أقلام ثقافية

محمد حسين النجفي: الحب القاصر

قصة فتاة من عين تمر

هاجس الخوف والرعب لا يفارقها، وتحس احياناً ان أهلها على مقربة منها، وانهم على وشك العثور عليها، فيختض جسدها ويتصبب العرق من جبينها وترتجف اوصالها، لأنها تتذكر وهي طفلة كيف ان اخاً في حارتهم نحر اخته من الوريد، وغطاها بعباءتها السوداء، وتركها ممددة لساعات، وكيف ان دمائها نفذت من تحت عباءتها لتشكل بُركة صغيرة من دماء ضحية الأعراف والتقاليد والجهل المدقع. لم تستطع "هدية" ان تبعد شبح الخوف والرعب من المصير المحتمل، وتُذكرها هذه الهواجس بقصتها التي مضى عليها أعوام إلا انها مازالت مُعشعشةٌ في مخيلتها في منامها وفي صحوها.

فقبل ان يكون هناك اضطهاد سياسي او استغلال اقتصادي، كان هناك تعسف وعنف وظلم اجتماعي. ولعل التاريخ يُخبرنا من ان المضطهِدون هم رجال العائلة، والمضطهَدين هم عادةً اطفالها ونسائها. وهكذا بدأت قصة فتاة من مدينة نائية في صحراء محافظة كربلاء. مدينة يُضرب بها المثل: "يريد شفية من شفاثة". وشفاثة هو الاسم الشائع لمدينة بُنيت حول واحة من نخيل التمور وعيون كبريتية، ذات الرائحة الكريهة، توصف للاستحمام بها لمن يشكو من امراض جلدية.

شفاثة هو الاسم الدارج للمدينة، اما اسمها الرسمي فهو "عين تمر" التي أصبحت ناحية من نواحي محافظة كربلاء بعد ان كانت واحة نخيل ومياه معدنية في الصحراء الغربية. كانت هذه المدينة تعيش في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وربما لا زالت على قيم بدوية وريفية، وضمن البعد الرجعي لهذه القيم.

علمت "هدية"، وهي فتاة قصتنا، من ان عائلتها تُسهل امر زواجها لرجل من عُمر والدها، لتكون الزوجة الثانية، الصبية القوية التي ستخدم الزوج والزوجة وابنائهم. هدية أُجبرت على ترك الدراسة بعد المتوسطة، لتكون المساعدة واليد اليمنى لوالدتها في شؤون البيت وفي الخياطة والتطريز وتصليح الملابس، حيث كانت أمها خياطة المحلة التي تسكن فيها، حينما كانت العادة في ذلك الزمان، شراء اقمشة من التجار ثم الذهاب للخياط او الخياطة لتفصيلها على المقاس.

وعلى الرغم من ان هدية لم تكن مثقفة، وليست ناشطة سياسية للدفاع عن حقوق المرأة، إلا انها احست بالغبن وعدم التكافؤ، ومن ان زواج كهذا سيكون مجحفاً بحقها وسوف لن يكون مناسباً لها. تحدثت الى أمها عدة مرات، إلا انها كانت تسمع نفس الجواب كل مرة: يا بنتي الشور شور الحجي، وهو أدرى بمصلحتكِ مني ومنكِ. فقدت هدية الأمل بعد ان سمعت إجابة والدتها مراراً وتكرارا.  بدأت التفكير في حلً ينقذها من هذا الزواج، تذكرت صديقة طفولتها "غنية" التي رحلت الى بغداد للعمل في شارع النهر، وهو الشارع الذي تتسوق منه نساء بغداد أجمل الملابس والإكسسوارات.

استجمعت هدية قواها مع قليل من النقود، وهربت في صباح مبكر الى كراج بغداد الذي اوصلها الى كراج علاوي الحلة في بغداد، ومن هناك ذهبت الى شارع النهر للبحث عن بنت مدينتها التي ربما مرت بظروف مماثلة لها. أرهقها البحث عن غنية، إلا ان الحظ حالفها وعثرت عليها بعد ان امتلكها الذعر، لأنها لا تملك أي بديل سوى العثور عليها. تعمل غنية في محل لبيع بدلات العرائس للعوائل الراقية، محلاً واسعاً يُعرض فيه آخر التصاميم الفرنسية والإيطالية ومُجهز بورشة خياطة وتصليح متكاملة. زبائنهم نخبة العوائل الأرستقراطية والغنية من سكنة المنصور والأعظمية والكرادة الشرقية.

