ترجمات أدبية

فكتور بيلفين: أرجوحة طرزان

3007 pelevinبقلم: فكتور بيلفين

ترجمة: صالح الرزوق


 كان الشارع العريض والبيوت الواقفة على طرفيه مثل الفك السفلي لبلشفي عجوز تقدم بالعمر، وعاش حتى عاش في ظل الديمقراطية. كانت البيوت القديمة من العهد الستاليني - عالية على شاكلة ضرس العقل الذي يغطيه القلح، نتاج عدد طويل من السنوات المتتالية وتدخين تبغ رديء وخشن. هذه البيوت، رغم كل حسناتها تبدو ميتة ومستسلمة، ويمكن القول إنها فقدت عاطفتها بسبب محتوياتها السامة. والأماكن التي تعرضت فيها بيوت العهد السابق للهدم كانت تحمل الآن بقايا ناتئة ومضرة بالبصر تخلفت عن تكديس شقق من ثماني طوابق. باختصار هي مشهد كئيب. والبقعة المضيئة الوحيدة التي تعاند هذه الخلفيات المزعجة هي مركز تجاري بناه الأتراك، وقد جعله شكله الهرمي مع أضواء النيون البراقة يشبه نابا ذهبيا عملاقا تغطيه نقاط من دماء طازجة. وفي السماء كان القمر المنير مشرقا وساطعا ويشبه ضوء طبيب أسنان مرفوع فوق حامل طويل يلقي كل نوره على فم المريض.

سأل بيوتر بيتروفتش وهو ينظر لزميله الصامت:”بمن تثق، بمن تثق؟ أنا حاليا رجل بسيط، وربما مغفل. سطحي وساذج. كما تعلم أصدق كل شيء أقرأه في الصحف”.

رد صديقه بصوت منخفض:”الصحيفة؟”. وعدل من وضع القبعة السوداء التي تغطي رأسه.

قال بيوتر بيتروفتش:”نعم. الصحيفة. أي صحيفة. ولا يهم اسمها. أكون على متن قطار الأنفاق، وأجد بجانبي رجلا جالسا ويقرأ، فأميل قليلا، وأسترق النظر، وفورا أومن بما أقرأ”.

“تؤمن بما تقرأ؟”.

“نعم. مهما كان. ربما باستثناء الإيمان بالله. تأخر الوقت لأومن بالرب. وإن آمنت به فجأة سيبدو الأمر كأنه نفاق. طوال عمري أنكرت الله، وحينما اقتربت من الخمسين بدأت أشعر به على نحو من الأنحاء؟. من أجل أي هدف أنا أعيش إذا؟. ولكن وجدت الحل بالإيمان بـ “هيربا لايف”* (*شركة منتجات غذائية) أو بالسلطات المختصة”.

سأله زميله:”لماذا؟”.

فكر بيوتر بتروفتش:”يا له من ذل. إنه لا يتكلم لكنه ينق. لماذا أنا صريح ومنفتح معه؟. حتى أنني لا أعرفه”.   وتابعا المسير بصمت لبعض الوقت، أحدهما وراء الآخر، بخطوات خفيفة، وأحد اليدين تتحسس الجدار طوال الوقت. أخيرا قال بيوتر بتروفيتش:”سأخبرك لماذا. كما لو هناك شيء يحتفظ بك على متن الحافلة. ولا يهم ما هو ما دمت لا أسقط منها. هذا يشبه قول الشاعر: - أن تتابع التقدم في الليل البهيم، تنظر بأمل من ثقب أسود في النافذة -. وها أنت، ربما تنظر لي وتقدح زناد أفكارك وتقول: أنت رومنسي ضمنيا وقلبيا، هل أنت كذلك يا صاحبي، حتى لو أن هذا لا يبدو عليك بوضوح في الظاهر - حسنا، أنت منهم، أليس كذلك؟”.  

اختفى شريكه في أول منعطف وغاب عن بصره. وشعر بيوتر بتروفيتش أن أحدا قاطعه في منتصف عبارة هامة، فأسرع ليلحق به. وحينما أصبح الأحدب الأسود في مجال نظره مجددا، شعر بالطمأنينة وفكر دون أي سبب أن القبعة المدببة جعلت منظر شريكه شبيها بكنيسة محترقة.

همهم الأسود بهدوء:”كم أنت رومنسي رقيق يا صاحبي”.

واعترض بيوتر بيتروفتش بحرارة:”أنا لست رومنسيا. بالحقيقة يمكن أن تصفني بصفة معاكسة تماما. أنا رجل عملي جدا. لا أهتم إلا بالعمل. ونادرا ما أتذكر لماذا أنا أعيش. بالتأكيد ليس من أجل هذا العمل، اللعنة عليه - ليس من أجله، ولكن هكذا”.

“هكذا؟”.“ربما هكذا يمكنني أن أخرج في المساء وأتنفس الهواء بعمق وأشعر أنني جزء من الكون، ورقة أعشاب مغمورة بالإسمنت، يمكنك أن تقول ذلك - ومن المؤسف أنني لا أرى الجوهر الفعلي في هذه الأيام. ربما بسبب ذلك هناك”. 

رفع يده وأشار للقمر الهائل الملتهب في السماء، ثم أدرك أن شريكه يمشي أمامه ولا يمكنه رؤية إشاراته. ولكن لا بد أن لدى شريكه شيئا ما مثل عين في خلف رأسه، لأنه قلد إشارة بيوتر بتروفيتش بنفس الوقت تقريبا، ومد ذراعه بنفس الطريقة تماما.

