ترجمات أدبية

إيفا سيمز: خفايا الطبيعة.. النفايات

بقلم: إيفا سيمز

ترجمة: صالح الرزوق

***

منذ عام 2005 أجريت أنا وطلابي بحثا عن المجتمع المحلي. وكان همنا ترميم الفضاءات الطبيعية التي تعرضت للتدهور بسبب الصناعة وذلك في الأحياء الداخلية من بيتسبوراة. وقد قدمنا العون لإنشاء حديقة إيميرالد فيو، ويعود الفضل بها لمبادرة من سكان المنطقة. ثم تبنت مؤسسة تطوير المجتمعات المحلية CDC تطوير ورعاية 275 موقعا من سفوح مرتفعات تغطيها الغابات في جبل واشنطن، وهي محلة مجاورة لوسط بيتسبوراة. وقد سهلت معظم بحوثنا عقد حوار حول دور الحديقة والاهتمام بها وإجراء مسوحات ومقابلات عن تاريخها الشفهي. كما أننا طورنا أساليب للتعامل مع المتشردين سكان الحديقة، وخوف المجتمع المحلي من "النشاطات المشبوهة في الغابات" كما قال أحد السكان. وخلال السنوات الستة السابقة، نظف أكثر من ألف متطوع ما يزيد على 80 طنا من النفايات من 275 موقعا تقع ضمن غابات المنطقة المأهولة. وهناك رأيت سيارات وثلاجات وأسرة ذات نوابض لحق بها الصدأ. أما في السهول والأماكن المفتوحة رأيت إطارات مطاطية ودمى من البلاستيك وأكياس نايلون وعبوات زجاجية فارغة وأحجار سيراميك وإطارات من الفينيل أو الألومنيوم وعلاقات سقوف وأنابيب لدنة وأشكالا أخرى مختلفة من مخلفات المقاولين. جدير بالذكر أن 80 طنا من النفايات يعادل 173.396.81 رطلا.

النفايات ظاهرة تدل بشكلها الفيزيائي المنظور على فائض من الآخر، وعلى أحداث ومعان غير مرئية لها علاقة بها. وغني عن الذكر أنها شيء أبعد مما تراه العين. فهي "نظام مرجعي" (هوسيرل 2001. ص41) يدل على شبكة عريضة من الدلالات ويندرج بها المظهر البسيط للنفايات مع الطبيعة، وحالما نبدأ التفكير بالنفايات على أنها نظام مرجعي، تبرز أمامنا أسئلة استاطيقية واجتماعية ونفسية.

يمكن التعرف على معظم أنواع النفايات، في مكانها على الأرض، وفي الغابات، فورا: فهي تتكون من أشياء صنعها البشر، ولا تتحلل بدورة من عدة سنوات محدودة، وتشكل مخاطر محتملة على الحياة البرية، وهي دميمة بشكل واضح. وبالعادة تتعامل معها الطبيعة على فترة عقود فتصدأ أو تغطيها بأوراق متعفنة وقاذورات حتى تغوص في باطن الأرض، ومعظم من يحب القيام بنزهات في الغابات يستفزه أن يرى ثلاجة صدئة بأبواب مفتوحة تقاطع هدوء وجمال المنظر الطبيعي. ماذا يقلقنا من النفايات؟. ولماذا تعتدي على إحساسنا الجمالي وتحفز أكثر من 1000 متطوع يشعرون بالرغبة للمجيء إلى الغابات وجر هذه الأشياء إلى حدائق المنطقة، حيث يمكن تجميعها وحملها بشاحنات شركة تنظيف المدينة؟ والأهم: ما هو مفهوم سكان المدينة عن الطبيعة والذي يهيب بهم لتنظيف الفضاء الطبيعي؟.

