أقلام ثقافية

لمى ابو النجا: معاناة ثمانينية

قضيت سهرة في حوار إستنزف طاقتي وأعصابي مع مراهقي جيل الألفية كنت أحكي لهم عن مراهقتنا وعن تلك الفجوة السحيقة بين الأجيال..

أنا من جيل الثمانينات الجيل الذهبي  الذي شهد صراعات وحروب وبداية تحول العالم إلى التطور التكنولوجي الممل الباهت وغياب للمتعة الحقيقية. شهدنا حرب الخليج وغطينا نوافذنا بأوراق الألومنيوم والأكياس السوداء في حالة من الرعب والترقب والكثير من الأمل، أقمنا في منزل عمي الأكبر رحمه الله مع عائلة من أشقائنا الكويتيين لعدة أشهر،  كأطفال كنا نلعب في الفناء ثم ننقسم إلى أحزاب وينشب نزاع حاد على قطعة حلوى ينتهي حالما تنزل أمهاتنا ليخبروننا أننا إخوة نحضن بعضنا ونتقاسم الحلوى بالتساوي ثم نتعاهد على الصلح.

عند كل صافرة إنذار يحملني أخي على أكتافه قائلاً "عند بدء الصافرة يستطيع بابا سماعنا" ألوّح لأبراج المراقبة والأقمار الصناعية بكل قوتي وأصيح في الشارع وأنا على يقين تام أن صوتي سيصل إلى والدي المرابط في الجبهه كي يعود إلينا سريعاً، لا أذكر كيف إنتهت الحرب ولا متى ولماذا بدأت ، معتقدة أن الحرب كان من الممكن أن تنتهي كما ينتهي شجارنا في الفناء، تأتي أمهاتنا ويذكروننا أننا إخوة ثم نتقاسم الحلوى بالتساوي ونتعاهد على الصلح ، يؤرقني سؤال "كيف لنا كمسلمين أن نقتل بعضنا؟"  أسأل بقلب طفلة يلتهمه الحيرة ولم أتلقى إجابة مطلقاً.

في الحب..

كفتيات إستشعرنا معنى دعاء "اللهم إنا نعوذ بك من كآبة المنظر وسوء المنقلب" ورأينا "كآبة المنظر" أمام أعيننا ، شباب يتصرمحون في الشوارع بأشمغة الكوبرا يتجولون بسيارات من نوع "الكوريلا والكامري والكرسيدا" يمسكون بلوحات بيضاء مكتوب عليها رقم هاتف بأكبر خط ممكن يعبرون عن إعجابهم عبر أغاني مسرّعة وبمعجزة ما كانت أسماؤهم جميعاً "فهد أو خالد"

أما "سوء المنقلب" فهو وقوعنا بالحب.

ومع ذلك وبالرغم من كل الرذى أحببنا بصدق..

لعنّا المسافات وكرهنا البعد، وعرفنا ماذا يعنيه الشوق والحنين،إشترينا بطاقات  "ألو وزجول" للإتصالات المحلية والدولية وتعلمنا أن نقول كل ما أردنا خلال عشرة دقائق لأن الوقت والظروف المادية لم تسعنا لدفع ثمن بطاقة أخرى فضلنا أن نوفره لشراء "كاسيت" لألبوم أغاني كاظم الساهر وماجد المهندس وإيهاب توفيق وأغاني الزمن الجميل لنشغله في محادثتنا القادمة على مسجل محمول ونسمعه للحبيب.

تعلمنا كيف نحشو كلماتنا بالعاطفة بأي طريقة نعبّر؟ وأي شعر نقرأ؟ وهل نتكلم نحن ونعترف بكل صراحة وجرأة؟ أم نختبيء خلف أغنية؟

كان إشتياقاً حقيقياً ساخناً موجعاً، شعوراً يختلف كثيراً عن الشوق الإفتراضي الآن..