قال بيوتر بتروفيتش:”في وقت مثل هذا أسأل نفسي ماذا أفعل في كل ما تبقى من وقت في حياتي. ولماذا نادرا ما أشاهد كل شيء بنفس الطريقة إذا؟. ولماذا أتمسك بنفس الخيار، وأجلس في غرفتي وأنظر بأحلك الزوايا؟”.

ومنحت بيوتر بتروفيتش هذه الدقة المبالغ بها في كلماته الأخيرة طمأنية مريرة. ولكنه تعثر، فلوح بذراعيه فوق رأسه في الفراغ، وغاب موضوع الحوار من رأسه. احتفظ بتوازنه بطريقة القرد حينما يدور حول نفسه، واستند على الجدار بيد واحدة، بينما طرقت يده الأخرى زجاج نافذة قريبة منه وربما كسرته. من الجهة المقابلة للنافذة توجد غرفة صغيرة يضيئها النور الأحمر الذي نستعمله ليلا. ولذلك كانت تبدو كأنها شقة اجتماعات - فالأثاث يتضمن ثلاجة، ونصف سرير مخبأ بخزانة، ولا يمكن رؤية النائم باستثناء الساقين العاريتين الرفيعتين. حدق بيوتر بتروفيتش بالجدار الذي يعلو الضوء الليلي، والمغطى بعدد كبير من الصور. بينها صور عائلية، صور أطفال ويافعين ورجال مسنين، وعجائز، وكلاب. وفي المنتصف تماما صورة لحفل تخرج من أحد المعاهد، ويحيط بالوجوه أشكال إهليلجية بيض، لتبدو اللوحة كلها مثل علبة بيض مقسومة نصفين. نظر بيوتر بيتروفيتش لأحد النصفين، وشاهد في الشكل البيضاوي رجلا يبتسم له. لكنه كان بوجه أصفر بسبب مرور الوقت. كانت كل الصور قديمة، وتنشر رائحة قوية تدل على حياة منتهية، فشعر بيوتر بيتروفتش بالغثيان. وفورا ابتعد عن المكان وتابع مسيره.

قال بعد عدة خطوات:”نعم، نعم. أعلم ماذا تريد أن تقول: من الأفضل أن تلزم الهدوء. بالضبط. هذا درس نتعلمه من الحياة. ببساطة نحن نفقد القدرة على رؤية أي شيء آخر يدور حولنا باستثناء صور الماضي المجلل بالغبار المعلق بالفضاء. نحن ننظر إليها بعمق وتركيز. ثم نتساءل لماذا تحول العالم المحيط بنا إلى كومة نفايات. ولاحقا حينما يسطع القمر، تفهم فجأة أن العالم غير ملوم، بل أنت من تبدل، ولا تعلم متى ولا لماذا”.

خيم الصمت. وتأثر بيوتر بيتروفيتش كثيرا بما شاهد في الغرفة، ولا سيما الوجوه المصفرة المتخثرة. واستغل الظلام وعدم ملاحظة أحد له، ومد لسانه من فمه وقطب وجهه حتى جحظت عيناه، وتحول وجهه لما يشبه قناعا إفريقيا - وأنقذه هذا التصرف للحظات قليلة من ملله المفاجئ. وتلاشت الرغبة بالكلام فورا - والأسوأ من ذلك، كان الأمر كما لو أن الحوار الطويل أضاءه فقط النور الأحمر الخامد الصادر عن المصباح الليلي، وبدا أنه غبي ولا ضرورة له. نظر بيوتر بيتروفيتش لزميله، معتقدا أنه محروم من الذكاء وبمقتبل شبابه.

قال بنبرة بالغة التهذيب:”لا أفهم تماما عما نتكلم الآن”.

لم يرد شريكه. اقترح بيوتر بيتروفيتش:”ربما من الأفضل أن نلزم الهدوء لبعض الوقت؟”.

همهم زميله:”لنلتزم الصمت”.

2

كلما ابتعد بيوتر بيتروفيتش وشريكه، كلما زاد جمال وغموض العالم المحيط بهما. لم يكن هناك حاجة للكلام مطلقا. وكان الطريق الضيق تحت أقدامهما يلمع بضوء القمر. والجدار الذي لا يكف عن تبديل لونه رسم أحيانا خيال كتفيهما، أحيانا الكتف الأيسر، وكانت النوافذ التي يمرون بقربها معتمة، تماما مثل النوافذ التي ورد ذكرها في قصيدة بيوتر بتروفيتش. وفي بعض الأوقات كان عليهما الصعود على سفح التلال، وفي أوقات أخرى العكس تماما. الهبوط على السفوح. وباتفاق غير مكتوب كانا يتوقفان فجأة وينتظران بالمكان لفترة طويلة، وعيونهما تنظر لمنظر رائع. كانت الأضواء البعيدة، على وجه الخصوص، جميلة تماما. وفي عدة أوقات توقفا لينظرا لتلك المشاهد، وفي كل مرة تطول النظرات، عشر دقائق أو أكثر. وكان بيوتر بتروفيتش يفكر بأمور غامضة، تقريبا لا يمكن التعبير عنها بالكلمات. ولم يكن يبدو أن للأضواء أي علاقة خاصة بالكائنات البشرية، بل هي جزء من الطبيعة - إما تعود لمرحلة من مراحل تعفن جذور الأشجار، أو لنجوم سقطت من السماء. بكل الحالات كان الليل قاتما حقا، وقد حددت البقع الصفر والحمر، التي تنطبع على الأفق، لحد ما أبعاد العالم المحيط بهما - ولولاها لن يجدا طريقة لمعرفة اتجاه تطور الحياة، أو إن كانت الحياة موجودة أصلا. وفي كل مرة كان يخرج من أفكاره لدى سماع صوت خطوات شريكه. وكلما تابع شريكه التقدم على الطريق، يستيقظ بيوتر بتروفيتش من تأملاته ويسرع خلفه. وحالا ينسى الصور التي رآها من النافذة، ويتناقص وزن قلبه وتغمره السعادة، ولكن الصمت يقلقه. فكر بيوتر بتروفيتش:”هناك شيء آخر. أنا لا أعرف اسمه. يجب أن أسأل”. وانتظر لحظة ثم سأله بتهذيب:” هممم. جاءت بذهني فكرة. نحن معا، نمشي كل هذا الوقت ونتبادل الكلام، ولكن لم يقدم أحدنا نفسه للآخر”.

