أقلام ثقافية

أمين صباح كُبّة: المقامة الخَوليّة

روي عن ماجد بن وسام أنّه قال:

عدت وأنا حانقٌ ومجبور، إلى أرض قاع الهامور. فقد أعادني صاحب هذه المقامات، لأخفّف عنه الملمّات. وقد اهتدى مع هيئة الحكّام، أن يعيدوني إلى واجهة الكلام. وها أنا أروي ما جرى من أتراح، عندما قابلت خولة بنت وشاح. فالأخبار في قصّتي متكاثرة، والأقاويل التي رَصَفتها متناثرة، والأذهان في وصفها حائرة. فقد أُترحت بالبعد والهجران، وانتشرت سيرتي مصحوبة بالأكاذيب والبطلان.

وإنّما أروي حديثي بداعي التخفيف، لأنقّيه من كلّ حَيف. قابلتها في وادٍ ملعون، فيه تتبرقل العيون، ولا تغمض الجفون، الأشباح في سماواته عائمة، ووجوه الخلائق فيه غائمة، لا فرح فيه ولا سرور، وتحسب فيه أنّك في طقوس البعث والنشور، يتبرّأ فيه المرء من أخيه، وأمّه وأبيه، وصاحبته وبنيه، وعشيرته التي تؤويه، وجوهٌ عليها غبرة، تزهقها قترة، تنظر فيها فتحسب أنّك نكرة. لا فنّ يعصمك من قباحته ولا مواهب، ولا عملًا تؤديه ولا واجب. فواجبك فيه مضغ السِيَر، ونهش البشر، والوقوف على العِبر، وفيه خولة صورة الصور، وعبرة العبر، وناقوس الخطر، وأدهى من نكّى وأڤوَر، وابلى من تنَعوصَ وتبختر، لها وجهٌ من تشابكات ألوانه تغلي الأبدان، ويصحو السكران، ويعتزل الغزل عند رؤيته كل شاعر ولهان. وأنا رعاكم الله قد بليت بهذه السحنة، وأُحييت بهذه المحنة . وإلّا فما حاجة أمين بي بعد كلّ هذه السنوات بالتفريغ والكلام؟ وما غايته في إحياء سيرتي أنا ماجد بن وسام. فقد خصّص عافاه الله اسمه للوعظ والغزل، وخصّصني للهجاء والجدل. وقد قُفلت حكايتي بالضبّة والمفتاح، حتّى قرّر أن يكتب عن خولة بنت وشاح. وهذا والله حديثٌ طويل لا يرى النقّاد والقرّاء ولا حتّى كاتبه فائدة منه. أذكرها وقد صالت وجالت، ومالت وجادت، ليتكم رأيتموها عندما لوثّت الآذان بمخارج حروفها، صوتها كصافرات الإنذار، ولا تكفي وصف بشاعته المقامات والأخبار. قالت ماجد أبلى من التفّ واختلف، قد قصف الوجوه وألوانها، والأنوف وأحجامها، لا يفقه بالعمل وغاية وجوده إثارة الجدل. فقلت خولة صوت الوتر إذا نعّر، وشكل القوس إذا انكسر هي صورة من صور، وهي المصائب والتباريح. هي لوحة بلا تفاصيل، وقصّة ليس لها تأويل، شكل الجرح إذا تقرّح، وريح الإبط لمن لم يسبح، في مناقبها يتلعثم اللسان، وفي سيرتها تحتار الأذهان. قالوا يا ماجد ما الذي أنطقك، وعلى الخلائق سلّطك، فسيرتك وإن جادلوا فيها مغمورة، وأحاديثك وإن انكشفت مستورة، فقلت يا أهل هذا القاع، ويا سكّان البقاع، بليت بألوانٍ عمتني وبأصواتٍ لوثّتني وبآفاتٍ عدتني. وقد تعدّت سيرتي التاروت والخيرة، وأصبح الناس عن أمري في حيرة، فقد تعديت شيخي ورفيقي علي بن أبي ناصر الرسّام أطال الله عمره، وصرت أعبث بمصائر الخلائق وأحرّكها يمنة ويسرة، وأمّا عن وصفها بالبطّة فقد حار القرّاء فيه واختلفوا وأطالوا والذي أذهب إليه أنّه يشير إلى سماتها المميزّة، وسلوكيّاتها المقزّزة، ومرونتها الزائدة، وسيرتها البائدة، وإلى مساحيقها المبتذلة، وإلى من شوهّت سيرتهم بالتفريق والتذريع، وإلى من عابتهم بقولها الشنيع. وما من عادتي الروي بهذا السياق رغم أن سيرتي مصحوبة بالرياء والنفاق. فلا عيب أخشى من ذكره، ولا حبيب أخشى من هجره . وقد دوّنته في منتصف آب اللهاب عسى أن يدلّني الله على الصواب.

٢

روي أنّ شيخنا علي بن أبي ناصر الرسّام قد عقّب على هذا الحديث فقد اهتزّ عند ذكره بدنه ، وتغيّرت عندما سمعه لكنته فكتب لرفيقه وهو يقول:

غفر الله ذنبك يا ماجد، وبرّد قلبك المهموم الفاقد. أمّا بعد فما عهدتك تتنابز بالألقاب، ولا سمعت منك يومًا رغم حيلك سوء الخطاب، وإنّما أنت من الناس من ساعدهم وجاد لهم، حتّى وإن آذوه وجادلهم. وانت الذي تحثنا على أن نداري أوصابهنّ، وتذكّرنا أنّ الرسول صلوات الله عليه قد أوصى بهنّ. وأعرفُ أنّ مصاحبة الحمقى والأغبياء حملٌ ثقيل، لا تقوى على حمله، وأعلم أنّ الوحدة قاسية وإذا أجتمعت مع الهزيمة على قلب رجلٍ حطّمته. وهذه محنتك يا أخي فاتعظ منها وتوكّل على الله إنّه بعباده رؤوفٌ رحيم.

خاتمة

قال ماجد بن وسام :لمّا قرأت كلام رفيقي وشيخي هممت بالبكاء، وحمدت ربي على هذا البلاء. واعتزلت الهجاء. ورحت أسير مبتسمًا في الممرّات، متناسيًا هموم ما فات . فإذا بي ألمح خولة تدخل غرفته على عجل ثم التفّت مع صويحباتها حوله وطافوا، وارتجف الأنام عند رؤيتهم وخافوا. قالت: يبلغك الشيخ السلام، ويقول كفّ عن الجدل، وارجع إلى الغزل. فإنّك وإن غفلت صاحب مقامات. ولك إن كتبت وطبّلت مكافئات وإجازات. فشتمتهم جميعًا وخرجت.

***

أمين صباح كُبّة

في المثقف اليوم