ترجمات أدبية

همنغواي: تلالٌ تشبهُ الفِيَلةَ البيضاء

بقلم: إرنست همنغواي

ترجمة: نزار سرطاوي

***

كانت التلال التي تتوسط وادي إيبرو ممتدةً وبيضاء. لم يكن على هذا الجانب ظلٌّ ولا شجر، وكانت المحطةُ هناك تقع بين خطين من القضبان تحت أشعة الشمس. وغير بعيدٍ بجانب المحطة يبدو الظلُّ الدافئ للمبنى، وثمّةَ ستارةٌ مصنوعةٌ من خيوطِ من خرز الخيزران معلقةٌ على الباب المفضي إلى داخل الحانة كي تُبْعِدَ الذباب. جلس الأميركي والفتاة التي برفقته إلى طاولةٍ في الظلِّ خارج المبنى. كان الجوُّ لاهبًا والقطارُ السريعُ من برشلونةَ سيأتي في غضون أربعين دقيقة. توقّفتُ عند هذا التقاطع لدقيقتين وتابعتُ طريقي إلى مدريد.

"ماذا نشرب؟" سألتِ الفتاة. وكانت قد خلعتْ قبعتَها وأركنتها على الطاولة.

قال الرجل: "الجو حارق."

"لنشربِ الجعة."

قال الرجل من خلال الستارة: "هاتِ لنا دوس سيرفيزا."

"كأسان كبيران؟" سألتِ امرأةٌ عند المدخل.

"نعم. اثنان كبيران."

أحضرت المرأة كأسين من الجعة وصحنين صغيرين من اللِّباد. ووضعت صحنيِ اللّباد وكوبَيِ الجعةَ على الطاولة، ونظرت إلى الرجل والفتاة. كانت الفتاة تنظر بعيدًا إلى خط التلال. كانت

بيضاءَ تحت أشعة الشمس وكان الريفُ بُنيَّ اللون جافًّا.

قالت: "إنها تشبه الفيلةَ البيضاء".

شرب الرجل الجعة: "لم أرَ فيلًا أبيضَ من قبل".

"لا، ما كان ليتسنّى لك أن تراه."

قال الرجل: "ربما أكون قد رأيته". "مجرُّد قولِك إنه ما كان ليتسنّى لي أن أراه لا يثبت شيئًا."

نظرت الفتاة إلى الستارة الخرزية قائلةً: "لقد رسموا عليها شيئًا. ما هو؟"

"أنيس ديل تورو. إنه مشروب."

"أيمكننا أن نُجرّبه؟"

نادى الرجل من خلال الستارة "اسمعي." خرجت المرأة من الحانة.

"أربعُ ريالات."

"نريد كأسين من الـ أنيس ديل تورو."

"مع الماء؟"

"هل تريدينه بالماء؟"

قالت الفتاة: "لا أدري. هل هو جيد بالماء؟"

"نعم جيد."

"إذن تريدانه بالماء؟" سألت المرأة.

"نعم بالماء."

قالت الفتاة: "يبدو كأنه صوت قطار."

في الخارج، سمع الرجل ضجيجَ القطار وهو يقترب. أحضرتِ المرأةُ الـ أنيس، وأخرج الرجل صحيفةً من جيبه وراح يقرأ.

ارتشفت الفتاةُ الـ أنيسَ ونظرت إلى التلال قائلةً: "إنها تلالٌ جميلة. حقًّا إنها لا تشبه الفِيَلةَ  البيضاء. ما كنت أشير إليه هو لون قشرتها من خلال الأشجار."

"هل نطلب المزيد من المشروب؟"

"لا بأس."

دفعت الريحُ الدافئةُ الستارةَ الخرزيةَ إلى الطاولة.

قال الرجل: "الجعةُ لذيذة ومنعشة"

قالت الفتاة: "رائعة"

قال الرجل: "إنها حقًا عمليةٌ بسيطةٌ للغاية يا جيغ". "الحقيقة هي ليست عملية على الإطلاق."

نظرت الفتاة إلى الأرض التي كانت أرجل الطاولة مستقرةً عليها.

"أعلم أنك لن تمانعي في ذلك يا جيغ. إنها في الحقيقة ليست بشيء. بل هي إدخال الهواء ".

لم تقل الفتاة شيئا.

