ترجمات أدبية

بورا شونغ: الأصبع المتجمدة

4132 بورا شانغبقلم: بورا شونغ

ترجمة: صالح الرزوق

***

فتحت عينيها. ظلام. لوحة سوداء. كما لو أن شخصا ما وضع نقابا أسود سميكا على عينيها. لم تلاحظ أي نقطة نور يمكن رؤيتها. هل أصابها العمى؟. حاولت أن ترفع يدها أمام وجهها. كان يبدو أن هناك شيئا باهتا. ولكن لا شيء يمكن أن تؤكده بوضوح. بعد عدة محاولات لحق بها القنوط. كانت العتمة كثيفة جدا بكل بساطة. أية ساعة من اليوم تكون بهذا اللون الحالك؟. وفي أي مكان من العالم؟؟..

مدت ذراعها وتحسست الهواء. شيء مستدير. صلب. مقود سيارة. زلقت يدها وراء المقود. الشعالة. لا تزال مفاتيحها موجودة. أدارت المفاتيح. لم يتم شيء. المحرك ميت. تمسكت يدها اليسرى بالطرف الأيسر من المقود. قبضت على شيء يشبه عصا قاسية. جرتها للأسفل. كان يجب على السهم الأيسر في اللوحة أن يشتعل. لكنها لم تشاهد الضوء. ضغطت عليها. لا إضاءة. تحسست بيدها العصا حتى بلغت طرفها. وأشعلت الضوء الأمامي. وطبعا لم تشتعل المصابيح. ماذا جرى؟. حاولت أن تتذكر. لكن ذاكرتها كانت مظلمة كالمشهد الذي أمامها.

"-ستاذة".

صوت نسائي رقيق وخافت. نظرت للأعلى. ناداها الصوت مجددا.

"أستاذة".

مدت رأسها نحو الصوت، وشحذت أذنيها بمحاولة لتحديد مصدره. لكن الصوت كان رفيعا ولم يتضح مصدره.

"أستاذة لي".

ردت: "نعم؟". لم تتبين مصدر الصوت، ولا المتكلمة- وهل الصوت يناديها فعلا. ولكن صوت شخص آخر في العتمة يجلب لك الراحة. ووجدت نفسها ترد قبل أن تتمالك نفسها.

"هل أنت هناك؟. من أنت؟. أنا هنا".

كان الصوت يأتي من يسارها. قال: "هل أنت على ما يرام يا أستاذة لي؟. هل مسك سوء يا أستاذة لي؟".

حاولت رفع ذراعيها ومد ساقيها. لم تشعر بالألم. قالت: "كلا".

تابع الصوت الرقيق من جهة اليسار يقول: "إذا اخرجي من السيارة بسرعة".

"لماذا؟ ماذا حصل؟ أين أنا؟".

شرح لها الصوت الرقيق بصبر يقول: "نحن في مستنقع والسيارة تغرق شيئا فشيئا. أعتقد من الأفضل لك الخروج من هناك".

حاولت النهوض. ولكن حزام الأمان قيد حركة جذعها. تحسست الحزام حتى وسطها، وضغطت على القفل وحررته. استدارت لليسار وبحثت عن مقبض الباب. هناك كان لوح زجاج النافذة. كانت تغوص للأسفل.

"أسرعي يا أستاذة".

يد الباب. جرته. لم يتحرك الباب. دفعته.

"أسمعي يا أستاذة لي".

"الباب لا ينفتح".

لم تكن تعلم كيف تتصرف.

أخبرها الصوت الخافت قائلا: "إنه مغلق من الداخل. يجب أن تحرري القفل".

تلمست البقعة المحيطة بيد الباب مجددا، وتمكنت من إيجاد نتوءات الأزرار. ضغطت عليها. الواحد بعد الآخر. بعد الزر الثالث، سمعت صوتا. واهتز الباب قليلا ودخل تيار رحبت به كأنه المخلص نفسه. جرت يد الباب ثانية. وبدأ الباب ينفتح بالتدريج. ولكن شيئا ما أعاقه.

قالت وهي تدفعه بكتفها: "الباب لا ينفتح على سعته".