لم يرد زميله.

قال بيوتر بتروفيتش بنبرة مصالحة حينما مر وقت كاف ليتأكد أنه لن يحصل على إجابة:”ولكن طبعا، ما هو الاسم. إنه. مجرد صوت لا معنى له - بالنهاية إن كانت المعرفة متبادلة بين اثنين، لن يكون هناك شيء لتتكلما عنه. وستواصل التساؤل كيف يفكر بك، وماذا يقول عنك. ولكن إن كنت لا تعرف مع من تتكلم، يمكنك أن تقول أي شيء. الفرامل لا تعمل. كم مضى علينا ونحن نثرثر، حوالي ساعتين، أليس كذلك؟. وانظر، أنا من أحرك لساني كل الوقت. لكن بالعادة أميل للصمت، والآن أشعر كأن السد انهار. وربما لا أبدو بناظريك ذكيا، مع ذلك أنا أصغي لنفسي كل الوقت، ولا سيما قرب التماثيل، هل تذكر؟. حينما كنت أتكلم عن الحب - وحينما أصغي لنفسي تصيبني الدهشة. هل حقا أنا خبير بالحياة كل هذا القدر؟”.

رفع بيوتر بتروفيتش وجهه نحو النجوم وتنهد بعمق، وبدا أن وجهه مغطى بخيال جناح غير مرئي يأتي من ابتسامة غير واقعية طارت من قربهما. وفجأة لمح حركة غير محسوسة تقريبا على يساره، واهتزت ثم خمدت.

نادى زميله همسا:”هيي. توقف. اهدأ. أنت تخيفه. أعتقد أنه قط - نعم، هو هناك. هل تراه؟”.

استدار بقبعته نحو اليسار، ولكن رغم كل جهوده فشل بيوتر بتروفيتش مجددا ولم يشاهد وجه رفيقه الذي نظر كما يبدو بالاتجاه الخاطئ.

همس بيوتر بتروفيتش بيأس:”هناك. انظر. حيث توجد القارورة؟. نصف ياردة نحو اليسار، لا يزال يحرك ذيله. لنعد حتى ثلاثة. استدر لليسار. وأنا سأذهب لليمين. مثل المرة الماضية”.

هز زميله كتفيه بلا اهتمام، ثم أومأ مضطرا.

عد بيوتر بتروفيتش:” واحد. اثنان. ثلاثة”. وألقى ساقيه فوق الحاجز الحديدي المنخفض الذي يلتمع ببلادة في ضوء القمر. وتبعه زميله مباشرة، وانطلقا للأمام. والله يعلم كم مرة شعر بيوتر بتروفيتش بالسعادة في تلك الليلة. والآن غمرته السعادة أيضا، وهو يركض تحت السماء السوداء، حرا من كل الحسابات ومصادر العذاب، واختفت فجأة كل المشاكل التي حولت حياته لجحيم قبل يوم أو يومين، وحتى لو رغب أن يتذكرها لن يجد شيئا في منها في ذهنه. عبرت ثلاثة ظلال على سطح أسود تحت قدميه - أحدها داكن وقصير، وألقاه القمر، والآخران، غير ثابتين ولا منتظمين، ورسمتهما منابع ضوء مختلفة، ربما كانت تنسكب من النوافذ. وحينما ذهب بيوتر بتروفيتش يسارا زميله يعدو يمينا. وحينما أصبح القط بينهما في مكان ما، التفت نحوه وأسرع من خطواته. أما الشخص المعتمر بقبعة سوداء فقد قام فورا بمناورة مماثلة - وأصبحت حركاتهما متزامنة جدا وشعر بيوتر بتروفيتش بخبطة من شيء غامض معلق، ولكن لم يكن لديه وقت للاهتمام به. كان القط يجلس بنفس المكان، وهذا شيء غريب، لأنهما بالعادة لا يسمحان لأحد بالاقتراب لهذه الدرجة. مثلا آخر قط، القط الذي طارداه قبل أربعين دقيقة، حتى ابتعد عن التماثيل، لم يسمح لهما بالاقتراب لمسافة عشر ياردات. وشعر بيوتر بتروفيتش بخدعة ما، فأبطأ بمشيه. ثم توقف عن التقدم تماما. واحتفظ بمسافة تقدر بعدة خطوات من القط. وكرر شريكه كل حركاته وتوقف بمكانه تقريبا بنفس اللحظة، على مبعدة ثلاث ياردات. ومن هذه المسافة، تبين لبيوتر بتروفيتش أن ما حسبه قطا، هو في الحقيقة حقيبة بلاستيكية رمادية لها يد ممزقة وكانت تتأرجح مع الريح - وهو ما خيل له خطأ أنه ذنب. ووقف شريك بيوتر بتروفيتش بمواجهته، ولكن بقي وجهه الحقيقي مخفيا - فالقمر كان يسكب نوره في عيني بيوتر بتروفيتش، وكل ما تمكن من رؤيته هو الخيال المدبب الداكن المألوف. مال بيوتر بتروفيتش للأمام (وانحنى شريكه للأسفل بنفس اللحظة، وتقريبا ارتطم رأساهما) وجر الحقيبة من زاويتها (أما شريكه فقد جر الزاوية المقابلة). وتأرجحت الحقيبة بينهما، وسقط منها شيء طري وتكوم على الإسفلت. وكان عبارة عن جثة قطة ميتة نصف متعفنة. قال بيوتر بتروفيتش وهو يلتفت بعيدا:”إع. يا لها من نفايات متعفنة. كان علينا أن نخمن”.

