ترجمات أدبية

بورا شونغ: اللقاء

بقلم:  بورا شونغ

ترجمة:  صالح الرزوق

**

هذه قصة حبك.

لم يسألنا أحد، حينما كنا مغمورين، إن كنا نرغب بالحياة أم لا، وعليه توقعت أشياء كثيرة، ولكن لم أعرف ماذا كنت أريد..

كنت أجلس جنوب المنصة، وأحمل كوبا من نبيذ رخيص، من النوع الذي يباع في الشوارع في فصل الشتاء. والنبيذ المخمر هو شراب شتوي أوروبي محضر من نبيذ أحمر منقوع لفترة طويلة مع توابل مثل القرفة والقرنفل. كان الكحول يتبخر في الحرارة بشكل من الأشكال، ولكنه لا يغلي تماما، ولذلك يتبقى ما يكفي للتخمر بصعوبة. وشرب هذا العصير الساخن في برد قارس يصيب رأسي بالدوار قليلا.

سأل:  “Czy kogoś szukasz?”  هل تنتظرين أحدا؟.

استدرت برأسي. فابتسم لي. فتح ذراعيه. نهضت. تعانقنا. رحب بي مجددا بقبلة على خدي. بشكل غريب تنحيت. مهما بلغت بي درجة السرور حين رؤية أحدهم، لا أرتاح لتبادل التحية بقبلة.

قال:  “Mogę?” هل تسمحين لي؟. وأشار للمقعد المجاور.

ابتسمت ووافقت.

قال:  “ Czekałem na Ciebie . Wiedziałem, że będziesz". كنت أعلم أنك قادمة. وكنت بانتظارك.

*

قابلته لأول مرة في الماضي البعيد في الساحة. وصيف بولونيا حار وجاف - كنت أحمل شرابا باردا بيدي وأجلس في الظل، وكنت بغاية للتوتر والاضطراب، ورغبت بالهرب من حياتي، لبعض الوقت على الأقل.  كانت الساحة مزدحمة ولكن الأصوات التي تصلني بمعظمها تتكلم الإنكليزية أو الألمانية وليس البولونية. فالمدينة سياحية، وكان الحاضرون يجلسون تحت ظل تمثال في منتصف الساحة وغالبيتهم من الغرباء، وأنا واحدة منهم. ومثل بقية الغرباء جلست بجوار تمثال المدينة أمام مقهى، أنظر بالشمس التي ترفع حرارة أحجار الرصيف. ثم رأيت الرجل المسن، ولم ألاحظ شيئا خاصا به أول الأمر. مجددا جاء المزيد من الناس إلى الساحة، وكان الأجانب يلتقطون الصور التذكارية، ويشربون البيرة، ويتكلمون بالهواتف، ويتحادثون فيما ببنهم. يعيشون لحظتهم إن صح القول. بعضهم يتحرك ببطء، وبعضهم يسترخي، وآخرون يتجولون بنشاط وسرعة. وهناك من رافقه كلبه وآخرون برفقة أطفالهم.

ليس من السهل رؤية شخص يتصرف بطريقة غريبة في الزحام. ولكن السبب الأساسي لاهتمامي بالرجل المسن هو شيء واحد، أنه كان يمشي وهو يعرج. أمر آخر..  بالإضافة لهذا العرج كان يسير باندفاع مدهش. أما السبب الثالث لمتابعته أنه كان يمشي في جهة واحدة.

وأرى أنني مدينة لكم ببعض التفاصيل.

