أقلام ثقافية

محمد العباسي: حمار الحكيم

استقيت عنوان المقال هنا من رواية "حمار الحكيم" من تأليف "توفيق الحكيم " عام 1940م.. وهي رواية تمتاز ببساطة أسلوبها وتصويرها لأحداث واقعية بطريقة لا تخلو من الطرافة والمتعة وذلك من خلال ذكره كيف اشترى حماراً صغيراً من أحد الفلاحين لمجرد أنه أعجب بشكله.. مع ذكره المواقف الطريفة التي حدثت معه عندما اشترى هذا الحمار الصغير وإقامته في الفندق وكيف قام بإدخال الحمار إلى غرفته من دون أن يشعر أحد بذلك.. وركز توفيق الحكيم في روايته على ذكر أحوال الريف المصري وما فيه من الفقر وقلة الاهتمام بأمور الصحة والنظافة عند أهل الريف في ذلك الزمان.

وقد بات الحمار في رواية "توفيق الحكيم" مجرد رمزاً للحوار والسرد الروائي لأحداث سياسية واقتصادية واجتماعية، كما هو حال الكثيرين ممن استخدموا الحيوانات في كتاباتهم للولوج في الأحداث الدائرة في مجتمعاتهم بشيء من السخرية الأدبية، كما يفعل ممن يكتبون في أدب الأطفال والمسرحيات مثلاً، حيث يجعلون الحيوانات مادة مرنة يتلاعبون بها كيفما يشاؤون ووقتما يشاؤون لأسباب كثيرة وأهداف متعددة.. فتكون الشخوص من الحيوانات كالأسد والقط والديك والثعلب والأرنب وغيرها.

أما مقالي هنا فيدور حول الحمار المسكين.. وتساؤلاتي عن حال الحمير بين البشر.. فلماذا خلق الله هذا الحيوان بلا حول ولا قوة، بل ونعت صوته بأنكر الأصوات؟  ما ذنب هذا الحيوان المغلوب على أمره حتى يشقى أغلب عمره في خدمة البشر، وتحمّل شقاء حمل الأثقال وجر العربات والدوران في السواقي وتلقي الضرب بالعصي والمهانة؟ لماذا يختلف هذا الحيوان من حيث المكانة عند البشر عن حال الحصان مثلاً، حيث للحصان عند الناس له مكانة عالية ويرمز للفخر والعزة والدلال؟

قد يجادلني البعض، ولن أختلف معهم البتة، بأن الخيول والحمير والبغال والجمال والأبقار كلها مطايا للبشر وتتعرض لمشقة ركوب البشر على ظهورها وتجر العربات المحملة بالأثقال وتفتقر للحرية في العيش كما تعيش باقي الحيوانات في البراري والسهول وتمارس حياتها الطبيعية في أرجاء الطبيعة.. تقتات وتتزاوج وتتصارع فيما بينها حسب قوانين الطبيعة الحيوانية، بل وقد تتعرض بعضها لهجمات الحيوانات الكاسرة كالأسود والذئاب والضباع وغيرها من الحيوانات الآكلة للحوم.

لقد لخص الأستاذ "أحمد شمس الدين" (القبس) قضية حمار فقد صبره ولجأ للانتقام من مالكه العنيف معه بقوله "لقد قتلوك يا حمار واحرقوك وتخلصوا منك".. فقد خرج حمار "موجوع" عن صمته وصبره وجلده وقوة تحمله، ليوجه لصاحبه "عضات" حاول من خلالها استرداد كرامته المسلوبة، وهو يتلقى الاهانات، إما ضرباً مبرحاً وإما دفعاً أو حتى رفساً، وهي صفة "حمورية" بحتة!  ويشرح من وجهة نظره ما يتعلق بالحالة النفسية الصعبة والوضع المهين الذي اوصله اليه صاحبه، حتى أفقده صوابه، وأخذ ثأره بنفسه عندما قام بعضه في وجهه، ربما انتقاماً من "البوكسات" التي تلقاها على وجهه الحموري ورأسه الصلب، وقام بعد ذلك بقطع جزء من لحم فخذ صاحبه واستمر في رفسه بهدف قتله، لولا تدخل العناية الإلهية التي انقذته على يد أهله وأصحابه الذين هبوا لنجدته!