قال الصوت الهامس من يمينها: "هذا لأن السيارة غاصت بالوحل. اسمحي لي بمساعدتك".

أصبع شخص ما احتكت بيدها التي تدفع الباب. وانفتح الباب قليلا.

قال الصوت الباهت: "بسرعة. اخرجي من الشق".

امتثلت لتعليمات الصوت، فمدت ساقها اليسرى من السيارة أولا قبل أن تتذكر فجأة شيئا.قالت: "انتظري.. انتظري لحظة".

وقبعت في المقعد و حاولت أن تفتش تحت المقود. كان الشيء الطويل الذي على يمينها هو علبة السرعة، والشيء العريض على يسارها هو الفرامل. مدت يمناها في الفراغ تحت المبدلات. وتحسست البساط الخشن و الطين الذي يلوثه. لكن لم تجد علامة تدلها على الشيء الذي تريده،

قال الصوت الرقيق بعصبية: "ماذا تفعلين؟ عليك الخروج من هناك فورا".

"انتظري وحسب...".

مدت يدها لمسافة أبعد تحت المقعد، وتحسست قضيب فولاذ رقيق وطويل. ربما هو العتلة التي تضبط مقعد السائق، وتحركه للأمام والخلف. تحسست الأرض تحتها. مجددا لم تجد غير البساط والوحل، مع قليل من الغبار. شعرت بساقها اليسرى، التي مدتها إلى خارج السيارة، وببطء بدأت تنهض. ولكن باب السيارة ضاق عليها، وضغط على تلك الساق. صاح الصوت: "أسرعي يا أستاذة لي. لا أعلم عم تبحثين، ولكن عليك أن تتركيه وتغادري".

"لكن،، لكن". ولم تجد القدرة على الاعتراف بما في ذهنها.

"لكن ماذا؟. عم تتكلمين؟".

قالت بصوت بارد: "شيء بالغ الأهمية..".

ولمست يسراها بيمناها. لم تجد الخاتم على أصبع الخاتم الأيسر. وتلمست بيديها مقعد السائق حيث كانت تجلس، ثم المقعد المجاور.

سألها الصوت الرقيق ثانية: "ما هو هذا الشيء الهام جدا، ماذا عساه يكون؟".

قبضت بيسراها على إطار السيارة، ومدت يمناها بقدر ما تستطيع تحت المقعد المجاور.

قالت: "خاتم".

ولم تتمكن يدها من الوصول إلى المقعد الآخر. وكل ما أمكنها هو القبض على عتلة المقعد والمكابح. وتدبرت أمرها لتمد ذراعها إلى الأمام قليلا. ولم يكن هناك أحد في المقعد المجاور. ربما بسبب وضعها الغريب، ولم تصل يدها إلى ما تحت المقعد الآخر. لمست الأصبع السابقة يسراها مجددا.

"هل هذا هو ما تتكلمين عنه؟".

شيء صغير ومستدير وصلب لامس جلدها. زلقته أصابع شخص ما في يسراها. جلست وتحسست يسارها بيمينها. لا زال من المستحيل أن ترى، ولكن اللمسة الناعمة والصلابة غير المريحة إلى حد ما ضغطت على أصابعها بطريقة مألوفة،

سأل الصوت الرقيق: "هل هذا هو؟".

"نعم. كيف أمكن -"

قال الصوت الرقيق بإلحاح: "إنه هو،صحيح؟. اخرجي بسرعة. الوضع خطير".

دفعت بيمينها الباب الذي ينغلق ببطء. وبصعوبة حاولت أن تضغط بيسراها على الباب بغاية الخروج.

نبهها الصوت الرقيق: "احذري. الأرض في الخارج غير متماسكة".

حطت قدمها اليسرى على الأرض مع صوت خبطة خفيفة. دفعت باب السيارة بيسراها وإطار الباب بيمناها، وغادرت السيارة ببطء. ومع كل خطوة، كانت قدماها تغوصان في الأرض. وكان من العسير أن تحتفظ بتوازنها. وحينما أوشكت على السقوط، تمسكت الأصبع المتجمدة بيسراها.