كانت الساحة تقريبا بهيئة مربع، وفي وسطها تمثال شاعر رومنسي من القرن التاسع عشر وهو مفخرة الأمة. وكانت الساحة بشكل مربع "تقريبا" بسبب وجود طرقات على جوانبها ولكن دون أزقة تتفرع من وسطها. ساحة أوروبية تقليدية، ومحيطها الشمالي - الطرف الذي ينظر له وجه الشاعر - عبارة عن صف من الحوانيت والمتاجر السياحية. ولكن في الغرب، وعلى مبعدة يسيرة من تمثال الشاعر، برج ساعة، أما في جنوب وشرق الساحة هناك مقاه صيفية وحانات ومطاعم.  جلست وظهري لتمثال الشاعر، ونظري مصوب نحو الجنوب. ظهر الرجل المسن على يساري واقترب من يميني. وكان يعرج بسرعة، وهكذا عبر الشارع الرئيسي واختفى في زقاق. وبعد خمس دقائق فقط، عاد للظهور على يساري بالضبط في المكان الذي أتى منه سابقا وتقدم نحو اليمين. وكان يعرج بتعجل طوال طريقه، وهو يسير بخط مستقيم ليعبر الشارع الرئيسي من جهة اليمين. حيث اختفى مجددا في زقاق. وعاود الظهور من يساري بعد أقل من خمس دقائق. كان فمه مطبقا بإحكام، ويعض قليلا على شفته السفلى، وعيناه مفتوحتان، ووجهه متجمد بتعابير يائسة، وكان يرمي ساقه المتعبة بجهد ودأب، وأصبح أمام عيني، وهو يمضي في طريقه من شرق إلى غرب الساحة، بخط مستقيم. كانت الساحة عريضة. واستغرق الشيخ خمس عشرة إلى عشرين دقيقة ليعبر طرفها الجنوبي بساقه المصابة ومشيته المتعثرة. ومنىالنفروض أن يستغرق مشواره على الأقل عشرين دقيقة ليبلغ الزقاق، حتى لو هناك طريق مختصر لم أنتبه له. ولكنه كان يختفي ثم يظهر بنفس المكان في غضون خمس دقائق فقط. وهو يعرج في طريقه بتلك السرعة العجيبة، وباتجاه واحد وبأشواط متكررة.

قال:  “Czy Ty też go widzisz?” هل ترينه أنت أيضا؟

التفت بدهشة بالغة. بدا الرجل عملاقا من مكان جلوسي وكان يقف وظهره للشمس.

سأل:  “Mogę?” هل يمكنني؟.

وأشار إلى كرسي بجواري. أشرت برأسي. بصدق كنت أركز على الرجل المسن، والآن جاء هذا الضخم، ومهما كانت الجهة التي أتى منها، كان غريبا بنظري ولم يسعني أن أجد لساني لأرد عليه. عموما جلس بقربي. لم نتبادل في الساعة التالية أي كلمة. وتابعنا مراقبة الشبخ. وعلى ما يبدو أن الشيخ لم يتعب وواصل المشاوير بنفس الاتجاه وهو يعرج. اكتشفت خلال جلوسي برفقة الرجل الطويل شيئا آخر يخص العجوز. كان الصيف بذروته ولكنه ارتدى سروالا أسود طويلا وبلوزة كاكية، ورغم حرارة الشمس التي تصب لعناتها علينا لم يشعر بالتعب أو الحر. ولم ألاحظ من مكاني إن كان يتعرق، ولكنه لم يحرك ساكنا ليمسح عرقه. ومهما ركزت النظر لم أعلم بوجهته ولا كيف يعود لنقطة الانطلاق بهذه السرعة.

قال للرجل المجاور لي:  “Przypomina mi o dziadku". 

نظرت إليه. قال مجددا بالإنكليزية: "يذكرني بجدي". معظم البولونيين لا يتوقعون من الأجانب أن يفهوا لغتهم. وبما أنني دون أي فكرة عن هذه العلاقة الطارئة - من هو، لماذا يكلمني، ومن هو الشيخ - قررت أن لا أرد. لم أفتح فمي بكلمة. ولم يهتم الرجل.

قال: "ضاع مثلهد أقصد جدي".

طبعا نظرت إلى الشيخ الذي أشار له بأصبعه. ولكنه لم يكن هناك. وشعرت بالامتعاض. نهضت ونظرت حولي، ولكنه اختفى من مجال النظر.

همهم الرجل يقول: " “On wróci, Zawsze wraca". سوف يعود، هو يعود دائما. ونهض، أومأ لي برأسه، وانصرف.

