ترجمات أدبية

ميلاني ماركيز أدامز: لون البحيرات

3073 Melanie Márquez Adamsبقلم: ميلاني ماركيز أدامز

ترجمة: صالح الرزوق


 دون أي علامة تدل على الدهشة وبطريقة روتينية سألتني: “ما اسمك الحقيقي؟”. كانت تتحرى عن اسمي غير الزائف.

أجبت بصوت يشوبه الخوف: ”لم أفهم مغزى السؤال”. حينما كنت في الجامعة كانت القوانين تتجدد باستمرار لضبط النشاط الجامعي على الأرض الأمريكية.

ابتسمت. وظهر صف من الأسنان الحليبية في فمها والتي غطى عليها لونها الأبيض الشبيه بلون مصاص دماء. ثم قالت:”خلاصة الموضوع.. أن الطلاب الأجانب ينتقون بالعادة اسما أمريكيا لأنه.. حسنا، كما تعلمين، الأسماء الحقيقية يصعب لفظها”. ابتسمت بالمثل. لم تكن هذه أول مرة لي أقابل فيها شخصا لا يترك لديك انطباعا أنه يشبه ميلاني. ولن تكون آخر مرة.

قلت: “معك حق. هذا تفسير معقول”. وأومأت بالموافقة، ربما بكثير من التعاطف. وتابعت:”لكن في حالتي هذا هو اسمي الفعلي”. وأشرت للبطاقة الموشكة على السقوط من باب غرفة النوم: وكانت عاصفة من الفراشات الزرق تحيط بالاسم المكتوب.

قالت: “بالواقع حينما كنت شابة، لم يكن بعض الشباب في بلدي يعرفون كيف يلفظون اسمي”.

غطت فمها بيمناها وهي تضحك وقالت:”آه. غريب. حقا”. واهتز كتفاها، وأضافت ذقنها المدببة لمسة شريرة على مظهرها. حينما كنت أدور في أرجاء مطبخك الضيق، منهكة القوى، والجوع ينهش مني بعد الحصة المسائية، غادرت سيندي غرفة نومها وهي جاهزة لتقديم الكعك والحلوى، وهذه أشياء ضرورية وتوجد دائما في طبق من البلاستيك يشكل مركز حياتنا. سألتني كل أنواع الأسئلة عن بلدي الأصلي. وكانت تريد أن تعلم كل شيء عن الطقس والطعام والموسيقا. وكانت تريد أن تسمع أخبار الناس الذين يعيشون في تلك الزاوية من العالم. كيف هو شكلهم. ماذا يفعلون. “لا بد أن الحياة أكثر مدعاة للإثارة هناك”. وكان بريق عينيها وأنا أكلمها عن الإكوادور مثل ما تراه لدى طفل يكتشف للتو سلسلة أفلام كرتونية بالتلفزيون.

لم تغادر سيندي بلدها أبدا. ولم تبتعد لمسافة تزيد على الولايات المجاورة لتينيسي. وكان افتتانها بالغرباء قد بدأ في مدرسة ريفية صغيرة، وهناك زاملت الطلاب أعضاء بعثات التبادل سواء هم من إفريقيا أو آسيا. وتعلقت بهم منذ تلك الفترة. وكلما تكلمت عن أولاد البعثات، يغطي عينيها الضباب، وتسبح غيوم على صفحة وجهها كما تطير الغيوم في السماء الزرقاء. وقد تأثرت في أول مرة بهذه التعابير التي تدل على الألم الواضح وسألتها هل توفي أحدهم لا سمح الله. مسحت الزوايا الداخلية لعينيها بأصابع وردية وقالت:”لا. لم يحصل. ينتابني الحزن فعلا كلما تكلمت عنهم. فهم طيبون جدا”.

وذكرتني بفتاة صغيرة شاهدتها في فيلم في إحدى المناسبات، وهي تبكي بشدة بسبب جراء صغيرة ووسيمة أرادت أن تحتفظ بها. ولكن للأسف أبعدوها عنها بعد فترة قصيرة، حينما بدأت تشعر نحوها بغرام حقيقي.

لم أكن قد قابلت الكثير من الناس، ولذلك أنفقت معظم وقتي مع سيندي. كنا نذهب للتسوق في المجمع الوحيد في المدينة أو في وولمارت. وأحيانا نتجول بالسيارة دون اتجاه، ونتحرى الجبال بحثا عن منطقة مناسبة للتسلق. في مساء ربيعي بارد تمشينا تحت ظل الصنوبريات والقيقب المتشابكة حولنا مثل أصدقاء. وأطربني قفزات السناجب في كل مكان، وسألت سيندي أن تتخيل أننا وسط مسرحية سحرية: السناجب الصاخبة تتحول إلى إغوانا طويلة وجميلة وتستلقي في الشمس عوضا عن أن تركض حولنا مثل المجانين.  وقلت لها: “هل يمكن أن تتخيليها يا سندي؟”. هزت رأسها وتوقعت أنها تتخيل ذلك بتفاصيله. تابعت:”حسنا. أنت الآن في مدينتي: غواياكويل”. واتسعت حدقتاها بشكل بالون أزرق منفوخ. لم يكن من السهل أن أترك تأثيرا بواسطة الحكايات على أحد.