"حاذري. خطوة بعد خطوة. وببطء".

ومثلما وجهها الصوت، تقدمت بخطوات محاذرة ومتتالية، وتابعت نحو الأمام، لتبتعد عن السيارة.

وفجأة توقفت.

سألها الصوت: "ما المشكلة؟".

"هل سمعت... شيئا؟".

سألها الصوت مجددا: "أسمع ماذا؟".

"صوت شخص... أعتقد أن هناك شخصا ما".

صمت الصوت الرقيق، كأنه يصغي. ثم قال: "مخطئة، لا أحد هنا سوانا".

أصاخت السمع مجددا. كان الصوت سطحيا. بعيدا إلى حد ما، أو أنه لصق أذنها، مثل صوت بشري، أو صفير الريح...

وضاع الصوت في المسافات البعيدة.

"متأكدة من وجود شخص ما -".

قال الصوت بإصرار: "لا يوجد أحد عدانا. إذا اعتقدت أنك سمعت شيئا، فهو حيوان مفترس".

وتمسكت الأصبع بيسراها وضغطت عليها. قال الصوت: "أعتقد.. علينا أن نسرع بالهرب من هنا".

كان الصوت خائفا.

تسرب الخوف من بين أصابعها إلى يدها. وانتشر من ذراعها إلى قلبها. دون كلام، باشرت بالمشي. كانت قدماها تغوصان أحيانا في أرض غير متماسكة، وتعرضها تقريبا للسقوط.

وكلما تعرضت لذلك كانت الأصابع التي تقبض على يسراها بقوة تضغط وتؤلم، وتثبتها وتساعدها على استعادة توازنها. ولم تكن هناك طريقة لتعرف أين هما ذاهبتان. ولا تحديد أين هما. ولكن الصوت الرقيق كان يرتعش بالخوف الذي تشعر به، والأصابع التي تقبض على يسراها كانت تبدو موثوقة. وهكذا قررت أن تطبع الصوت والأصابع وهي تسير برعايتها في أرض سوداء تغوص فيها الأقدام، باتجاه المجهول.

قال الصوت مؤكدا: "آه، ابتداء من هنا الأرض أقسى".

في تلك اللحظة، حطت قدمها اليسرى على أرض صلبة. ثم تبعتها بقدمها اليمنى.

قال الصوت مبتهجا: "المشي أصبح أسهل".

اقترحت تقول: "ما رأيك باستراحة؟". فقد أتعبها المشي الذي لا ينتهي في مساحة تغوص فيها قدامها. ولحق الإرهاق بجسمها وروحها.

لم تنتظر الرد. وجلست على الطريق. وجلست صاحبة الصوت بقربها. لم تكن تراها. ولكن شعرت بها وهي تجلس.

سأل الصوت الرقيق باحتراس: "ذلك الخاتم. لا بد أنه يهمك جدا؟".

تحسست الشيء المستدير والقاسي والصقيل الذي أحاط بأصبع من يدها اليسرى.

قالت: "حسنا.. نعم".

سأل الصوت الرقيق مجددا. باحتراس أيضا: "هل هو.. يهمك فعلا؟".

"حسنا... أعني".

وتابعت تلمس أصبع الخاتم بيدها.

يد كبيرة ودافئة، وذكريات تلك اليد وهي تلتف حول يدها، ووجه مألوف كان يسرها رؤيته، ويمنحها متعة عميقة، وكثير من الفرح..

شيء من ذلك النوع. شيء هام وثمين مثل...

ولكن كلما حاولت أن تتذكر هذه الذكريات تبتعد عنها، وكأنها آخر شعاع من شمس تغرب، ثم تختفي ولا تخلف وراءها غير ما تبقى منها من حرارة دافئة. والشيء الوحيد الذي ترسب في ذهنها أن من بحكمها ويحاصرها منذ أول لحظة فتحت فيها عينيها هو: الظلام. التزمت بالصمت. واعتذر منها الصوت الرقيق.

قال: "متأسفة لم أقصد التطفل..."

"حسنا. لا بأس".

