ترجمات أدبية

ليو تولستوي: البنات الصغيرات أكثرُ حكمةً من الرجال

ليو تولستوي

ترجمة: نزار سرطاوي

***

جاء عيد الفصح مبكرًا وقد انتهى وقت التزلج للتو، والثلجُ ما يزال يتساقط في الساحات، والمياهُ تجرى في جداولَ في أنحاء القرية. ومن بين كومة من الروثِ بين ساحتين امتلأت بركةٌ كبيرةٌ بالماء. حضرتْ إلى البركة بنتان من بيتين مختلفين - إحداهما أصغر والأخرى أكبر منها بقليل. كانت والدتاهما قد ألبستاهما فستانين جديدين، فستانًا أزرقَ للبنت الصغيرة، وفستانًا أصفرَ للأكبر سنًّا. وكلٌّ منهما ترتدي وشاحًا أحمرَ على رأسها. بعد القُدّاس، حضرتِ البنتان إلى البركة، وأرَتْ كلٌّ منهما فستانَها للأخرى ثم بدأتا تلعبان. وأرادتا أن تترششّا بالماء. دخلت الصغيرةُ في البركة بحذائها، فقالت الكبرى: "لا تدخلي يا ملاشا، ستوبخُك أمُّك. دعيني أخلع الحذاء وافعلي الشيء نفسه."

خلعت البنتان حذائيهما ورفعتا تنورتيهما وعبرتْ كلٌّ منهما البركةَ باتجاه الأخرى. نزلت مالاشكا حتى كاحليها. قالت: "إنها عميقة يا أكولجوشكا. أنا خائفة."

قالت الأخرى: "لا عليكِ! ليست أعمقَ من ذلك. تقدمي نحوي مباشرة."

اقتربت كلٌّ منهما من الأخرى. قالت أكولكا: "احرصي يا ملاشا، لا ترشي المياه، بل سيري بحذر."

وما أن قالت ذلك حتى ضربت مالاشكا بقدمها فوق الماء فتناثر على فستان أكولكا مباشرةً. أصاب الرذاذُ الفستانَ ووصل بعضُه إلى أنفِها وعينيها. رأت أكولكا بُقَعًا على فستانها، فغضبتْ من مالاشكا ووبختها، وراحت تجري وراءها تريد أن تصفعَها. شعرت مالاشكا بالخوف حين رأتْ أنها تسببتْ في مشكلة، فوثبتْ خارجةً من البركة، وركضتْ إلى بيتِها. مرّتْ والدةُ أكولكا، ورأت فستانَ ابنتها مُلطخًا وقميصُها متّسخًا.

"أيتها البنتُ الشقية، أين وسّختِ نفسك؟"

"مالاشكا رشّتني، عن عمد."

أمسكتْ والدةُ أكولكا بمالاشكا وصفعتْها على مؤخرة رأسها. صرختْ مالاشكا وسُمِع صوتها على امتداد الشارع. فخرجت والدة مالاشكا.

"لِمَ تضربين ابنتي؟" وشرعتْ في توبيخ جارتِها. وكلمةٌ من هنا وكلمةٌ من هناك، وتشاجرتِ المرأتان. وثب الرجالُ وتجمّع عددٌ كبيرٌ منهم في الشارع. الجميع يصرخون، لا أحدَ يصغي إلى أحد. تشاجروا وتشاجروا، ودفع بعضُهم بعضًا. وأوشك العراكُ أن يقعَ بينهم. لكنّ امرأةً عجوزًا، هي جدةُ أكولكا، تدخّلتْ. دخلتْ بين الرجال وبدأت تقنِعهم.

- ما الذي تفعلونه يا أحبائي في مثل هذه الأيام؟ علينا أن نبتهجَ، لكنكم بدأتم بخطيئةٍ كبيرة.

لم يُصغوا إلى المرأة العجوز، بل كادوا أن يوقعوها أرضًا. لم تستطعِ العجوزُ أن تُثنيَهم لولا أكولكا ومالاشكا. فبينما كانت المرأتان تتبادلان اللعناتِ فيما بينها، كانت أكولكا قد مسحتِ الوحلَ عن فستانها وخرجتْ عائدةً إلى الطريق الذي تتوسطُهُ البِركةُ، والتقطتْ حجرًا وراحت تكشطُ الأرض لتسمح المياه أن تتسرب إلى الطريق. وأثناء قيامها بعملية الكشط، ظهرتْ مالاشكا وبدأت تساعدُها، وقامتْ أيضًا بحفر قناةٍ بقطعةٍ صغيرة من الخشب.

كان الرجالُ قد دخلوا في عراك بينما كانت المياهُ تجري في الأخدود بجوار الشارع، وتصبُّ في الجدول. وضعتِ البنتان القطعةَ الخشبيةَ في الماء. حملَها التيارُ عبر الشارع إلى المكان الذي كانت فيه المرأة العجوز تُفرّق الرجال. البنتان تركضان، واحدةٌ على أحد جانبيْ الجدول والأخرى على الجانب الآخر.