وردد شريكه:”كان علينا أن نخمن”.

قال بيوتر بتروفيتش:”دعنا نبتعد”. وأسرع باتجاه الحدود القصديرية المحيطة بالحقل المسود.

3

تابعا المشي صامتين لعدة دقائق. وكان الظهر الداكن يتأرجح أمام وجه بيوتر بتروفيتش مجددا. والآن فقط أمكنه أن يتأكد أنه ظهره، وليس صدره. وليساعده بتجميع أفكاره، أغلق عينيه بنصف إغماضة ونظر للأسفل. وكل ما شاهده مجرد خط من الفضة يمتد تحت قدميه. وهدأه مرآه ونومه مغناطيسيا لحد ما. وبالتدريج غمر وعيه وضوح غير تام، وبدأت أفكاره تتسارع في ذهنه تلقائيا - أو على الأرجح، كانت فكرة منفردة متكررة عن الزمن الماضي الذي اعتدى عليه وأحكم قبضته على خناقه.

وتساءل بيوتر بتروفيتش:”لماذا يكرر دائما حركاتي؟. وكل شيء يقوله هو صدى لآخر عبارة نطقت بها. هو يتصرف بالضبط مثل خيال منعكس. ولكن حولنا الكثير من النوافذ!. ربما هو مجرد وهم بصري، ولأنني منفعل قليلا، يبدو لي أنه يوجد اثنان منا؟. في النهاية العديد من الأمور التي آمن الناس بها في بعض الأوقات يمكن تفسيرها بالوهم البصري. وتقريبا هذا ينطبق على كل شيء في الحقيقة”. وأسعدت هذه الفكرة على نحو غير متوقع بيوتر بتروفيتش وعززته بالثقة. وفكر سرا:” إنه ضياء القمر. انعكاس الضوء من نافذة على أخرى بالإضافة لتلك الرائحة الزهرية المعطرة - ويجب أن لا ننسى أننا الآن في تموز - الزهور يمكنها أن تخلق هذا التأثير. كلامه هو مجرد صدى بسيط، صدى ساكن وهادئ. وطبعا هذا يفسر كل شيء!. هو دائما يكررالكلمات التي نطقت بها للتو”. 

ألقى بيوتر بتروفيتش نظرة على قفا الشخص الذي يتأرجح بانتظام أمامه.  وتابع سيل أفكاره:”أضف لذلك أنني قرأت بعدة أماكن إن ضغط عليك شخص أو أحرجك بطريقة من الطرق، لن يكون على الأغلب شخصا منفصلا عنك، ولكن هذا تجريد نفسي. وحينما تهدأ بمكانك أو تقوم بتكرار أي شيء، مثلا أفعال متشابهة ليس لها معنى محدد كالمشي أو التفكير، فإن انعكاس خيالك يبدو دائما مثل تصرف مستقل. يمكن أن يكون في البداية مثل خطوة صغيرة، ولكنك لا تلاحظ. ويمكنه أن يقوم بحركات لا تعرف عنها شيئا - وطبعا شريطة أنها ليست أشياء جوهرية. وفي النهاية يمكنه أن يتمرد عليك فعلا وتعتقد أنه شيء موجود حقا، ثم ينقلب ضدك. وكما أتذكر توجد طريقة واحدة فقط للتأكد إن كان انعكاسا لخيال أم لا - عليك أن تقوم بحركة فجائية وغير غامضة أبدا، وهكذا يكررها الخيال بوضوح تام، لأنها لا تزال انعكاسا وعليه أن يطيع قوانين الطبيعة، أو على الأقل بعضها. هكذا ببساطة. يجب أن أحول انتباهه بالكلام ثم أقوم بشيء فجائي وغير متوقع وألاحظ ما يجري. يمكنني أن أتطرق لأي شيء، ما دمت لم أفكر به مسبقا”.

نظف حنجرته وقال: “شيء جيد أن تحتفظ بشفتيك مطبقتين. الاستماع فن. وأن تدفع الآخرين لكشف أنفسهم بمتابعة الكلام... يقال: الصامتون هم أفضل الأصدقاء. هل تعلم بماذا أفكر الآن؟”.