وبدأت تشعر بوجود خطأ ما.

قالت: "المشكلة أنني.. لا أتذكر شيئا... ذهني مظلم جدا...".

قال الصوت الرقيق بقلق: "آه، لا. هل تأذيت؟".

"لكنني لست مريضة".

"فلنتأكد".

وشعرت بالأصابع وهي تلمس جبينها وجمجمتها.

سأل الصوت الرقيق: "هل هذا يؤلمك؟".

"لا".

ضغطت الأصابع على صدغيها. قال: "وماذا عن هنا؟".

"لا بأس...".

تنهد الصوت قليلا وقال: "آه، لا. علينا أن نسرع بالذهاب إلى مستشفى بأسرع ما يمكن".

لمست رأسها ووجهها. لم يكن يظهر أن هناك أي جرح، ولم تنتبه لوجود نزبف. هناك كانت العتمة فقط وقد تغلغلت في عقلها.

قالت بعد أن تحسست وجهها ورأسها قليلا: "إم... اعذريني. أين.. أين نحن؟. وماذا جرى لنا".

قال الصوت بدهشة: "آه، يا إلهي، ألا تذكرين؟".

ردت بوضوح: "لا شيء".

"كنا عند المعلمة شوي في حفلة بيت زوجها الجديد - وتورطنا بحادث في طريق العودة.. ألا تذكرين ذلك حقا؟".

"لا".

لا شيء. هي لا تذكر شيئا. قلبت محتويات عقلها رأسا على عقب، بحثا عن أي بارقة نور، وكل ما توصلت إليه هو الظلام ومزيد من الظلام.

بدا أن الصوت الرقيق غير واثق من نفسه. قال: "أوه، المعلمة. ثم أنت.. هل تذكرين من أنا، بربك أخبريني".

ترددت. وأرادت أن تقول بأعلى صوتها "لا أذكر".

أصبح الصوت الرقيق رزينا كما لو أنه فقد زخمه وقال: "آه يا إلهي. ماذا علينا أن نفعل.. أنا المعلمة كيم... في الصف المجاور لصفك، السنة السادسة.. الشعبة 2.. ألا تذكرينني؟".

"لا أذكر". وفكرت: إذا كلمة "معلمة" تعني معلمة في المدرسة الابتدائية.

وألح الصوت الرقيق يقول: "درست المعلمة شوي الصف الخامس معنا، ثم تخلت عنه وتزوجت.. ورافقت زوجها وسافرت من سيؤول. ودعيت لحفلة المسكن الجديد، وأتيت.. ألا تذكرين ذلك؟".

"لست واثقة".

"هذا أمر خطير. علينا أن ننهض". ولمست الأصابع يسراها مجددا. وكما هو الحال في السابق، كانت قبضتها متينة.

"ماذا؟" قالت ووقفت على قدميها دون تفكير. وأكد الصوت الرقيق قائلا: "يا استاذة لي، أعتقد أن إصابتك أخطر مما نظن. علينا أن لا نضيع الوقت - يجب أن نتابع ونجد مستشفى".

"أوه".

"هل أنت متعبة؟".

"ماذا؟ أوه، لا، ليس-".

"فلنتابع إذا". لمست الأصابع بحذر يسراها. وسارت وراءها.

وهي تمشي، سألت: "كيف تورطنا بهذه الحادثة؟".

تنهد الصوت الرقيق. قال: "لا أعلم... شربت كثيرا، ولهذا السبب استلمت المقود".

"آه". وسد إحساسها بالذنب فمها لبعض الوقت. وبعد وقفة قصيرة، سألت مجددا: "إذا.. تلك السيارة. هل هي لك يا أستاذة كيم؟".

لم يرد الصوت. شعرت بالخيبة. وأمسكت عن التساؤل. ولكن بعد المشي بصمت لدقيقة إضافية، لم تتمكن من متابعة أسئلتها. قالت: "اين. اين يمكن أن نكون الآن باعتقادك؟".

"حسنا..". شعر الصوت أنه غير جاهز للرد.