اصطحبت غنية هدية الى مسكنها الذي هو غرفة مؤجرة في بيت شرقي في حي "عكد النصارى" من الجهة الثانية لشارع الرشيد. حديث طويل بين الصديقتين لم يسع الليل كله، لسماع الحكايات وتقاسم الهموم والتأفف والاحساس بالضعف والهوان لما قام به أهاليهم من ظلم وجور عليهن.

استطاعت غنية ان تقنع "طارق" ابن صاحب المتجر، ان يوظف هدية في نفس محل بدلات العرائس، كمساعدة لها في خياطة بدلات العرائس لجميلات بغداد. طارق الأبن الأكبر لصاحب المتجر، يساعد والده في مسك الحسابات، كان طالباً في كلية الإدارة والاقتصاد، ولديه مزاج في العمل التجاري الذي يرى فيه مستقبلاً له.

لفتت عاملة الخياطة الجديدة انتباه طارق، التي كانت تحاول إخفاء وجهها ووجودها في الورشة، متذكرة دائماً ان أهلها يبحثون عنها ولن يرتاحوا حتى يجدوها لتلقى المصير المحتوم. أخذ الفضول مجراه عند طارق مما اضطره لسؤال غنية عنها، واستمر في طرح الأسئلة محاولاً معرفة تفاصيل تحاول غنية عدم البوح بها. انزعجت غنية من اهتمام طارق بصديقتها هدية، ربما لأنها كانت مولعة به او كانت تتأمل ان يهتم بها بدل انشغاله بصديقتها.

لمحت هدية محادثة غنية مع طارق، وساورتها الشكوك من خلال النظرات والإشارات من ان الحديث كان حولها، صاحب ذلك شعور متناقض بالخوف والقلق من جهة والتطلع بطموح لمستقبلٍ أفضل من جهة أخرى. مستقبل زاهر في بغداد الجميلة التي انبهرت بمحلاتها وحدائقها وشوارعها العريضة.

لم تكن هدية فتاة جميلة وفق المعيار البغدادي، لم تكن نحيفة ولا طويلة، ليست بيضاء وشعرها لم يكن ذهبياً وعيونها لا زرقاء ولا خضراء، إلا ان دمها كان خفيفاً وجمالها فطريٌ، سمراء ذات عيون بدوية سوداء وواسعة وحواجب عريضة وصدر شامخ وجسم ممتلئ بأنوثة صارخة. وجهها دائريٌ قمري، خدودها تفاحية الشكل، يمنحان ابتسامتها رصعةٌ توحي ببراءة طفولية.

بحكم موقعه وطبيعة حياته الاجتماعية يتعايش طارق مع الكثير من الفتيات الجامعيات الجميلات، الأنيقات في الملبس والخبيرات في فن المكياج المُجسم الذي يبرز الأنوثة من بين ثنايا رتابة الزي الجامعي الموحد. إلا انه وجد في هذه الفتاة القادمة من اقاصي العالم، من مدينة لم يسمع بها من قبل، نكهة حُسنٍ مفتقدة في الأكاديمية وفي احياء ونوادي بغداد الأرستقراطية، طبيعية غير متصنعة دون مكياج او تجميل مبالغ به، بسيطة في الكلام، عفيفة النفس رغم صعوبة الحياة التي تمر بها. تلك هي عاملة الخياطة الجديدة التي بدأت تأخذ حيزاً كبيراً من تفكير طارق.

حاول طارق ان يلفت انتباه هدية عدة مرات، يزور ورشة الخياطة لسبب او بلا سبب، علماً ان طبيعة عمله لا علاقة لها بورشة الخياطة. إلا ان هدية كانت تتصنع عدم الانتباه لذلك، لأنها تعلم بالفوارق الطبقية والاجتماعية والثقافية بينهما، كما انها لم تلق تشجيعاً من صديقتها غنية التي كانت تنصحها على تجنب ذلك والتركيز على مستقبلها.

