيل التواصل، وتنخرط بالمنهجيات النقدية على سبيل التداول، واضعة نصب عينها بديهية / مسلمة، صاغها المفكر الجزائري الدكتور (عبد الله العروي) مفادها؛ إن (الثقافة لا يمكن أن تتقلص إلى الايديولوجيا)، وإلاّ انقلبت الموازين واختلت المعايير وانتفت الحقائق. فالايديولوجيا وفق هذا المنظور الذي نعتمده هنا، لا تعد شي نافل لا قيمة له ولا جدوى منه، بل تمسي ضرورة لا غنى عنها؛ لفهم تناقضات الواقع، وإدراك تخندقات المجتمع، واستشراف إرهاصات الوعي، واستيعاب ارتكاسات السيكولوجيا. أنها وكما جادل الأكاديمي والباحث الفرنسي (فرناند دومون) (انجازات لا تلخص العلاقات الاجتماعية التي تتعهدها ولا تستنفدها، بل على العكس، تقتبس العلاقات الاجتماعية عناصر انبعاثها الخاص من الايديولوجيا. فالايديولوجيا عمل تأليفي، لا لأنها تكشف عن نمط مجرد يحلل كلية معينة كما تدعي النظرية أنها تفعله، وإنما لأنها وظيفة إنشاء الكلية). وعليه فمن الخطل أن يناهض المرء الايديولوجيا بصفتها تلك، وإلاّ فانه سيساق للوقوع في حبائل الايديولوجيا ذاتها، من حيث كونه يؤدلج مواقفه منها وتصوراته عنها وإسقاطاته عليها. كما انه من الخطأ الاعتقاد بأن  الايديولوجيا (وعي زائف) – كما حاول البعض توظيف هذه المقولة الماركسية في غير سياقها التاريخي وخارج إطارها السوسيولوجي – يحيد بالمرء عن وضوح الرؤية وسلامة التفكير وسداد الرأي، حين يتعلق الأمر بترسيم الوقائع على حقيقتها وتقييم الأحداث وفقا"لماهيتها. فالايديولوجيا وان اتشحت بالرموز وتجلت عبر المجرد، فهي – أولا"وأخيرا"- تعبير عن وجود قائم وإشارة إلى واقع حي ودلالة على  كينونة فاعلة. ولطالما اخفق الباحثين والمعنيين في الكشف عن سرّ العلاقة القائمة بين أنظمة الحكم  التسلطية في بلدان المشرق، وبين الولع باحتضان شتى أصناف الايديويولوجيات التوتاليتارية؛ الليبرالية / البرجوازية، والقومية / الوحدوية، والشيوعية / الأممية، والإسلامية / الطوباوية، ليس من منطلق الاعتناق لمبادئها والإيمان بفلسفتها والدعوة لقيمها والانخراط ببرامجها، ولكن من باب التوظيف لرصيدها والاستثمار لتأثيرها والاستغلال لخلافاتها. على خلفية إدراك تلك الأنظمة افتقارها للشرعية الوطنية والمشروعية الدستورية، التي تضفي على سياساتها العشوائية طابع الواقعية، وعلى مواقفها المرتجلة سمة العقلانية، وعلى علاقاتها الانتقائية صفة الإنسانية، لاسيما وان معظمها دلف إلى رواق السلطة عن طريق (الثورة) المتحالفة مع العسكر، أو الاستعانة (بالانقلاب) العسكري المباشر والصريح. ولذلك فهي بحاجة ماسة دائما"؛ إلى ما يستر عيوبها ويخفي حماقاتها ويطمطم انحرافاتها ويبرر مظالمها، طالما أنها تحتضن أقليات قرابية، وتمثل جماعات قبلية، وتناصر توجهات تعصبية، وتشايع أحزاب فئوية، وتتبنى تطلعات عدوانية. ولذلك فليس (كالمثقف المؤدلج) من يمكنه أن يقوم بهذه المهمة ويجيد هذا الدور، خصوصا"وان الأرضية التي يقف عليها وينطلق منها، لا تمثل القاعدة الشاملة للمجتمع الذي حافظت السلطة على تصدع كيانه، ولا تعبر عن إرهاصات الوعي الجمعي الذي ثابرت الايديولوجيا على إبقاءه شعثا". من حيث إن طبيعة الفكر الذي يحمله ينطوي على تناقض بين حقائق الواقع والافتراضات المتكونة عنه، وان ماهية الثقافة التي يختزنها تعكس القطيعة بين وقائع المجتمع والتصورات المترتبة عليه، وان خاصية الوعي التي يضمره يجسّد الشقاق بين السياق التاريخي والتوقعات المؤملة فيه. ولما كانت الأنظمة السياسية المتريفة محكومة بجملة من القيود الذهنية الصدئة، والضوابط