ويضيف "شمس الدين" بأن الحمار الصبور حسبما أفادت الصحف تحول فجأة الى "مسعور" وحتما لهذا السعار "الكلبوي" اسباب يمكن تلخيصها في تلقيه الاهانة العميقة، والاسلوب اللاإنساني أو "اللاحموري" الذي كان يتعرض له يومياً، على يد صاحبه الغليظ القلب، ولو كان الحمار على قيد الحياة حتى لحظة كتابة هذه الأسطر لربما سرد لنا ما مر به طوال فترة خدمته لبني البشر!  ولأن الحمار معروف بالصبر والجَلّد وقوة التحمل، فإنه بات من الاهمية بمكان ان نضيف لصفاته صفة الكرامة، وعدم قبوله بأي نوع من انواع الضرب والمهانة، لا سيما إذا كان الضرب من نوع "الطراقات والبوكسات"!

في حالة حمارنا هذا، يجب ان نقف جميعاً وقفة تأمل انسانية، والنظر بعين العطف لعموم حمير العالم، وأخذ الحيطة والحذر والتفكير العميق مليون مرة قبل الاقدام على اهانتها، لان العابثين بمصائر الحمير ونفسياتها أيا كانت جنسياتهم، سيكون مصيرهم وجزاؤهم العض العميق والرفس والدوس والنهيق، احتجاجاً صارخاً على المعاملة الدونية لأكثر حيوانات العالم ذكاءً واقواها تحملاً، وصبراً وجَلَداً، وخدمةً لبني البشر، منذ بدء الخليقة وحتى قيام الساعة.  للصبر حدود يا بني البشر، رسالة قوية يرسلها كل حمار "مظلوم" في أصقاع المعمورة، ولنا في ذلك "الحمار الدرعوي" خير مثال، على نفاد الصبر.. فهل يا ترى نتعظ؟!  أو هل نجتمع كلنا لمناصرة الحمير كما فعلت ممثلة الإغراء الفرنسية "بريجيت باردو" قبل عقود من تبنيها ومناصرتها لحمير العالم؟

ويقول في شأن الحمير الأستاذ "خالد القشطيني" (الشرق الأوسط) بأن الحمار "مركوبٌ ومضروبٌ"، أي "مطلوبٌ ومذمومٌ".  نركبه بسبب كسلنا ونضربه ليسرع بنا.  ولكنه أيضاً "مركوبٌ ومشتومٌ"..  فنحن نصف أي امرئ غبي بأنه حمار.. فالحمير عندنا مذمومة بشكل عام. يصفون أي موظف أو طالب أو حتى طبيب فاشل بأنه حمار..  وهي مسبة لكل عشيرة الحمير.. ننسى فضله علينا.. ولكن للحمير عند الغربيين مكانة خاصة.. فهناك في بريطانيا مثلاً جمعية كبيرة باسم جمعية الرفق بالحمير.. بل وحتى عندنا فقد تم اقامة عدة مستشفيات وملاجئ وجمعيات للحمير في الشرق الأوسط، في مصر والأردن والسودان ولبنان.

الحمار في الحقيقة حيوان ديمقراطي لأنه "مَركَبٌ" للبسطاء والفقراء - في حين أن الحصان حيوان أرستقراطي.. والحمار أيضا حيوان مسالم يؤمن باللاعنف.. فلم نسمع عن فارس يخوض الحرب على ظهر حمار.. وهذا من أسرار حب الأوروبيين له.. فهم يتذكرون بأن "السيد المسيح" عليه السلام عندما ذهب إلى القدس كان راكباً حماراً.. وفي ذلك رمزية عن التواضع والفقر والسلام.. وكثيرا ًما نلاحظ الأجانب يهرعون إلى أي حمار يصادفونه فيمسحون على رقبته ويغازلونه ويشاركونه بما بأيديهم من طعام، آيس كريم أو حلويات أو كعك ونحو ذلك.