*

التقيت بالرجل ثانية في المكتبة. وكنت أتمم بعض الواجبات، فقد كنت حينها في بولونيا بمهمة بحث علمي. دفعت لي الجامعة بعض التكاليف، وغطت بصعوبة ثمن بطاقة الطائرة. وكل ما تبقى كالمبيت وتذاكر الحافلة وتصوير البحوث في المكتبة فقد أنفقت عليه من جيبي. ولم تكن هناك ضمانة أنني سأتوصل في النهاية لنتيجة. مع ذلك كنت أريد أن أنهي ما بدأت به، وكان أول وأسرع طريقة لإنجاز ذلك هو استعارة الكتب من المكتبة. ومثل معظم المكتبات في أوروبا الشرقية، كانت تحتفظ مكتبة الجامعة التي أحج إليها بمخزون مغلق. كان علي أن أبحث عن رقم كل كتاب، وأن أحرر استمارة لكل كتاب، وفي النهاية يذهب موظف في المكتبة إلى المستودع ليأتي بالكتاب. بالنسبة لي دونت الاستمارات وقدمتها إلى الموظف الموجود وراء طاولة الإعارة، وتصادف أنه هو الرجل نفسه. ولم نتبادل التحية أو كلمة تنم على التعارف. وإن شئت الحقيقة أخذ الاستمارات مني، وقلب فيها، وأخبرني أن أعود بعد ساعتين. حركت رأسي وقررت أن أعود إلى مقعدي وأبحث عن المزيد من المراجع. بعد ساعتين، حينما رجعت، قدم لي عددا من الكتب وقال: " Więc ؟mówisz po polsku". أنت تتكلمين البولونية إذا؟.

قلت:  "Tak". نعم.

وهذا سؤال واجهته في عدد كبير من المناسبات. وكنت أجيب ببساطة. نظر الرجل إلى كتبي وسأل سؤالا آخر:  “Druga wojna światowa?” الحرب العالمية الثانية؟.

لم أجد جوابا. حملت الكتب وحاولت أن أحتفظ بتوازني، وأنا أضغط على الكتب بذقني. توقف الرجل عن توجيه الأسئلة. وبينما كنت أحضنها استدرت بحذر وعدت إلى مقعدي. قال لي لاحقا:  لأنه بمقدوري رؤية الرجل العجوز، ولأنني أدرس الحرب العالمية الثانية، كان عندي شعور بك. ربما لديه أيضا بعض الفضول العرقي ولكن لم أهتم. وكل ما فعلته هو القراءة في المكتبة في النهار والخروج إلى الساحة في المساء لتناول وجبة بسيطة والاستمتاع برؤية الناس. في تلك الأوقات كانت الأسعار منخفضة جدا، وبمقدوري توفير وجبة حتى في القطاع السياحي من المدينة، ما دمت أجلس في المقاهي الصيفية المفتوحة ولا أرتاد المطاعم. كنت أحصل على زجاجة مياه فوارة وشطيرة، وأراقب الناس بذهابهم ومجيئهم وأتابع العربة السياحية وهي تدور حول الساحة، وأحاول أن لا أفكر بالمستقبل. لم أكن أومن بأي مستقبل مشرق. ولم أكن على دراية أنني سأحصل على تكاليف معيشتي. وعليه كانت "الدقيقة السابقة" هي دائما أفضل لحظة في حياتي، والحاضر أفضل من المستقبل.  بعد العودة سأفتقد هذه الجلسة الممتعة والاسترخاء في الشمس التي تغرب ببطء. ولذلك حاولت جهدي أن أستمتع بها قدر الإمكان. أنهيت يومي في المكتبة و عدت إلى الساحة، ونظرت حولي بحثا عن طاولة خالية في مقهى مفتوح. وهنا ظهر الرجل.

قال:  “Piwo"؟. بيرة؟

سؤال قصير. بعد تردد وجيز وافقت بحركة من رأسي.

*

بعد ذلك كان يظهر سريعا كلما غادرت المكتبة وذهبت إلى الساحة. وفي الأيام التي لا أزور فيها المكتبة، ينتظرني في الساحة. وخلال وجباتنا البسيطة يشرب في معظم الحالات البيرة، وأنا أختار القهوة أو الماء الفوار. ولكن لم تقع عيني على الشيخ مجددا.

قال: "On kiedyś tu wróci". سيعود في يوم من الأيام.

ضحكت وقلت: "ذلك هو عنوان كتاب اللغة البولونية الذي نشرته إحدى الجامعات".

رد مع ابتسامة: "أعرف".

كان العنوان حرفيا Pewnego dnia tu wrócisz ponownie  - ستعود إلى هنا ذات يوم. لم أتوقع أن أعود في أية حال. مع أنني عشقت البلد، لم تمنحني الحياة الفرصة للتحليق بين الواقع والخيال لفترة طويلة. ولهذا السبب حينما دعاني إلى بيته قبلت الدعوة.

... ولو منحت فرصة التمني

لن أعرف ماذا أقول،

وماذا أتمنى،

الأوقات الصعبة أم أوقات الرخاء....