استطاعت هدية من إثبات مهارتها وجدارتها في الخياطة كي تحافظ على مصدر رزقها ومعيلها الوحيد. ومع مضي الأيام، بدأت بالتعرف على مدينة بغداد أكثر، والاعتماد على نفسها في الأمور الحياتية، وتدريجياً بدى عليها الاعتناء بنفسها من حيث الشكل والمضمون. تخلصت من ملابس عين تمر وابدلتها بملابس جديدة اشترتها من شارع النهر الذي تعمل فيه. لمّعت من مظهرها كثيراً دون ان تتجاوز الحدود المعقولة لما تربت عليه واعتادت على تقبله.

التغير الرئيس الذي تسعى هدية لبلوغه هو حصولها على التعليم الذي حُرمت منه، او بمعنى اصح حرموها منه. لذا قررت التسجيل في ثانوية مسائية للبنات، وركزت على ذلك واخذت تشعر ان حياتها بدأت تأخذ المجرى الذي كانت تصبو اليه. إلا انها لا يمر يوم لا تتذكر فيه والدتها وابيها واخوتها والجيران وصديقات الطفولة، وتحن الى شفاثة، رغم انها تعلم علم اليقين انها أصبحت مُحرمة عليها مدى العمر.

فاجئها طارق نهاية دوام أحد الأيام ليتحدث معها عن مشاغل حياتها وما إذا كانت بحاجة لدعم او مساعدة معينة. شكرته واظهرت امتناناً صادقاً لمنحها فرصة العمل بورشة والده، ومن انها سعيدة على هذه الحال. لمّح لها طارق انه معجب بها دون ان يضغط عليها او يطلب منها شيئاً. لم تستغرب كثيراً رغم انها تظاهرت بالاستغراب، مع ذلك انحرجت فعلاً وتلعثمت في الحديث لعدم وجود سابقة لها في امر كهذا.

تركت الورشة ذاهبة الى المدرسة وهي تسير كفراشة تسبح في ربيع منتزه مليء بأنواع الزهور. راودتها رغبة مُلحة في الانغماس في تجربة العشق والحب والغرام، بدأت تفكر ان طارق مفتاحها لحياة أفضل، إلا ان وعيها الفطري كان دائماً يوقظها من أحلامٍ تعلم هي قبل غيرها انها صعبة المنال.

أدرك طارق الوعي السياسي ابان ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958، وتأثر الى حد كبير بالروح الوطنية للزعيم عبد الكريم قاسم، وللفكر اليساري الذي يدعو الى إزالة الفوارق الطبقية والاجتماعية ويدعو الى تحسين حياة الفقراء. إلا انه رغم ذلك ابن عائلة برجوازية متمكنة ويتمتع بمزايا مادية واجتماعية، لا يمكن ان يتنازل عنها، وان حبه للفقراء مجرد مشاعر وامنيات مثالية لا تعني ان يمزج حياته بحياتهم او حياتهم بحياته.

إلا ان الشرارة التي نتجت عن احتكاك حجرين، أصبح من الصعب اطفائها دون منحها الفرصة للاحتراق والتحول الى رماد لا حرارة فيه ولا دفئ يحتويه. طلب طارق من هدية ان يُريها بغداد في الليل من خلال جولة في سيارته. اعتذرت منه عدة مرات بحجج واهية في معظمها، إلا انها رضخت في النهاية لأنه كان في طلبه لحوحاً بأدب، ولأن مشاعر الهوى بدأت تأخذ منحاها اليها.

تكررت رحلات السيارة لتشمل كورنيش أبا نوأس ومنتزه الزوراء وسينما النصر، وووو. وفي جلسة شاعرية في مطعم فوانيس في السعدون، صارح طارق هدية من انه معجب بها ويريد ان تتطور العلاقة بينهما نحو اشباع أكثر. في مفهوم هدية لا يعني ذلك إلا الزواج، بينما أراد طارق ان يطور العلاقة عاطفياً دون ربطها بالتزامات رسمية. وفي كل مرة كانا يتقاربان جسدياً أكثر من سابقه، مسكةٌ يد من هنا ولمست شعر من هناك ودغدغتٌ من هنا وهناك. كان الإثنين يتحسسان هياجاً في المشاعر تتوج كل مرة بقبل حارة وعناق طويل.