وانتظر بيوتر بتروفيتش لحظة ليسمع الرد. ولكن لم يطرق سمعه شيء، فتابع يقول:”عن أسباب حبي لليالي الصيف كثيرا. طبعا لأنها سوداء وهادئة. جميل. ولكن ليس هذا هو أفضل ما فيها. أحيانا يبدو لي أن جزءا من روحي نام فترة طويلة واستيقظ لعدة ثوان في ليالي الصيف ليتأكد كيف تتطور الأشياء بعد تبدل المكان والوقت - السماء الزرقاء المعتمة.. مع النجوم... يعني الإبهام”.

4

وسريعا أصبح من المؤكد أن متابعة المشي احتمال صعب. فقد وجدا بعد الانعطاف حول زاوية أخرى، أنهما في الجانب المعتم، حيث القمر يختفي وراء بيت مرتفع أمامهما. وغمر بيوتر بتروفيتش فورا التعب والتردد. وتابع الحديث، مع أن لفظ الكلمات أصبح متعبا. وبدا أن شريكه يعاني من نفس المشكلة أيضا، لأنه امتنع عن المشاركة حتى بالردود الموجزة - وكان أحيانا يهمهم بكلام غير مفهوم. وأصبحت خطواتهما أقصر وتبعث على مزيد من الحذر. وبين وقت وآخر كان شريكه الذي يتقدمه يتوقف ليتأكد من الاتجاه - كان هو من يتخذ القرار، وكل ما توجب على بيوتر بتروفيتش أن يتبعه. سقط مثلث مشرق من ضوء القمر على جدار أمامهما، بعد أن مر من بين فجوة تفصل بيتين في الطرف الآخر. رفع بيوتر بتروفيتش عينيه مجددا عن الطريق الفضي الباهت الذي كان تحت قدميه، وشاهد في ضوء المثلث قطعة غليظة من سلك كهربائي تتدلى على الجدار. ووضع ذهنه فورا خطة بدت له طبيعية تماما، ومرحة. وفكر:”آها. هذا ما يمكنني القيام به. بوسعي القبض على ذلك الشيء ووضع قدمي على الجدار ثم جره بعيدا عنه. لو أنه خيال أو ظل حقا، لا بد أن يكشف نفسه. وعليه أن يحذو حذوي ولكن باتجاه معاكس. هذا مؤكد - لماذا لم أفكر بذلك من قبل؟. يمكنني أن أعبئه كساعة، لو تأرجحت بقوة. ولو أن هذا اللعين مجرد انعكاس لخيال...”.

ولم يستكمل بيوتر بتروفيتش التخطيط لبقية الأمر، ولكن كان من الواضح أن هذا الأسلوب يمكنه من نفي أو تأكيد الشبهات التي تعذبه. وفكر:”أهم شيء بالموضوع هو المفاجأة. يجب أن أباغته”. قال وهو يبدل موضوع الحوار الذي أصبح وراءهما وبالتدريج:”على كل حال المياه تجري بطريقها، ولكن المدهش أنه حتى في المدينة يمكنك التقرب من عالم الطبيعة، وعليك أن تبعد نفسك قليلا عن التعقيدات. طبعا ليس من المحتمل أن نحسن تدبير الأمر - فنحن محافظون جدا. إنما أؤكد لك أن الأولاد يقومون بذلك يوميا..”.

وتوقف بيوتر بتروفيتش ليمنح شريكه فرصة ليقول شيئا، ولكن مجددا لزم الصمت، فتابع بيوتر بتروفيتش كلامه:” أنا أقصد لهوهم. طبعا هم غالبا فوضويون ومشاكسون، وأحيانا يتركون عند الانطباع أنهم ينبعون من النفايات وأنهم أبناء المجاعة ويكبرون ويتطورون في هذه الأيام. مع ذلك أعتقد أن المجاعة ليس لها علاقة. هذا ليس لأنهم لا يمتلكون ثمن دراجات نارية أو زلاقات. مثلا هم مغرمون بما يسمى أرجوحة طرزان. هل سمعت بها؟”.

دمدم زميله:”سمعت بها”.

تابع بيوتر بتروفيتش كلامه قائلا:”هي حبل مربوط بشجرة، بغصن قوي، كلما كان أعلى أفضل”. ونظر للمثلث المضيء من نور القمر وفكر إنهما بحاجة لأقل من دقيقة ليصلا إليه. ثم أردف:”وبالأخص إذا كانت الشجرة على أطراف منحدر خطر. أهم شيء أن يكون منحدرا شديدا. على أطراف الماء، ثم يمكنك أن تغطس. أما طرزان فهو شخص. يوجد فيلم بهذا العنوان، وفيه ينفق شاب اسمه طرزان كل وقته وهو يتأرجح بحبال أشجار الليانا. شيء بسيط. تمسك بالحبل، وتندفع بقدميك، وتتأرجح لمسافة طويلة، بقوس واسع، وإن أحببت يمكن أن تفلته وتقفز إلى الأمام برأسك أولا ثم تسقط بالماء. بصدق لم أجرب من قبل أرجوحة طرزان بهذه الطريقة، ولكن بسهولة أتصور تأثير تلك اللحظة المدهشة وأنا أرتطم بالسطح، ثم أغوص ببطء في صمت وسلام رائعين - آه، فقط لو أعلم أين يطير أولئك الأولاد باستعمال أرجوحاتهم الخاصة”. 