*

طلب مني أن أربطه. كانت الأدوات والطرائق والوضعيات مختلفة قليلا كل مرة عن سابقاتها، ولكنه كان دائما يهتم بتفاصيل ما يريد. كان يطلب أن اربطه، وليس العكس، وكان يبدو الموضوع مهما بنظره ولذلك أنفذ دون أسئلة. ولكن لم يسبق لي أن ربطت أحدا من قبل. حتى أن عقد أنشوطة كان شيئا غريبا عني. واعتاد أن يشرح لي بصبر ما يريد مرارا وتكرارا ويبدو ممتنا كلما قيدته بإحكام بالطريقة التي يريدها.  ولم يكن هذا سلوكا شاذا بقدر ما هو هوس. كان لديه قائمة تعليمات بالخطوات من البداية للنهاية. ولا يرتاح إلا إذا التزم هو والشخص الثاني (بتعبير آخر أنا) بهذه الخطوات بالضبط. ولكن إذا أسقطت بندا واحدا ينتابه القلق ويطلب بإلحاح أن أصحح ذلك حتى نتمم الخطوات. ولكن القائمة كانت خاصة به، والمشكلة أنني لم أكن أعرفها أول الأمر. ظاهريا كنت أنا من يقيده وهو الذي يتم تقييده، ولكن عمليا كان هو الذي يأمر وأنا من يحاول الالتزام بالتعليمات. ولم يكن يبدو أنه يتبع قائمة متخيلة. وكان يلح على استعمال كلمات مثل "صحيح" و"خطأ" ليصف ما أفعل. نع ذلك جوهريا ليس هناك طريقة خاطئة أو صحيحة في تقييد العشيق بالسرير. وكان الوضع يصعب حين لا أفهم حكمه الشخصي بخصوص تمييز الخطأ من الصحيح. ويكرر بصبر أو يستعمل كلمات أسهل، وهذا يجعلني أبدو غبية فقط. ولم يكن يغضب إذا "أخطأت"، ولكن أرى أنني أصاب بالقلق، وهذا ما يجعلني أشعر بالغباء وقلة الفائدة. وكان يعتذر بقوله: "أنا متأسف" حين أشعر بالإنهاك. يضيف: "أعلم أن هذا لا يسر. أعلم أنني غريب أيضا. ولكن من فضلك تحمليني".

ولم أكن أرى أن تكبيله بحد ذاته عمل غير سار أو أنه غريب. في العالم توجد أذواق متعددة، وإن اعتقدت أن ذوقه غير مقبول، لما تابعت معه. وكنت أود أن أقدم له خدمة تهمه فقد كنت لا أبغضه شخصيا، ولأحقق ذلك توجب علي أن أفهم ما يدور في رأسه بشكل عام، وأعرف شيئا عن بنود القائمة التي يحتفظ بها في ذهنه.

واستغرقت طويلا لأدخل بالسياق.  كانت شقته إن استعملنا اللغة الكورية "غرفة مفردة". صغيرة وضيقة ولكن السقف مرتفع، مع منور ترى منه النجوم. ويمكن أن ترى جسمي وجسمه المكبل مطبوعين على زجاج المنور الذي يعلونا وبعده سماء الليل السوداء، وكان يدمدم قائلا "جميل". وكنت أهز رأسي بشكل ميكانيكي. من وجهة نظري لم يكن ما حولي أشياء واقعية تماما ولم يمكنني فهمها. أقصد أشياء مثل بولونيا وتكبيل هذا الرجل وربطه وأنا ذاتي.

ثم أخيرا كلمني عن جده.

***

قال:  في الصيف حين بلغ الحادية عشرة انتقل ليعيش مع جدته. وكان جده قد نجا من معسكرات الاعتقال النازية. والنازيون لم يفتتحوا معسكرات الموت الرهيب المزودة بغرف الغاز فقط، ولكن أداروا أيضا معامل الذخائر التي يعمل فيها عمال بالإكراه. وهنا قضى العديد من البولونيين نحبهم مع أنهم دون أصول يهودية. حينما نقصت القوة العاملة قبل نهاية الحرب كان الألمان يبحثون في الشوارع ويلقون القبض على أي إنسان يرونه أمامهم ويرسلونه إلى معامل الذخيرة والمزارع. وجده أحد الذين اختطفوا من الشارع. وقال: "لكن جدي لم يخبرني أبدا كيف كانت حياته في المعسكر. ولا في أي مناسبة. أليس هذا عجيبا؟". وأدهشه ذلك حتما. وكان جده مهتما بعدة أمور. ولكن حسب كلام حفيده يمكن تلخيص هدف الرجل العجوز في الحياة بكلمة واحدة : "البقاء". ولم يغادر الشيخ البيت. وخيمت على حياته فكرة البقاء على قيد الحياة دون أن يغادر بيته. وفي وقت ما كان إشعال النور ممنوعا بعد غروب الشمس، وكذلك الاستحمام وتشغيل الحنفيات، وأي تصرف يصدر عنه صوت. كانوا يمتنعون عن الشرب والطعام قدر الإمكان، ولهذا السبب امتلأ بيتهم بمعلبات الأغذية.