أصرت: "في بيت الأستاذة شوي، ولكن أين بالضبط؟. هل هو قريب من هنا؟".

"حسنا، الموضوع هو، أنني لا أعرف تماما.. فقد غفوت بمجرد أن غادرنا...".

وبهت رد الصوت.

وفكرت قليلا. وسألت: "هل معك هاتف؟".

لم يرد الصوت لبعض الوقت ثم قال: "هاتف؟. كلا. هل معك أنت هاتف يا أستاذة لي؟".

"ولا أنا".

سأل الصوت: "ألم تجديه و أنت تبحثين عن الخاتم؟".

شعرت ببعض التردد، وأجابت: "لم يكن حينها يوجد شيء في المقعدين الأماميين. ماذا عن الهاتف؟".

"كان الجو مظلما ولا يساعد على النظر. ربما طار من النافذة". ولم يكن الصوت متأكدا.

توقف الحوار مجددا.

ولم تكن لديها فكرة عن المسافة التي تقدمتا بها منذ أن تركتا السيارة وراءهما.

 كانت العتمة شاملة. لا القمر مشرق ولا النجوم.

تساءلت: "كم علينا أن ننتظر لينبلج الفجر؟". سألت باهتمام: "إلى.. إلى أين بالضبط نحن ذاهبون؟". لم يرد الصوت.

وسألت مجددا: "هل أنت،،،، هل تعرفين إلى أين نتوجه؟".

لم يتكلم الصوت طوال دقيقة. ثم قالت عوضا عن الاجابة: "أشعر بالأسف على الأستاذة شوي".

قالت بدهشة: "عفوا؟".

دمدم الصوت الرقيق كأن الكلام غير موجه إليها قائلا: "سعدت جدا بزواجها، كأنها امتلكت كل العالم، ثم وقع الطلاق بظرف عام، وتخلت عن عملها في المدرسة...".

انتظرت. ولكن الصوت لم يواصل. فسألت مجددا: "إم... عن ماذا تتحدثين؟".

دمدم الصوت الرقيق أيضا يقول: "ليست غلطتها أن يكون لزوجها علاقة غرامية، هل تعتقدين أن هذا ظلم؟. يقولون دائما على المعلمين أن يكونوا مثالا يحتذى، ولكنها امرأة، في النهاية. امرأة مطلقة، وهذا...".

"عن ماذا تتكلمين.. ألم تذكري للتو أن الأستاذة شوي حديثة الزواج؟".

ضحك الصوت الرقيق ضحكة رقيقة. وقال: "أعتقد ذلك، لو اتفقنا أنها تزوجت منذ عام مضى.."

"ولكن للتو قلت إن الأستاذة شوي تزوجت منذ وهلة، وكنا في حفلة التهنئة".

بصبر أوضح الصوت الرقيق: "آه يا أستاذة شوي. لا بد أنك طرقت رأسك بقوة. الأستاذة شوي حصلت على الطلاق، وتعيش في الريف، وكنا نزورها في بيتها الجديد، للمواساة والمؤانسة".

بعد دقيقة من الصمت عاد الصوت الرقيق يدمدم قائلا: "حياة العزلة حولتها إلى مستهترة، بسبب هذا الشراب و...".

وتلعثمت تضيف: "لكن، لكن..".

وقال الصوت الرقيق: "هل فعلا لا تتذكرين شيئا؟". ثم همهم: "يا إلهي، يجب نقلك إلى المستشفى بسرعة".

دفعتها هذه الكلمات لإغلاق فمها. ولم تتبادلا المزيد من الكلام وهما تتابعان المشي. حدقت بالسماء وهي تمشي. كانت معتمة جدا لدرجة منعتها من الاعتقاد أن ما تراه هي السماء فعلا. وفكرت إنها لم تواجه هذه العتمات الشديدة قبل الآن في حياتها. لو أنها حقا تورطت بحادث سير، هذا يعني أنها كانت على الطريق، كيف إذا لا تلاحظ أي عمود إنارة؟. أين هي؟. وإلى أين تسير؟.

كان الصوت الرقيق أمامها وتكلم مجدد يقول: "يا للخزي يا أستاذة شوي..".