العرفية المتخلفة، والمسبقات الرمزية المؤسطرة، فهي لا تحتاج بالعادة إلى مفكرين عقلانيين بقدر ما تحتاج إلى ديماغوجيين مضللين، مثلما لا يعنبها إنتاج مثقفين نقديين بقدر ما تفبرك دعاة ايديولوجين، فان الانتلجنسيا المشرقية التي تبرعمت تحت ظلال تلك الأنظمة وتشكلت بين جناح رعايتها، نادرا"ما يجتذبها العمل على نقد الأفكار البالية التي تتغذى عليها، بقدر ما ترغب في تكريس أنماطها وتقديس قيمها، وقلما تستدعيها الحاجة إلى مساءلة الوعي الشقي الذي تقتات منه، بقدر ما تسهم في ترسيخ أشباحه وتعميق أوهامه. وإذا ما أخذنا هذه الحيثيات والمعطيات بنظر الاعتبار، وحاولنا وضعها في إطار مقارن بواقع المجتمع العراقي – موطن المثقف المشرقي بامتياز – فإننا سنلاحظ من جهة، وجود فرط في الإيديولوجيات؛ الدينية والقومية والماركسية والليبرالية والاشتراكية، وفائض في الإيديولوجيين من  كل صنف؛ المتأسلمين / الطائفيين، والقومجيين / الشوفينيين، والمتعلمنين / المتعولمين، هذا بالإضافة إلى الجاهزين عند الإشارة والموضوعين تحت  الطلب. كل ذلك مقابل إصرار واضح على التفريط بالايديولوجيا الوطنية، التي تجعل من الثقافة العراقية الشاملة وعاء تصب فيه جميع تيارات الثقافة العراقية، بكل ألوانها وأنواعها وأشكالها وأنماطها وأنساقها وقيمها. وبما إن (انتقال المثقف – كما يؤكد المفكر (عبد الإله بلقزيز) – من لحظة المعرفة الخالصة إلى لحظة المعرفة المجنّدة، (يمثل) انتقال من الوضعانية – ذات الإيحاء الأكاديمي الكثيف – إلى الايديولوجيا)، فان المثقف المشرقي / العراقي سيبقى - بصرف النظر عن مستواه العلمي /الأكاديمي، وغناه المعرفي / الثقافي وانتسابه الحزبي / السياسي، وانخراطه المهني / الوظيفي – رهين سحر الايديولوجيا وفتنة إغوائها، أكثر مما سيكون قرين أطر السوسيولوجيا ومحنة ضرورتها، طالما يحاجج بالأولى ويحتج بالثانية، ويلهج بالأولى ويضج بالثانية، وينهج بالأولى ويلج بالثانية !!!. ولأنه سليل ملاحم السرديات الأسطورية، ووريث أجيال الحاضنات الإيديولوجية، وربيب أنظمة السلطنات التوتاليتارية، فقد لبث المثقف العراقي / المشرقي – رغم كل أنواع المصائب وأشكال النوائب – يؤدلج الواقع ويؤمثل الوقائع، خشية افتضاح خوائه الفكري وجدب مخزونه المعرفي، وتهرؤ عدته المنهجية، إذا ما لامس خشونة معطيات الأول  واصطدم بقساوة تداعيات الثانية. ولهذا فليس من المستغرب إن يوصف – في بعض الأحيان – بكونه (مثقف) مخضرم، للدلالة على خاصية السيولة التي يتمتع بها، حيال التبدلات السياسية والتحولات الاجتماعية والانزياحات القيمية، لا بالمعنى الزمني /  التاريخي، وإنما بالمعنى الثقافي / الفكري. وهو الأمر الذي قيض له ليس فقط النأي عن مخاطر الاحتكاك بمحارم السلطة أو الاقتراب من نواهيها فحسب، بل والاستفادة من إعراضها عن مطارته والتضييق عليه في أسوأ الأحوال، أو استقطابه وإدراجه ضمن أجهزتها الإيديولوجية والإعلامية ومن ثم الإغداق عليه في أحسنها. ولذلك يبدو إن هناك عقد (غير معلن) بين المثقف العراقي / المشرقي من جهة، وبين الأنظمة السياسية المتريفة، تمتنع هذه الأخيرة، وفقا"لبنود هذا العقد الافتراضي، من التعرض لهذا النمط من المثقفين المشايعين (المؤدلجين) – حتى وان لم ينتموا لفكر السلطة -  مقابل التزام الطرف الآخر (المثقف) عدم (دس أنفه فيما لا يعنيه)، والإشاحة عما لا يرضيه، والإعراض عما لا يغنيه. وبالتالي البقاء ضمن حدود الحكمة التي تقول؛ لأعيش أنا وليكن من بعدي الطوفان !!.

 

ثامر عباس

 

في المثقف اليوم