أضاف: "وأفضل الأوقات عندي يوم الفصح وأعياد الميلاد وأيام القديسين الكاثوليك. وفيها نتناول أطعمة غير معلبة". وحرص جده أن ينظف بيته ويغسل أشياءه بانتظام - كان بيته مرتبا كالدبوس وثيابه مرتبة. ولكن هناك دائما حقائب محزومة وتنتظر عند الباب في حال احتاج للهرب بسرعة. وكان يمر جزء مهم من وقته وهو يتفحص مع جده محتويات تلك الحقائب، ولا سيما للتأكد من تجديد الطعام والبطاريات.  حاول أن يفهم جده وأن يتبع القواعد بقدر الإمكان. ولكن حينما بلغ الخامسة عشرة، تمرد على جده للمرة الأولى. فقد منعه جده في الشتاء من الخروج بعد الغروب للالتقاء بالأصدقاء. ولم تكن الغاية فرض سيطرته على حفيده، ولكن بسبب الخوف والقلق عليه. ولأنه عرف أسبابه فقد ثار بوجهه.

قال "أخبرته أن الحرب انتهت منذ فترة بعيدة، والشيوعية ماتت، وتحرر الجميع، ولا يوجد ما يعرض الأولاد للخطر إذا لعبوا في الخارج بعد السابعة مساء".

"وماذا كان رده؟".

"لم يقل شيئا".

حدق به لبعض الوقت، واستدار، وغاب في غرفته. وجعلته عيناه المشوشتان وكتفاه المتهدلان يبدو كأنه كبر عشر سنوات بلحظة واحدة. ومنذ تلك اللحظة توقف جده عن شراء الأطعمة المعلبة أو الاحتفاظ بالحقائب بجوار الباب الأمامي. وحتى آخر يوم من الدراسة الثانوية جلس جده في مقعده ينظر دون تركيز بشاشة التلفزيون. ومات أمام التلفزيون.

قال "كان ميتا في أحد الأيام ساعة عودتي إلى البيت. وقفت بجانبه مثل نسخة شابة منه، كان بعمري هذا، وبالملامح التي يبدو بها قبل أن يحتجز في معسكر الاعتقال". وطافت أمامي صورة جده المأزوم والشاب بهيئتين:  وجهه القديم ووجه الحفيد. وببطء أشار الحفيد إلى الباب. وحينما هز رأسه نهضت ببطء صورة جده الشاب بتعابيرها المضطربة واقتربت من الباب وغادرت منه. نظر الحفيد من النافذة لبرهة طويلة ولاحظ روح جده تتقدم في الشارع، وتعبر الساحة المشمسة، وتختفي في العالم الواسع.

همهم يقول:  "أنفق جدي كل عمره مرعوبا من حرب وضعت أوزارها، ومن معسكر اعتقال اختفى من الوجود. وبعد وفاته أمكنه أن يتجول في المدينة بحرية".

توجب أن أسأل:  "ومن كان الشيخ الذي يسير باتجاه واحد في الساحة؟".

قال: "ربما شخص قتلته رصاصة في الحرب، لطالما رأيته هناك. كان يعبر الشارع ويحاول جهده العودة إلى البيت، ولكن أعتقد أنه نزف كثيرا من الدم ومات قبل أن يصل".

"أتساءل لماذا لا يدعون تلك الأوقات الصعبة وراءهم. سواء في الحياة أو بعد الممات".

"عقدة. ربما".

..لو بإمكاني أن أتمنى

لو كنت سعيدا

سأحن لأيام الشقاء

كان يدمدم أحيانا بهذه الأغنية بصوت خافت. ومرة سألته عنها، قال إنه غير متيقن. قال: "هي أغنية سمع جده يغنيها. لعلها من أيام الحرب".

بعد فترة طويلة، سمعت الأغنية مجددا في فيلم قديم. كان عن الحرب العالمية الثانية ومعسكرات الاعتقال النازية، وهي أغنية لمارلين ديتريش ولكن بدلت بطلة الفيلم قليلا من كلماتها.