"سأذهب معكِ وأظلّ إلى جانبك طوال الوقت. كل ما يفعلونه هو أن يجعلوا الهواء يدخل وبعد ذلك سيكون كلُّ شيء طبيعيًا تمامًا."

"ثُمّ ماذا نفعلُ بعد ذلك؟"

"سنكون على ما يرام بعد ذلك. تمامًا كما كنا من قبل."

"ما الذي يجعلك تعتقد ذلك؟"

"هذا هو الشيء الوحيد الذي يزعِجُنا. إنه الشيء الوحيد الذي جعلنا تعساء." نظرت الفتاة إلى الستارة الخرزية، ومدت يدها وأمسكت بخيطين من خيوط الخرز.

"وأنت تعتقد أننا سنكون على ما يرام وسنكون سعداء."

"أعلم أننا سنكون كذلك. لا داعي لأن تشعري بالخوف."

***

.............................

* نشرت قصة همنغواي " تلال تشبهُ الفيلةَ البيضاء" عام 1927 في مجلة "ترانزشن." ثم نُشرت في نفس العام في مجموعة همنغواي القصصية "رجال بلا نساء." والقصة تدور حول شاب أميركي يحاول أن يقنع صديقته بإجهاض حملها، وذلك في زمنٍ كان فيه مجرد الخوض في موضوع الإجهاض من المحرمات.

نبذة عن الكاتب:

ولد الروائي الأميركي إرنست همنغواي في بلدة أوك بارك بولاية إلينوي عام 1899. بدأ حياته كاتبًا في إحدى الصحف في كانساس سيتي وهو في سن السابعة عشرة. وبعد أن دخلت الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى، تطوّع للانضمام إلى وحدة إسعاف في الجيش الإيطالي. لكنه أصيب أثناء خدمته في الجبهة، ما اضطره إلى أن يمضى وقتًا طويلاً في المستشفيات. بعد عودته إلى الولايات المتحدة، عمل مراسلًا للصحف الكندية والأمريكية. ولم يلبث أن عاد إلى أوروبا لتغطية بعض الأحداث، كالثورة اليونانية. خلال العشرينيات من القرن الماضي، انتسب إلى جماعة المغتربين الأميركيين في باريس. وقد تحدث عن هذه الجماعة في روايته "الشمس تشرق أيضًا" (1926). كذلك استوحى من الحرب روايته "وداعًا للسلاح" (1929)، التي تدور حول خيبة أملِ ضابطِ إسعاف أميركي في الحرب وهروبه منها. وبالمثل، استخدم همنغواي خبرته كمراسل خلال الحرب الأهلية في إسبانيا في روايته "لمن تقرع الأجراس" (1940). أما أعماله اللاحقة، فقد كان من أبرزها الرواية القصيرة "الشيخ والبحر" (1952)، التي تدور حول رحلة صياد عجوز وصراعه الطويل مع البحر ومع سمكةٍ ضخمةٍ تمكن من صيدها، لكن أسماك القرش نهشتها ولم تُبقِ منها إلا هيكلها العظمي، الذي يعود به إلى الشاطىء منتصرًا ومهزومًا في الوقت عينه.

أما قصصه القصيرة فقد تميّزت بالمباشرة، والحواره المقتصد والميل إلى استخدام العبارات التي تُقلل من أهمية الموضوع الذي يطرحه. وقد صدرت له ستُّ مجموعات من القصص القصيرة، منها "رجال بلا نساء" (1927) و "الطابور الخامس والأسلوب لقصص التسع والأربعون الأولى" (1938).

في عام 1954 مُنح همنغواي جائزة نوبل للأدب، وذلك استناده إلى تميزه في في فن السرد، والذي تجلى في روايته "الشيخ والبحر"ولتأثيره الكبير في ألأسلوب الأدبي المعاصر.

كان همنغواي مصابًا بداء ترسب الأصبغة الدموية، والذي كان وراثيًّا على ما يبدو. وقبل وفاته ببضعة شهور انتابته حالة من الاكتئاب والوهم وأُدخل المستشفى مرتين ليخضع للعلاج النفسي. لكن حالته ازدادت سوءًا ولم يعد قادرًا على الكتابة. وقد حاول الانتحار أكثر من مرة لولا أن من كانوا حوله منعوه. وفي الختام أطلق النار على رأسه وتوفي في ولاية ايداهو في الثاني من تموز/ يوليو، عام 1961.

في نصوص اليوم