دعتني إلى الكنيسة يوم الأربعاء. قلت لها دون أي اعتبار لدواعي التهذيب: إنني لا أستطيع تحمل الطقوس ما عدا يوم الأحد. وأضفت: حسنا. ليس كل يوم أحد. بل أحيانا. وامتنعت عن إخبارها بمخاوف بسيطة تنتابني: أنني أفكر حينما أكون في الكنيسة الإصلاحية بمعجنات التوت البري والكعك المحشو بالجيلي، وأتخيل أنه في داخل تجويفها الطري أجهزة إنذار، الغاية منها الكشف عن الكاثوليك الدخلاء. وفي الدقيقة التي أدخل بها من الباب، تنطلق صفارة إنذار، ويضيء بوجهي ضوء مبهر، وسرعان ما يأتي قس من المقصورة ليرافقني لخارج البناء. وما أن نصبح في الخارج يخبرني أن صورتي - وروحي المتلهفة، لن ينعما بالجنة أبدا.

وتصر قائلة:”ولكن الليلة الكنيسة محجوزة للجامعة. ولن تعقد أية طقوس. وستشعرين بالمرح والتسلية”. لم أكن أعتقد أن الكنيسة تبعث في الإنسان المرح، ومع ذلك لم أتمكن من أن أقول لها كلا، وعلنيا، أمام وجهها الحزين والرقيق الشبيه بوجوه القطط الصغيرة. تقدمنا عبر مدرج واسع، مليء بالمراهقين بأعمار عشرين عاما تقريبا. وكان على الخشبة، شابان ليسا أكبر بالعمر من المشاهدين، ويعاركان كل أنواع الأدوات والأسلاك. وقبل أن أسأل هل نحن في الكنيسة أم في مسرح موسيقا، خيم الظلام علينا: واشتعلت أضواء النيون على الخشبة واندلعت أصوات موسيقا عالية ورنات غيتار كهربائي. ارتفعت الأيدي وأغمضت الأعين، وكانت سيندي تتمايل ببطء على نغمات معزوفة “كيف هو يحبنا”. كانت النغمات آسرة والكلمات بسيطة وتقول: أستسلم للأصوات الشابة المبتهجة. والمغمورة بروح مسكرة، وخصري يتراقص بمرح وسعادة.

كنا نلتقي على الغداء يوميا تقريبا في مركز الطلبة، ونملأ الصواني بأطعمة جنوبية مشبعة بالدهون لم يكن يتوجب علي تناولها ونحن ندور حول الطاولات بحثا عن طلبة أجانب وسيمين. من بين الموجودين، سرق قلب سيندي شاب بعينه - ببشرة زيتونية وشعر أسود، ونعم، عينين سوداوين أيضا!.

وقبيل عطلة الربيع فاجأتها. تكلمت مع الوسيم الأسمر الذي أغرمت به في غرفة المحادثة بالإنكليزية. كان اسمه خافير وهو من المكسيك.

غردت تقول:”كنت أعلم أنه لاتيني. يجب أن أقابله لو سمحت”. كان يبدو أنها متلبكة ولا تعرف كيف تقرر ماذا تفعل بيديها. ودخلت في سلسلة طويلة من الكلام وخلالها عقدت يديها وأخفت بهما وجهها وأخبرتني كيف أنها كانت دائما تريد صديقا لاتينيا. سألتها بفضول وتحير:”لماذا يا سيندي؟”.

عضت شفتها الرقيقة وقالت: ”هم مثيرون للغاية ورومانتيكيون”. وصمتت تفكر ماذا تقول لاحقا. ثم أضافت: ”لا يوجد تفسير لذلك. لا أعلم السبب بالضبط... الشباب البيض مضجرون!. أريد شيئا مختلفا، هل تفهمينني؟. أبحث عن عاطفة!”. ولمعت الموجات الفيروزية في عينين ممتلئيتين بالاحتمالات.  وحينما كنت أتلصص على صورها المنشورة في الفيس بوك بعد سبع سنوات، لاحظت أن سيندي مخطوبة لشاب هو نسخة من أخيها. وأفترض أن فانتازيا الصديق اللاتيني لم تجد نهايتها السعيدة. وكذلك صداقتنا. فقد أنهكتها الاحتكاكات نتيجة الاشتراك بشقة واحدة. وربما هو الفارق بالعمر أو ربما أن بعض الصداقات يجب أن تنتهي مع آخر يوم دوام في المدرسة.

غالبا كنت أفكر بتلك الأيام البسيطة التي أنفقتها برفقة سيندي، ونحن نتجول بين الجبال والغابات لاكتشاف محيطنا الجديد. وأعتقد أنها أخبرت أصدقاءها عن صديق أجنبي شاركته المسكن: صديق جاء من مكان غريب وبعيد. كانت عيناها تلمعان بلون البحيرات التي تسكن بين هذه التلال الهادئة التي لا أسميها بلدي. ثم خيم عليهما لون ذهبي متورد مثل مغيب الشمس: من جراء ذكرياتنا عن السناجب والغوانا والأصدقاء اللاتينيين.

***

 

............................

ميلاني ماركيز أدامز Melanie Márquez Adams كاتبة أمريكية من الإكوادور.

 

 

في نصوص اليوم