دخل شريكه في الفضاء المغمور بضوء القمر. واجتاز بيوتر بتروفيتش حدود دائرة الضوء وراءه. وتابع بهوس وهو يقيس بعينيه المسافة التي تفصله عن السلك يقول:”هل تعلم لماذا بإمكاني تخيله؟. لسبب بسيط. أتذكر كيف في إحدى المرات في طفولتي قفزت في بركة للسباحة من أعلى برج مرتفع. طبعا ألحقت الضرر ببطني في الماء، ولكن في تلك اللحظة تلقيت درسا هاما - هاما جدا وذلك حينما صعدت للسطح كررت سرا وعدة مرات عبارة: ’ لا تنس، لا تنس’. وحينما خرحت من الماء، لم أكن أتذكر غير تلك الكلمات ’ لا تنس’”.

 في هذه اللحظة أصبح بيوتر بتروفيتش أمام السلك. مد يده وتمسك به ليتأكد أنه مربوط بإحكام. وقال وهو يستعد للقفز وبصوت هادئ وصادق:”حتى الآن أهوى القفز بطريقة من الطرق. طبعا هذا غباء وشيء غير نافع ولكنني أشعر أنه بمقدوري تحقيق شيء أو تذكر شيء. فلننطلق بعد إذنك”.

قال بيوتر بتروفيتش ذلك وقام بعدة خطوات سريعة، واندفع بقوة، وطار في الفضاء الحار المعتم. ولم يستمر طيرانه (لو أمكننا أن نسميه كذلك) إلا لغمضة عين. تأرجح مبتعدا عن الجدار مسافة يارد أو اثنين. والتف حول نفسه وهو يندفع قدما، وارتطم بالجدار قرب شريكه الذي قفز للخلف خائفا. فقد بيوتر بتروفيتش توازنه وتوجب عليه أن يمسكه من كتفيه، وبالتأكيد أكد له ذلك بوضوح أنه ليس انعكاسا أو ظلا. كان الأمر كله غريبا، وتخلله الكثير من اللهاث والطبطبات. ونجم من شريك بيوتر بتروفيتش بعد الصدمة ردة فعل عصبية جدا: تخلص من يد بيوتر بتروفيتش. وكانت على كتفه. ابتعد للوراء. وتخلى عن غطاء رأسه وصاح بحنق:” ماذا فعلت برأيك؟”.

قال بيوتر بتروفيتش وهو يشعر أنه يحمر:” آسف جدا. لم أقصد ذلك..” - وأسعده أن الليل حالك.

وقاطعه شريكه بقوله:”هل تذكر ماذا قلت. إنك هادئ وسلس، وأنك غير عنيف، وأنك ببساطة وحيد ولا يوجد لديك من تكلمه؟. هل هذا ما أخبرتني به بالضبط؟”.

همس بيوتر بتروفيتش وهو يخفض وجهه ويستره بين يديه:”نعم. قلت ذلك. لا يمكنني أن أنسى. ولكن تملكتني أفكار غريبة، أنك لست أنت حقا، ولكنك انعكاس لظلي على النوافذ أو أنك خيالي. شيء غريب أليس كذلك؟”.قال شريكه:”لا أعتقد أن هذا مضحك. الآن على الأقل تذكرت من أكون”.

قال بيوتر بتروفيتش وهو يقوم بحركات غريبة برأسه:”نعم”. كان يحني رأسه أو يدفنه بين كتفيه.

“شكرا لك يا رب. ولذلك قررت أن تدفعني لأقفز لتتأكد إن كنت خيالا، أليس كذلك؟. واختلقت قصة عن أرجوحة طرزان لتشتت انتباهي”.

صاح بيوتر بتروفيتش، وهو يبتعد بإحدى يديه عن السللك الكهربائي ويضغط بها على صدره:”لا. طبعا لا. يمكن أن تقول في البداية كنت أحاول أن أشتت انتباهك، ولكن في البداية فقط. إنما ما أن شرعت بالكلام ركزت على أشياء كانت تزعزع حياتي كلها. أشياء أشعر بها من أعماق قلبي”.

قال شريكه:”أنت تقول أشياء مبهمة. بدأت أشك بسلامة عقلك. فكر بذلك فقط - تسير معي لساعتين، وتبادلني الكلام، ثم تفكر بجدية أن الشخص الذي برفقتك هو انعكاس خيالك. هل تعتقد أن هذا النوع من التفكير يخطر بذهن إنسان طبيعي؟”.

وفكر بيوتر بتروفيتش بالموضوع. وقال:” كلااااا. لا يمكن. ويبدو بالظاهر حماقة. خيال متكلم، يسير وظهره أمامك - أرجوحة طرزان... لكنك تعلم، أن هذا يبدو لي منطقيا لو أخبرتك بتسلسل أفكاري، لن تشعر بالدهشة أبدا”.

نظر إلى الأعلى. كان القمر على السطح المقابل مختبئا وراء سحابة طويلة ذات أطراف مدببة. ولسبب ما فسر ذلك على أنه إشارة شؤم. وأردف يقول:”نعم. إذا حللت دوافع ما تحت الشعور المتحكمة بتصرفاتي، يبدو كما لو أني ببساطة أبحث عن لحظة من لحظات المجد..”.

قاطعه شريكه بصوت أعلى:”أستطيع أن أفهم الظل. ولكن الشيء الغريب هو الهراء عن أرجوحة طرزان. حول الإقلاع بالهواء واستنتاج شيء أو آخر منه. ماذا كنت تعني بالضبط؟”.

نظر بيوتر بتروفيتش إلى عيني شريكه ثم نقل نظرته فورا إلى رأسه الحليق. وقال:”كيف أعبر لك؟. لا أرتاح للغة الحقائق التافهة”.