أتذكر أول مرة رأيت فيها كومة هائلة من النفايات في الغابة منذ عدة سنوات مضت. في يوم خريفي رقيق وملون كنا نمتطي جيادنا ونعبر من ساحة السباق في بلدية إنديانا التابعة لبنسلفانيا. وكانت مشاعري منسجمة ومشحوذة وتفكيري ينصب على حصاني. وحالما واجهنا أول منعطف على الطريق، جفل الحصان إلى الخلف وتقريبا أغلق عينيه. ومباشرة رأيت في عرض الطريق أكياسا بيضاء مملوءة بالنفايات، كان رد فعل الحصان فوريا: فالأكياس البيض المليئة دخيلة على نظام الطبيعة واستفزت مشاعره، وتأهبت كل عضلاته للجري السريع. ولم يهدئه غير أساليب التسكين المعتادة: اللمسات اللطيفة على أطراف بدنه القوي، ومحاولات تشجيعه ليلتف من حول أكياس النفايات بدورة لها شكل قوس واسع. وبعد أقل من دقيقة عاود جريه.

النفايات مقلقة فعلا. والأكياس البيض المحشوة بها لم يكن مصدرها هذا المكان. إنها لا تنتمي له. ومن الواضح أنها لم تجد في المشهد الطبيعي موطنها المناسب. جذع شجرة انهار حديثا يسبب القلق أيضا لمخلوقات اعتادت على الحياة الطبيعية. ولكنه سرعان ما يتحلل ويندمج بالغطاء الأخضر ثم الأرض. ويعود من حيث جاء. وهذا ينطبق أيضا على الحيوانات النافقة في الغابة: فهي بدورها أزعجت حصاني، ولكن بعد عدة أسابيع كانت تدخل بالبيئة المحيطة ونمر من جانبها دون أن نلاحظها. ولكن ليس هذا حال أكياس النفايات. فهي لعدة سنوات تخفق وتخشخش بزوائدها البلاستيكية البيض. كما أنها لا تتحلل وتعود من حيث جاءت. وتواصل بقاءها كذكرى دائمة عن دور البشر في مقاطعة المشاهد الطبيعية المستمرة وتلوثها بأشياء هي من صنع الإنسان.

النفايات، من زاوية نظر تكوينية، مادة لا يمكن استيعابها كلها كما هي. وهي لا تتلاشى (أو أنها تتلاشى ببطء شديد) وتدخل في الخلفية وتقاطع توازن المشهد الكلي. والأسوأ، وهو نموذج أوضح، أن كومة نفايات المحيط الهادئ الكبيرة والتي تغطي في بعض التقديرات مساحة من المحيط تعادل "ضعف حجم قارة الولايات المتحدة الأمريكية" (ماركس وهاودين، 2008)، وتتكون من دوامة طافية معظمها يأتي من بلاستيك الأنهار والشواطئ. وهذا البلاستيك يتفكك إلى جزيئات أصغر ويدخل في السلسلة الغذائية. وثلث فراخ القطرس في الجزر المرجانية بين اليابان وهاواي تموت لأن آباءهم يطعمونهم البلاستيك الذي يطفو من نفايات دوامة المحيط الهادئ، وطيور القطرس والسلاحف ليس لديها غريزة تميز بين ذرات البلاستيك ومصادر الإطعام الأخرى - ولهذه المشكلة عواقب كارثية على هذه الأنواع.

الدرس الذي تعلمته من حصاني ومن فراخ القطرس عن النفايات أن البقايا الصناعية تحرف حقل جهاز الإدراك وجهاز الهضم في الكائنات الحية لأنها لا يمكن أن تندمج عضويا بالحياة ودورة التحلل في العالم الطبيعي. وهي إما تبقى مكانها في المشهد الطبيعي كاحتقان مؤلم في وعينا (مثل الثلاجة الصدئة) أو أنها تتحلل بطرق تحويلية تعمل على تسميم السلسة الغذائية (مثل المبردات التي تتسرب من الثلاجة الصدئة وتلوث الماء الأرضي).

***

...................

إيفا سيمز Eva -Maria Simms: أستاذة في قسم العلوم النفسية، جامعة ديوكسن، بيتسبوراة، الولايات المتحدة.

عن كتاب: علم النفس البيئي، الفينومينولوجيا، والبيئة. إعداد د. فاكوش، ف. كاستريلون. ص 237-250

في نصوص اليوم