لم ترد.

"واصلت أمها النحيب، كانت شابة، فكيف تموت بهذه الطريقة المرعبة-".

قاطعت بحدة تقول: "عن ماذا تتكلمين؟".

تنهد الصوت الناعم وقال: "أنت رأيت ذلك يا أستاذة لي في الجنازة، حسنا، آه، قلت إنك لا تتذكرين".

سمعت نبرة ساخرة في نهاية جواب الصوت، وبقوة قالت: "لماذا تذكرين الجنازة؟. كنت تتكلمين عن سهرة أنس سابقا".

تلعثم الصوت الرقيق يقول: "لا بد أنك ضربت رأسك. أفهم العلاقة الطيبة مع شخص ما لفترة طويلة، ولكن أن تقتلي نفسك بسبب الغرام... كانت شابة جدا، يا للعائلة المسكينة".

قالت وهي تحاول أن بكون صوتها المرتعش مفهوما: "ألست.. ألم تقولي إن أستاذة شوي تزوجت. وأن لزوجها علاقة غرامية، وحصلت على الطلاق، ألم تقولي ذلك؟".

تنفس الصوت الرقيق. ثم قال: "هووو، ماذا دفعك لهذا الكلام.. من المفروض أنك تعرفين الموضوع الآن بشكل أفضل".

"لكنك ذكرت ذلك سابقا. قلت كنا في حفلة الأستاذة شوي التي تزوجت حديثا، ثم أصبح الكلام عن غرفتها... قلت إنها تزوجت. ثم تكلمت على الطلاق".

"أنت تدورين حول نفسك يا أستاذة لي. هل تأذى رأسك كثيرا؟".

أغلقت فمها.

بعد صمت قصير دمدم الصوت الرقيق: "أستاذة شوي... يا لها من حكاية محزنة، ألست معي؟. مع أن نظاراتها ملونة باللون الوردي، انتبهت لعلاقة زوجها الملتهبة مع المعلمة في الصف المجاور. كل المدرسة عرفت ذلك، ولكنها كانت عنيدة بنفي الخبر، وبعد أن سرقت تلك المرأة زوجها، تخلت عن التعليم وأشعلت تكهنات عن قتل نفسها".

صمت الصوت الرقيق لفترة وجيزة.

انتظرت بصبر.

تابعت: "ثم انتحرت فعلا...".

ولم تكن متأكدة إذا كبت الصوت الرقيق نواحه أم ضحكه. وشعرت بألم مباغت استمر لحظة ورافقه يقين مؤكد يشبه شعورها بتمزق الصوت الرقيق.

وحفر الرعب قلبها. بحذر تنحت جانبا نحو اليمين. وتابع الصوت الرقيق من اليسار الدمدمة كما لو أنها غير موجودة.

قال: "الحياة حقا غير عادلة. الجميع يولدون بطريقة واحدة، لكن بعضهم يسرق الأزواج، وآخرون يجفون ويسقطون مثل علكة ممضوغة..".

لم ترد.

تابع الصوت الرقيق الكلام: "أليس هذا غريبا؟. اثنان في حادث سيارة واحد، ولكن أحدهما يعيش ويروي الحكاية، والآخر يموت من فوره".

لم تتمكن من كبت الرعشة التي انتابت صوتها وهي تقول: "وأنت؟ من تكونين؟".

تابع الصوت الرقيق دون قصد: "ألا تعتقدين أنه شيء غير عادل. تكونين وحيدة و أنت على قيد الحياة، ووحيدة أيضا بعد الموت؟".

شخرت وهي تقول: "أين هذا أنا؟. وماذا جرى لي؟".

قال الصوت الرقيق من جهة اليسار مزمجرا: "أنتم أيها البشر مضحكون جدا كما ترين. ألست معي؟. لأنهم يخافون يصغون لأصوات من الماضي دون أن ينتبهوا للحياة؟".

وبدأت تصيح قائلة: "من أنت؟. أ -أين نحن؟و إلى أين تقودينني؟".