الحياة

أعشق الحياة

...لا أعلم ماذا أريد

لكن أتوقع المزيد.

في الفيلم تودع امرأة في معسكر اعتقال، وتغوي ضابطا نازيا لتعيش، وتغني له وهي شبه عارية.

الحياة محطمة، لا

أعلم ماذا أريد، سوى عشق الحياة

أحيت الكلمات صديقي الذي طواه النسيان، وتحركت ذكرياتي عنه لبعض الوقت.

*

انتهى فصل الصيف القصير وتوجب علي أن أعود. وحينما بقيت أيام معدودات، سألته هذا السؤال: "ما هو الحزن الذي تتذكره ويدفعك للتفكير بربط نفسك؟".

تعكرت نظراته. ومرت فترة طويلة ليتكلم.

قال: "لم يسألني أحد هذا السؤال قبلك؟".

سألته: "هل تغمرك السعادة حين تكون مربوطا".

رد فورا: "لا". ثم بعد قليل من التفكير أضاف: "أشعر بالأمان حين أكون في القيود".

"أمان بأي معنى؟".

كان يريد دائما أن أربطه بإحكام. ومن الواضح أنه أراد أن يتألم من جراء ذلك، وتوجد آثار حمر في مكان الشد كلما ربطته. وحتى لو أنني أضعف منه في البنية، ومع أنني عشيقته، وجدت صعوبة في اعتبار تلك العقدة المحكمة مصدرا للأمان.

همس ببطء: "أشعر كأنني حصلت على إذن لأستمر بالحياة".

كان جوابه يفطر القلب بشكل من الأشكال ويذكرني أنني كبلته بكل استطاعتي.

*

عندما التقيت به لاحقا، كان في نفس الشقة. مرت فترة طويلة ولم أتمكن من التذكر بوضوح، ولكن كانت شقته تبدو خالية ومضعضعة بالمقارنة مع قبل.

قلت: "توقعت أنك تزوجت".

"تقريبا"

"ولماذا لم تتم المشروع؟"

"لم تقبل أن تقيدني"

أومأت برأسي.

سألني: "وأنت؟ لماذا لم تتزوجي؟"

لبعض الوقت فكرت بأبسط طريقة للإجابة. قلت أخيرا: "هناك ديون يجب سدادها. أمي اقترضت بعض المال باسمي"

ولا تزال تقترضها. ولم أعرف كيف أقول بالبولونية إنها "تزور في أوراق رسمية"، لذلك لم أفصل كلامي. وهز رأسه كأنه فهمني وتوقفنا عند هذا الحد. وأعجبني ذلك منه.

سألت: "هل لا يزال ذلك السيد في الساحة؟"

"ربما يظهر في الصيف كالعادة، ولكن لم أشاهده مؤخرا"

ذلك الشيخ الذي يسير من الشرق إلى الغرب في الطرف الجنوبي من الساحة هو الشبح الوحيد الذي رأيته في حياتي. وسواء قبل الساحة أو بعدها وفي كوريا أو بلد آخر لم تقع عيني على أي شبح. حتى الآن.

استغرب وقال: "حقا؟ كنت عادية وتوقعت أنك تقابلين الأشباح دائما".