وعد طارق ان يأخذ هدية معه في سفرة الى بحيرة الحبانية. فرحت بذلك كثيراً، لأنها سمعت الكثيرين يتحدثون عنها. كعادتها خلعت هدية عباءتها قبل الصعود الى سيارة طارق، وزهت مفاتن جسدها رغم مقاومة ملابسها الجديدة لحجبه. توقف طارق امام مكتب إدارة المنتجع السياحي ليستلم مفتاح الكابينة المحجوزة له. استغربت هدية بعض الشيء لذلك. كان في تصورها انهم ذاهبون للحبانية كي يجلسوا على رمال شاطئها ويلعبوا في مياه جرفها. دخلا الكابينة، وقبل ان يمضي وقتاً طويلاً تقدم طارق وحضنها، ارتجفت وشعرت بجمال العاطفة التي اهتز لها بدنها بجميع اركانه. استمرت القبلات الحارة بينهما حتى مسك بيديه وسطها ليمددها على السرير، رفع رأسه كي يقبلها لتصدمه رؤية دموعها، أهي دموع فرح! أو دموع خوف! ام دموع رجاء! وكأنها تقول له انني في حالة خضوع وضعف شديد يا طارق، فلا تستغل ذلك وتغدر بيّ.

انتبه طارق الى طبيعة دموعها وعرف معناها دون ان يستجوبها. زرع قبلة حنان على جبينها وساعدها للجلوس على السرير بدل الاستلقاء عليه. أحس طارق بذنب كبير، خجل فيه من نفسه وحاول ان لا تتصادم نظرات عيونهما. ظل يفكر ماذا لو استمر الحال وحصل ما حصل! ما سيكون مصيرها وما سيكون مصيري! واخيراً استجمع قواه وقال لها ما رأيك ان نأكل شيئاً في الكازينو ثم نذهب كي "نُطبش" في الماء. لمعت عيون هدية وبكت بحرارة هذه المرة من الفرح، ومن ان طارق الشهم لم يغدر بها، لا بل حتى حماها من رغبة مُلحة في نفسها.

استفاق الأثنان بعد ذلك اليوم من الحلم الجميل. ليسأل طارق نفسه عدة مرات، هل ان هدية ممكن ان تكون الزوجة المستقبلية له! هل يحبها لدرجة مستعد بها ان يخالف عائلته! ما هو مستقبل العلاقة بينهما، هل ممكن ان تتقبله بعد ذلك، هل انه مستعد ان يقطع علاقته بها، أسئلة وتساؤلات كثيرة ومتعبة لا أجوبة محددة لها، ومرت الأيام ولم يستطع ان يحزم امره.

وسألت هدية نفسها هل انها مُستعدة ان تقيم علاقة لا تؤدي الى الزواج، وهل ممكن ان يتزوجها طارق في يوم ما! وحتى لو أراد ان يتزوجها، هل هو الشخص المناسب لها، هل ان عائلته ستتقبلها كزوجة بالتمام والكمال، ام انها ستكون الزوجة الفقيرة التي يعتمد عليها في الشؤون المنزلية!

ربطت هدية هذه العلاقة مع طارق بما حدثت لها في عين تمر، ووجدت ان الحالتين متشابهتين، ستكون الطرف الضعيف والمُضطهد في العلاقة. لذا قررت هدية ان تبني مستقبلها بعيداً عن شارع النهر الذي تحول الى شارع للحب الممنوع، واتخذت قرارات شجاعة تنم عن فطرة صلبة، فبحثت عن، ووجدت عمل في معمل للخياطة في مدينة الكاظمية، بعيداً عن صديقتها غنية، وبعيداً عن حب قاصر، لا تستطيع مقاومته إلا بالابتعاد عنه، ولتبقى ذكرى طارق في القلب خالدة كتجربة حب ومشاعر جميلة، لا عائقاً او معوقاً لمسيرة حياتها، ولتكون قصة مضافة لكتاب كان يا ما كان.

***

محمد حسين النجفي

في المثقف اليوم