سأله شريكه وهو يعتمر بقبعته مجددا:”أي حقيقة؟. عنك، عن الناس، عن العالم؟. لدينا أنواع متعددة من الحقائق”.

فكر بيوتر بتروفيتش بذلك. وقال:”أفترض عني. أو بالأحرى عن الحياة. عن نفسي في هذه الحياة. طبعا”.

سأله زميله:”تريد أن أخبرك عن هذا إذا؟”.

قال له بيوتر بتروفيتش بعدائية مفاجئة:”إن كان لديك علم بها، تفضل”.

سأله زميله بعدائية مماثلة وهو يشير للجهة التي جاءا منها:”ألا تخشى أن تكون هذه الحقيقة غير ذات نفع لك كأنها جثة قطة ميتة”.

قال بيوتر بتروفيتش لنفسه:”هو يعني ضمنا شيئا ما. يسخر مني. يطبق علي ضغطا نفسيا. ولكنه سيرى أنني لست كما يتصور. ولكن ما غايته من هذه السادية؟. كل ما فعلته أنني دفعته من كتفه. واعتذرت لاحقا”.

قال وهو يشد من كتفيه وينظر بتركيز لعيني زميله:”كلا. لست خائفا. فلنتابع”.

“حسنا. هل كلمة ’أبله” تعني لك شيئا؟”.

“أبله؟. ماذا، الذين لا ينامون ليلا ويتسكعون أمام بوابات الأبنية؟ أنا أعلم... آه يا إلهي!”.

5

أشرق ذهنه بطريقة تشبه القفز في ماء بارد وهو ما حاول بيوتر بتروفيتش أن يحذر منه زميله المتكبر- وهذا ليس فقط لأنه انتبه كيف يكون الليل القارس البرودة. نظر بيوتر بتروفيتش لقدميه ولاحظ أن الطريق الضيق الفضي الذي كان يتبعه لفترة طويلة هو في الواقع زخرفة بالقصدير وقد انحنى بشدة تحت وزنه.

سأل زميله:”حسنا؟”.

نظر إليه بيوتر بتروفيتش - بحذر، ولم يشاهد الهوة تحت قدميه للحظة من الوقت.

قال بهدوء ولكن بإلحاح:”توقف. من فضلك توقف. سأسقط”.

رد زميله بتنهيدة:”كيف يمكنني أن أتوقف؟ هذا يحدث لك وليس لي”.

وأدرك بيوتر بتروفيتش أن زميله محق، ولكن بعد لحظة أدرك شيئا آخر، شيئا غمره بالخجل. وصاح وهو مقتنع بما يقول:”هذه عنجهية وشذوذ. يمكنك أن تفعل ذلك بأي إنسان. تخبره أنه أبله يتمختر على أطراف فراغ لا يراه!. على إفريز... لماذا، مضت لحظة وأنت... والآن...”.

أومأ شريكه برأسه وقال:”هذا صحيح. ليس لديك فكرة كم أحسنت بالتعبير”.

“لماذا تفعل ذلك بي؟”.

“لا يمكنني أن أخبرك بما تريد. أولا امتلأ رأسك بشيء، ثم بشيء آخر. والآن أنت تفكر إلى أين يمكن أن تطير باستعمال أرجوحة طرزان. بصراحة هذا شيء مؤثر حقا. ثم أنت تريد الاستماع للحقيقة. وبالمناسبة إنها ليست الحقيقة النهائية”.

“إذا ماذايجب أن أفعل الآن؟”.

“أنت؟. لا ضرورة لتفعل أي شيء. ستتطور الأمور تلقائيا”. قال شريكه، ولاحظ بيوتر بتروفيتش فجأة أنه لا يقبض على أي شيء وهو يقف على ما يشبه زاوية”.

همس بيوتر بتروفيتش:”هل تسخر مني؟”.

“أبدا”. قال بيوتر بتروفيتش بصوت مهزوز:”أيها الوقح. أنت مجرم. لقد قتلتني. ها أنا أسقط”.

قال شريكه:”لقد بدأنا. إهانة، وحقد. الشيء التالي أن تهاجمني مجددا أو تبصق علي، كما يفعل غيرك. سأنصرف”.

واستدار وبدأ بتمهل بالابتعاد. صاح بيوتر بتروفيتش:”هيي!. هيي. انتظر. من فضلك”.

ولكن زميله لم يتوقف - ولوح يده بوداع فاتر وبيد باهتة تبزغ من كم عباءته أو معطفه. وبعد عدة خطوات قليلة انعطف من حول الزاوية واختفى. أغلق بيوتر بتروفيتش عينيه مجددا وضغط بجبهته المبلولة على الجدار.