وتابع الصوت الرقيق الزمجرة الخافتة قائلا: "نتبع صوتا غريبا في مكان غريب، فقط لأنه يبدو لطيفا...".

ولم تحتمل المزيد. وباشرت بالجري. وتابع الصوت الأزيز والدمدمة من خلفها قائلا: "لا تعرف من تكون، ولا إلى أين تذهب".

كانت تجري. ولم تكن تعلم إلى أين. ولكن شعرت ببعض الراحة بسبب ابتعاد الصوت عنها، ولذلك واصلت الجري دون أن تنظر.

وبدأت الأرض تحت قدميها تتجوف، وتعثرت للحظة. وبعد دقيقة من محاولة للتوازن استقرت، وملأ بصرها ضوء ساطع. فقدت عيناها الرؤية بسبب الاعتياد على الظلام، وغشيها النور المبهر. وجمدت في النور الفائض الذي أغرقها. ولوقت وجيز كانت ترى أمامها بوضوح - لاحظت نفسها تجلس في سيارة تترنح، وتتدحرج نحوها، وقسماتها جامدة من الرعب، كانت يداها تقبضان على المقود ومجموعة ثالثة من خمسة أصابع إضافية، غريبة وعابرة، كانت بين يديها الطبيعيتين وتمسك بالمقود.

ثم حل الظلام مجددا.

"...ستاذة".

الصوت أيضا. وحاولت أن تلتفت نحو مصدر الصوت. لكن رقبتها لم تتحرك.

"أستاذة لي".

"نعم؟".

سمعت صوتها يجيب الصوت الرقيق، وشعرت كأن كل جسمها يرتعد تحت السيارة. ولكن جسمها لم يتحرك. طبقة موحلة من الطين أو شيء يشبه الطين ولا يمكنها أن تعرفه على وجه اليقين، غلفها بدبق صلب ومثير للشك وثبتها من كاحليها وحتى فخذيها وبطنها، ثم زحف ببطء على سائر أنحاء جسمها.

وسمعت حوارا بعيدا،

"هل أنت هناك؟ من أنت؟ أنا هنا".

"أستاذة لي، هل أنت بخير؟".

حاولت ما أمكنها، لكن ذراعها الأيمن كان مسمرا تحت المقود.

وكانت على وشك أن تحرر يدها اليسرى. قبضت على الواقي. وحاولت أن تجر نفسها من تحت السيارة، ووضعت كل ثقلها على ذراعها الأيسر. وفجأة، لمست يسارها أصابع باردة. كورت قبضتها. ولكن كان الوقت قد فات. الأصابع الباردة استخلصت الخاتم المستدير والصلب والرقيق من يدها. وحاولت أن تعترض: "كلا...". زحف صوتها في حنجرتها.

وهمس الصوت الرقيق في أذنها يقول: "لقد تضررت جدا. يحب أن لا تتحركي. يا..أستا...ذة.. لي". وكانت تقرقر بنعومة وهي تبتعد عن أذنها.

"احذري. خطوة خطوة. ببطء".

كان هذا هو الصوت الرقيق ومن بعيد.

فتحت فمها. بكل قواها، وبكل الرعب والحنق واليأس الذي أغرق قلبها، بدأت تصيح.

وسمعت الصوت يسأل: "ما المشكلة؟".

"هل سمعت... شيئا؟".

سأل الصوت كرة أخرى: "أسمع ماذا؟".

"شخصا.. أعتقد هناك امرؤ ما..".

وسمعت بصعوبة خطوات ثقيلة تضرب الأرض الطرية. وابتعد الحوار بالتدريج. وغاصت السيارة. وسمعت صوت عظام تتكسر في مكان ما من جسمها. وجعلها الصوت على نحو غريب تفهم أنها لا تشعر بالألم. وكل ما تشعر به، هو الوزن الهائل للسيارة و هي تسحبها إلى الأسفل نحو هوة مجهولة.

***

............................

* الترجمة من الكورية أنتون هير Anton Hur

* بورا شونغ Bora Chung كاتبة من كوريا الجنوبية. والقصة من مجموعتها "الأرنب الملعون".

في نصوص اليوم