منذ كان عمره أربع سنوات شاهد أشياء لا يراها بقية الناس. أموات، وأيضا حيوانات ميتة مثل القطط والكلاب والجياد. وكان صغيرا جدا ولا يعرف ما هو الموت، وقد أدهشته رؤية أشخاص نصف شفافين وحيوانات عائمة بين بقية الأشياء. ومثل معظم البولونيين كان والداه كاثوليكيين. وعندما بدأ بالكلام عن مرأى الحيوانات الميتة، توقعت أمه أن خياله خصب جدا، وعندما تمكن من وصف الناس قبل موتهم بدقة دب الرعب بأمه. فاستشارت رجال الدين وانفقت معظم أيامها في الكنيسة معه، ولكن ما من فائدة. وحتى في الكنيسة أمكنه أن يرى قسيسا مات هناك قبل عامين ورجلا خرجت جنازته في غضون أسبوع. وحرصت أمه على تجويعه، وحينما اشتكى من الجوع، ضربته. وترك الضرب مفعولا مباشرا، وأقلع عن كلامه حول مشاهداته للأموات سواء من البشر أو الحيوان. ولكن أعطى الصيام مفعولا عكسيا، فالجوع ضاعف من حساسيته. ولا سيما في وقت النوم وبمعدة فارغة. وبدأ يكلم الأموات في نومه أو يسير وهو نائم في الليل. وأرعب ذلك والدته التي حرمته من الطعام طوال اليوم وحبسته في البيت، وضربته بلا رحمة. وكانت أمه تبكي دائما وهي تضربه وبعد ذلك تصلي بورع وتقوى. كان يعلم أن أمه تبقى في البيت طوال النهار بصحبته دون أن تأكل أو تنام وفي الليل تبكي بمرارة. وتصلي بصوت هامس، ولذلك كلما ضربته أكثر كلما تضاعف شعوره بالذنب. وفي عامه الحادي عشر، توفي خال أمه - بكلمات أدق شقيق جدته. وعندما عادت أمه من الجنازة، ودعها بصوت حاكى به صوت خالها الذي لم يقابله في حياته. ولم تكن لديه ذكرى عنه. لم تأكل أمه لعدة أيام بعد ذلك ونقلت إلى المصحة، ولهذا السبب أرسل إلى بيت جدته في المدينة. وفي هذا التوقيت علمت لأول مرة أنه ليس من هذه المدينة الجنوبية ولكنه من ضواحي وارسو. 

سألته: "وهل أمك في وارسو حتى الآن؟"

رد: "ربما. لم أشاهدها بعد إقامتي في بيت جدتي البعيد. باستثناء فترة وجيزة يوم حفل التخرج من المدرسة. لم نتواصل بعد ذلك"

"ووالدك؟". لم يذكر أباه أبدا. وتألمت ملامحه فاعتذرت. قلت: "آسفة". قطب وجهه وقال: "كلا، ليس الأمر كذلك. أبي...كيف أقولها.. أبي كان.. شخصا قلقا. هل تفهمين ماذا أعني؟"

لم أفهم. وانتظرت.

قال: "كان الهدف من وجودي واضحا حينما كنت مع أمي أو جدي. هل تفهمينني؟ كان هدف جدي أن يعيش باستعمال الوسائل التي تعلمها في الحرب، ولذلك كان لديه شيء يفعله دائما. التفكير بحقائب الطوارئ، وتوفير المياه والمعلبات، في الليل يطفئ الأنوار ويلزم السكون. وحينما تشرق الشمس في اليوم التالي يكون لديه شعور واضح بالتمسك بالحياة ليرى يوما آخر. لكن مع أمي..."

خفت صوته وغرق بالتفكير، ثم قال: "كان الوضع سيئا عند جدتي. بمعنى أنها كانت تعاني لأنني بحال سيئة، وتوجب علي تحسين وضعي. وكلما تكلمت كلاما سيئا كانت تبكي، وتصوم وتصلي، وتقيدني بالسرير وتضربني، وأحيانا تتركني مقيدا طيلة الليل كي لا أرافق ميتا في نزهة. ولذلك حرصت أن لا أكون سيئا. لكن والدي..."

قطب وجهه مجددا وتابع: "حسنا، والدي هو ابن جدي. ولكنه يختلف عن جدي. ولا أعرف لماذا كان يعيش. لم يكن سعيدا أو مهتما. وكان يفعل أشياء غير ضرورية وذهنه بمكان آخر". فكر قليلا وأضاف: "لا أعرف شيئا عن والدي. ولم أعايشه أبدا".

في النهاية أمكنني استيعاب الحال المرعب والعاثر الذي يمكن أن تعزو له معنى. الرعب اليائس والعميق الذي تتأرجح عليه حياتك لبعض الوقت وكذلك هو شأن المستقبل المتوقع. وكان بمقدوري أيضا، وأنا في وضع يهيمن عليه شخص واحد قادر على قتلك أو العفو عنك، أن أفهم كيف تستعمل كل غرائز البقاء لترضي بها شخصا واحدا. ما أن تمر بصدمة قوية وتنظر للعالم من زاوية مغلقة يصعب عليك التغلب على وجهات نظرك. لأن بقاءك يعتمد عليها. والآباء الذين بخربون حيوات أبنائهم، ويمتصون الحياة من مستقبلهم، ليس من أجل الحفاظ على أوهامهم الشخصية ولكن أيضا لضخ هذه التصورات في أطفالهم - لا يمكن فهم مثل هؤلاء الآباء إلا من خلال الهوس الذي يخيم عليهم. وعبارة "كن ممتنا لأنني اعتنيت بك" تتضمن أيضا ما معناه أنني "لم أقتلك ولم أتسبب بموتك". وربما هذا متعمد أيضا. والداي وجيل والدي تغلبا على الموت في الحرب الكورية،  وهم تقريبا مثل الجيل الذي تغلب على الموت في الحرب العالمية الثانية، وقد وضعوا لأنفسهم هدفا وهو أن يعيشوا حياة إنسانية وأن يحتفظوا بغريزة الحيوان في حب البقاء.