6

وفكر:”حسنا. هذا كل شيء. هذه هي النهاية الآن. أنا انتهيت. طوال حياتي كنت أتساءل كيف ستكون. وها هي النتيجة أمامك. سأتأرجح قليلا، وأرمي ذراعي بالهواء، و- تماسك يا بيوتر تماسك - أتساءل إن كنت سأرفع صوتي وأصيح؟. تماسك الآن يا بيوتر - لا تفكر بذلك. فكر بأي شيء آخر، لكن ليس هذا. من فضلك. أهم شيء أن تحتفظ بهدوئك، مهما كانت الأحوال. الخوف يعني الموت. تذكر شيئا يسعدك ويسرك. ولكن ماذا يوجد هناك لتتذكر؟. ماذا أسعدك اليوم، على سبيل المثال؟. باستثناء الحوار قرب التماثيل، حينما كنت أكلم الشاب ذا الرأس الحليق عن الحب. آه يا إلهي. ها أنا أتذكره مجددا الآن. يا لي من أحمق. لماذا لم أتابع المشي، والاستمتاع بالحياة وما يحيط بي من مشاهد. ولكن لا، يجب أن أتساءل عن هويته، وهل هو خيال أو انعكاس ظل. لقد كسبت ما استحق. هذا مقابل قراءة كل أنواع النفايات. ولكن حقا من هو؟. اللعنة، أتذكر ذلك الآن. كلا. لم أتذكر. بل هو من أخبرني بلسانه - من أين جاء؟”. فتح بيوتر بتروفيتش عينيه لدقيقة عابرة وشاهد أن الجدار المجاور لوجهه أصفر وساطع - وقد أشرق القمر من وراء الغيوم. غيوم. وهذا ما جعله يشعر أنه أفضل قليلا. وفكر:”حسنا. أين قابلته؟. قبل التماثيل، هذا مؤكد. حينما برزت التماثيل، كان موجودا تقريبا. وطاردنا أول هرة أمام التماثيل أيضا. هذا مؤكد، لم يرغب بذلك في البداية، مهما حاولت إقناعه. ثم بدأت أكلمه عن الطبيعة، والحب - أعلم أنه يجب أن لا أفعل: وأن أتكتم على هذه الأشياء حتى لا أتلقى إهانات من أحد - كيف عبر الإنجيل عنها - ’لا تعرض ما لديم من لآلئ على خنازير، لأنهم سيدوسون عليها’. أليس كذلك؟. يا لها من حياة!. حتى لو أحببت شيئا، ربما بالطريقة التي يشع بها القمر على التماثيل، يجب أن تكتفي بالنظر إليها بهدوء. يجب أن تلزم الصمت كل الوقت، ولو فتحت فمك ستندم. شيء غريب، حسنا. أدركت ذلك قبيل وقت طويل، ولكن كنت أعاني بسبب طبيعتي البسيطة. أنتظر كل الوقت ليكيلوا لي الإهانات - وهذا، يا له من خنزير ضار - خنزير حقيقي، خنزير، خنزير. لقد أخبرني أن كل شيء سيتحسن. يا له من إنسان واضح - اللعنة عليه بكل حال، ها أنا أفكر به لساعة من الوقت، مع أن القمر قد يغيب في أية لحظة. إنه لا يستحق هذا العناء مني!”.

التفت بيوتر بتروفيتش وابتعد عن الجدار، ونظر إلى الأعلى، وابتسم بضعف بالغ. كان القمر يشع من فراغ مستدير غير منتظم تخلل سحابة، ولذلك ظهر كأنه خيال منعكس في فجوة في نهر متجلد متخيل وغير موجود فعلا. وكانت المدينة في الأسفل هادئة، والهواء ساكنا ومشحونا بعبير خفيف ينتشر من البراعم النباتية التي لا يعرف أسماءها. ومن نافذة بعيدة بدأ “ستنغ” يغني بنبرة غليظة كأنه قرصان - فعلا نبرة عالية جدا بالنسبة للتوقيت. فقد كان الليل مخيما. كانت الأغنية هي “القمر فوق شارع بوربون”. أغنية يتذكرها بيوتر بتروفيتش بقلب يحن لأيام صباه. ونسي كل شيء. وتفرغ للإصغاء. وفي نقطة ما طرفت عيناه بسرعة وهو يتذكر شيئا كان طي النسيان منذ عهد بعيد. وبالتدريج تناسى ألمه وشعوره بالضرر والسقوط. وبمرور كل لحظة كانت صدفة تعرفه على زميله تبدو أقل أهمية، حتى لم يعد يفهم أخيرا لماذا كان مضطربا من ذلك قبل دقائق قليلة.

وعندما خفت صوت “ستنغ” أبعد بيوتر بتروفيتش يده عن الجدار ولوح بأصابعه في وقت تزامن مع الكلمات الإنكليزية اليائسة، بإشارة وداع:

ولن تري وجهي أبدا

أو تسمعي صوت خطواتي

حينما يكون القمر ساطعا على شارع بوربون.

توقفت الأغنية أخيرا. وتنهد بيوتر بتروفيتش وهز رأسه ليجمع أفكاره. استدار إلى الوراء، ودار حول المنعطف، وقفز برشاقة مقدار ياردين، وهناك كان المشي أيسر. كان الليل صامتا مثل لغز وكان رقيقا، ولم يشعر بالرغبة في الابتعاد عنه، وكان صباحه التالي حافلا. ويجب أن ينام قليلا على الأقل. نظر حوله لمرة أخيرة، ثم نظر إلى الأعلى لفترة وجيزة، وابتسم، ثم تابع ببطء على امتداد الشريط البراق الفضي، وكانت النسمات تلفح وجهه كما لو أنه يقبلّها، وفكر كم هو بشكل أساسي إنسان سعيد.

 ***

............................

* الترجمة عن الروسية: أندرو برومفيلد - من المجموعة القصصية “مشكلة مستذئب في وسط روسيا وقصص أخرى” الصادرة عن دار الاتجاهات الحديثة في نيويورك عام 1998.

فكتور بيليفين  Victor Pelevin روائي وقاص روسي. من مواليد موسكو عام 1962. 

 

في نصوص اليوم