تصرخ أكولكا: أمسكي بها يا ملاشا، أمسكي بها! تريد ملاشا أيضًا أن تقول شيئًا، لكنها لا تقدرُ أن تُمسك عن الضحك.

وهكذا تجري البنتان وتضحكان على شريحةِ الخشب وهي تغوص في الجدول. جَرَتا وسط الرجال مباشرة. رأتهما العجوز فقالت للرجال:

- خافوا الله، أيها الرجال، تسعون إلى العراك بسبب هاتين البنتين وقد نسيتا كل شيء منذ وقت طويل، وها هما تُحبّان بعضهما بعضًا، مباركتان تلعبان. إنهما أكثرُ منكم حكمةً!

نظر الرجال إلى البنتين وشعروا بالإحراج. لكنهم بعد ذلك ضحكوا من أنفسهم وعادوا إلى بيوتهم.

"ما لم تَغْدوا كالأطفال فلن تدخلوا ملكوت الله."

***

...................

ليو تولستوي: كاتب وفيلسوف روسيّ، ولد في 9 سبتمبر 1828، في قريةِ ياسنايا بوليانا، في مقاطعة تولا لعائلةٍ أرستقراطية. وكان الرابعَ بين خمسةِ أطفال. مات والداه عندما كان صغيرًا، وربته عمته وجدته. تلقى تعليمه في المنزل على يد مدرسين فرنسيين وألمان، ثم درس القانون واللغات في جامعة قازان.

في عام 1851، انضم تولستوي إلى الجيش الروسي وخدم في القوقاز لعدة أعوام. وخلال تلك الفترة، بدأ بكتابةِ ونشرِ أوّل أعماله، "الطفولة" (1952)852. في عام 1855، ترك الجيشَ وعاد إلى ياسنايا بوليانا، حيث بدأ في التركيز على الكتابة.

كتب تولستوي العديد من الروايات، مثل "الحرب والسلام" و"آنّا كارينينا"، اللتين تُعدّان من أمهات الأعمال الأدبية وتحظيان بإعجاب كبير نظرًا لما تتميزان به من العمق النفسي وتحفلان به من شخصيات حيّة وتسوقانه من تعليقاتٍ ثاقبةٍ حول القضايا الاجتماعية.

بالإضافة إلى كتاباته، كان تولستوي مُفكرًا اجتماعيًا وسياسيًا بارزًا. وقد تأثر كثيرًا بمعتقداته المسيحية وغدا مسالمًا وفوضويًا في آنٍ معًا في وقت لاحق من حياته. وكان يؤمن بالمقاومة السلمية الخالية من العنف. فغدا مصدرَ إلهام لبعض الشخصيات مثل المهاتما غاندي ومارتن لوثر كينغ جونيور.

اتسمت حياة تولستوي الشخصية بالاضطراب والصراع. فقد كانت علاقته بزوجته غير مستقرّة، وزادت تدهورًا على مَرِّ السنين. كما عانى طويلًا من الاكتئاب والأزمات الروحية. لكنه على الرغم من هذه التحديات، ظلّ كاتبًا ومفكرًا غزيرَ الإنتاج حتى وفاته في 20 نوفمبر 1910، في بلدة أستابوفو الروسية، التي تحمل اليوم اسمه.

كتب ليو تولستوي العديد من الأعمال المؤثرة على مدار حياته المهنية. ومن أهمها:

- "الحرب والسلام" (1869): تعتبر هذه الرواية الملحمية من روائع تولستوي وواحدةً من أعظم الأعمال الأدبية. وهي بمثابة تسجيل تاريخي عن روسيا إبّان الحروب النابليونية، وتدور حول والحب والأسرة والجوانب الإنسانية.

- "آنا كارِنينا" (1877): روايةٌ كلاسيكية أخرى لتولستوي، وهي قصة مأساوية عن الحب والعلاقة خارج مؤسسة الزواج، وتدور أحداثها في روسيا في القرن التاسع عشر.

- "موت إيفان إيليتش" (1886): رواية تستكشف مفهومَ الفناء ومعنى الحياة من خلال تَتَبُّع حياةِ وموتِ بيروقراطي في منتصف العمر يدرك بعد فوات الأوان أنه أضاع حياته في السعي إلى الثراء المادي والمركز الاجتماعي.

- "بعث" (1899): تتناول هذه الرواية قصة رجل ثري يقيم علاقةٍ مع امرأة ثم يهجرها، ليعود ويلتقيها أثناء عمله عضوًا في هيئة محلفين. ويسعى إلى الخلاص من خلال مساعدتها، كما تتناول الرواية فساد وظلم النظام القانوني الروسي.

- "اعتراف" (1882): عمل يتناول أزمة تولستوي الروحية وبحثه عن معنى في الحياة.

 

في نصوص اليوم