أما الحصان مثلاً، رغم علو شأنه بيننا، فهو الآخر في أحيان كثيرة يتعرض للصعاب.. ندخل به الحروب ونمارس على ظهره بعض الرياضات والسباقات.. ويتعرض للجلد والتعنيف.. وكذلك الحال مع البغال والجمال أيضاً، حيث نمارس ضدها الكثير من الممارسات الشاقة ونحرمها من حريتها وممارسة حياتها الطبيعية.. لذا أتجرأ هنا وأتسائل عن عدالة السماء في خلق هذه الحيوانات وتسخيرها لخدمة البشر وعيشها في شقاء وبلاء ومهانة؟

ويمكن بشكل عام القول بأن القرآن الكريم قد بين أن الحيوانات سُخرت لخدمة الإنسان، ولكن في نفس الوقت يفرض على الإنسان المسلم معاملة الحيوانات بلطف ويمنع أي إساءة لها.. الحيوانات، مع سائر المخلوقات، يُعتقد أنها تعبدُ الله بالرغم من أنها لا تعبّر عن ذلك بلغة البشر.. وقضية الرفق بالحيوان هي الأخرى مثار للجدل والنقاش بين الكثيرين، وتتفق معظم الآراء على مبدأ إنساني أخلاقي إسلامي، يقوم على العطف على الحيوانات وتقديم الرعاية لها، وقد حثت التشريعات الإسلامية على الأمور التي تتحقق بها رحمة الحيوان، وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) خير أسوة في ذلك، فلخص لنا منهجاً كاملاً في كيفية العناية بهذه الحيوانات بشكل عام.. ربما من أهم الأمور المرتبطة بالرفق بالحيوانات هي كلمة "الرفق"، أي مراعاة مشاعرها كونها كائنات حية لها حقوقها وعلينا واجبات تجاهها.. فيتوجب علينا إطعامها وتقديم النفع لها واستخدامها بالمعروف.. وقد توعد سبحانه وتعالى أشد الوعيد كل من ملك حيواناً وفرط فيه دون إطعام أو شراب.. وقد تم تحريم اتخاذها هدفا لأي شكل من المبالغة في تحمليها فوق طاقتها لما لذلك من آثار سلبية على نفسية الحيوان، ولان هذا يدخل ضمن ممارسة العنف ضدها وذلك حرام شرعاً.

بل ويتوجب علينا الإحسان إلى كل الحيوانات حتى عند الذبح من أجل الطعام، وذلك بذكر اسم الله عند ذبحها واحترام حقها في موت رحيم دون ألم أو تعذيب.. ويتوجب علينا من الناحية الأخلاقية والدينية إنقاذها إن كانت في محنة أو مأزق، كمن سقط من الحيوانات في بئر أو حفرة أو غرق أو تعرضها للإصابة البدنية.. بهذه التعليمات السامية، التي تدعو إلى احترام حقوق الحيوانات في الحياة باطمئنان، يقدم ديننا الحنيف أروع مثال في الرفق بالحيوان والحرص على حقوقه، فحث الإنسان على أن يكون رفيقاً به، لما يترتب على ذلك من أجر وثواب.. وربما نتذكر قصة تلك المرأة مع الهرة كمثال على حث المسلم على عدم التسبب في أذية الحيوانات.

فما بال من تعارفوا على رياضات كمصارعة الثيران والديوك والكلاب والجِمال، وتؤدي بعضها للموت أو الإصابات والتعذيب والمهانة؟   وكذلك الأمر مع سباقات الخيل والجمال وغيرها.. وماذا نقول في شأن من يقتلون الحيوانات والطيور باسم رياضة الصيد؟   وكيف نتقبل تحميل بعض الحيوانات مثل الحمير والبغال والجِمال أحمالاً فوق طاقتها الطبيعية؟   وأميل هنا أيضاً لمساءلة من يقتنون الطيور في أقفاص، أو يربون (أو يحكِرون) الحيوانات "الأليفة" في المنازل، حيث تعيش تلك في بيئات غير طبيعية، بالرغم من تلقيها المأكل والمشرب والرعاية.. لكنها في نهاية المطاف تكون محرومة من ممارسة الحق في حريتها بغير حق!!   بل والأقسى يكون عندما تتخذ بعض العائلات من عملية اقتناء القطط والكلاب الصغيرة من أجل أهواء وقتية قصيرة المدى ثم يتخلصون منها برميها في الطرقات والبراري وهي لم تتعود قط على تلك الحياة فتكون ضحية للحيوانات الأخرى والجوع والعطش وتقع فريسة للأمراض، بل وبعبث بعض الأطفال الجهلاء ممن يجدون متعة "سادية" منحرفة في سوء معاملتها وتعذيبها، بل وقتلها بلا رحمة!!

***

د. محمد العباسي - أكاديمي بحريني 

في المثقف اليوم