ولكن التفهم والتساهل شيئان مختلفان.

همس يقول: "هلا تكرمت بتقييدي؟".

وافقت.

وسألته: "هل يمكنك أن تغادر في الصباح التالي؟".

قال: "لا أعلم. ماذا لديك من مشاغل بعد رحيلي؟"

لم أجد جوابا. سأل مجددا: "هل ستعودين إلى موطنك؟".

قلت: "كلا. لن أعود أبدا". وأدهشتني إجابتي.

قال بهدوء:  "إذا سأنتظر معك"

همست أقول: "شكرا"

حينما استيقظت في اليوم اللاحق لم يكن موجودا. فتحت باب الحمام. كانت عيناه مطبقتين مثلما حصل حين توفي، وقد لف حبلا حول رقبته وربطه بالمرجل. ربت عليه بهدوء. ففتح عينيه.

قلت: "هل تريد أن أفك وثاقك؟"

كانت حنجرته تختتق بالحبل الملتف حولها، لذلك طرف بعينيه ولم يرد. حينما أزلت الحبل، أنشدت بحماس معه.

...لو بمقدوري أن أتمنى

الأوقات الطيبة والأوقات الصعبة.

لم يكن عندي أمل بوقت طيب، ولكن أيضا لم أرغب أن أتمنى وقتا صعبا وقاسيا. كنت بانتظار شيء ما ولكن لم أعلم ماذا. لم يكن لي مستقبل. كل مهارات البقاء سقطت في فخ الماضي. بعض الناس تحكم حياتهم صدمة واحدة ويتردد صداها من خلال غريزة البقاء. وتتراجع الحياة إلى فخ يتشكل في لحظة مضيئة من الماضي، فخ يجبرهم على تكرار تلك اللحظة اليتيمة من الماضي دون توقف ليتأكدوا أنهم أحياء. ولكن تلك اللحظة قصيرة. وبعد مرورها بوقت طويل، تهرب الأوقات الطيبة والسيئة من بين الأصابع كالرمال وتكرر نفسها بلا معنى وتؤكد لهؤلاء أنهم أحياء. ومن لا ينتبه إلى أن حياته تمر وتنقضي، بينما هو مكبل بالماضي - مثله ومثل جده وأمه ومثلي - هم في النهاية سواء كانوا أحياء أو أمواتا مجرد أشباح من الماضي.

...لو بمقدوري أن أتمنى

أريد أن أنعم بقليل من السعادة

ولو أنني بغاية الفرح

سأشتاق للحزن

حررت رقبته ورسغيه وقلت بتعجب: "كيف فعلت ذلك. كيف قيدت يديك بهذه الأنشوطة؟". شعر بقليل من الزهو وقال: "فكرت بالأمر طويلا. وفعلتها وحدي، لأنني لو ارتكبت خطأ واحدا لن أموت ولكن سأضر نفسي، وهذا سيؤدي لكثير من المعاناة".

عانقته. وتخيلته وحيدا في الشقة الفارغة، ويفكر لوقت طويل بأنجع طريقة ليشنق نفسه.

قال: "هذا جيد. شكرا".

ثم ذهب. أصبحت وحدي في الحمام الخالي.

لم يسألنا أحد حينما كنا بلا أسماء

إن كنا نرغب بالحياة أم لا.

الآن أتجول في المدينة الكبيرة وحدي

أنظر من الأبواب والنوافذ

أنتظر وأنتظر شيئا...

لم يعد هناك شيء أنتظره. ولكن ها أنا باقية، أقف في حمامه، بانتظار شخص يعثر علي بمعجزة، ليحررني من وثاقي في هذه الحياة.

***

...................

* ترجمها إلى الإنكليزية أنتون هور Anton Hur

- بورا شونغ Bora Chung  روائية من كوريا الجنوبية، وتترجم من البولونية والروسية إلى الكورية. لها عدة أعمال في الخيال العلمي.

في نصوص اليوم