قرأنا دواوين نزار قباني والأمير خالد الفيصل وكبرنا على قصص الحب الخالد والعذري. في صالوننا مسجل قديم يعود لجدي وإسطوانات أغاني أم كلثوم وعبدالحليم حافظ ،كنا نجلس على ضوء الشموع وتلك الألحان تصدح بالمكان بسهرة شاعرية دافئة مع أمي وخالتي وعماتي يحكين إلينا عن زمنهم الجميل ويشتكين أيضاً من صراع فجوة الأجيال..

كتبنا رسائل ورقية مرفقة مع صورنا التي انتظرنا تحميضها ووضعنا معها ورود حمراء ذبلت وماتت في طريقها الشاق للحبيب  إحتفظنا بها في علب حديدية بمفتاح صغير لايملكه سوانا، ذهبنا لغرف كبائن الإتصالات لمحادثاتنا العاطفية وعرفنا معنى السرية، معنى الخصوصية ، معنى القداسة قبل أن يتجسس علينا العالم..

رغم أنني كنت صغيرة جداً على الحب لكني أردت دوماً أن يعترض طريقي بالصدفة وأعيشه على تلك الطريقة التقليدية.

دائرة معارفنا محدودة ولاتتخطى الجيران وصديقات المدرسة لعل هذا ما أضاف لها عمقاً إستثنائياً ، لم نمتلك وسائل ترفيه كبيرة لهذا كان علينا أن نخلق متعتنا بأنفسنا..

إعتدنا انا وبنات الجيران أن نجتمع في السطح نحضر الكعك والشاي والقهوة العربية وسجادة حمراء نجلس عليها نخبيء مسجل صغير لسماع أغاني عبدالكريم عبدالقادر بصوت منخفض  خوفاً من أن يصعد جارنا الملتزم ويكشف أمرنا،نصغي بإنتباه إلى قصة الحب السرية لجارتنا بإعتراف إنتظرناه سبع سنوات نتجاوز حقيقة أن ذلك الحبيب الشبحي لايعلم عنها شيئاً وأن قلبه مع فتاة أخرى ..لم يكن المكان ولا الأجواء شاعرية بل كان سطح يعلوه الغبار تتدلى منه الأسلاك الكهربائية وخزانات المياه وحبال الغسيل، يختلط صوت عبدالكريم عبدالقادر بأغنية "الحب لك وحدك" مع صراخ الأطفال في الشارع وشتائم لاعبي كرة القدم النابية.

ومع ذلك وجدنا المتعة في تفاصيل صغيرة، منظر غروب الشمس،  نسمة الهواء، جمال عيون خلود وجاذبية كثافة شعري، في بساطتنا ومنظرنا بالبجامات وقمصان النوم وذوق فاطمة الكارثي في الملابس في جمعتنا، في مواضيعنا وقصصنا حقيقة كانت أم ملغمة بالأكاذيب..لايهم

و لأنني كنت لا أمتلك قصتي الخاصة أعيش الحب بحياة الآخرين أتقمص معاناتهم وأكتب النهايات التي تمنيتها طويلاً، أعتقد أن كيوبد"إله الحب في الأساطير الإغريقية" قد زارني في إحدى الليالي المظلمة ليطلق سهم حب واحد أصابني في رأسي ثم أدار ظهره وهجرني للأبد ليتركني بطاقة حب مهدرة وبثروات عاطفية مهملة أسأت إستخدامها ..

في المدرسة..

معظمنا ذهب للمدرسة مشياً على الأقدام، داومنا في الحر وفي الصقيع وتحت المطر وإمتحنا في نهار رمضان لأننا كنا نعلم أن للنجاح طريقاً صعباً وشاقاً لايختصر بمجرد فتح حساب على سناب شات والتيك توك وتجميع متابعين وثمناً حقيقيا غالياً غير صناعة المحتوى الرخيص وإثارة الجدل..

كان للمعلم قيمة وتقدير وهيبة والمعرفة صعبة والوصول لمعلومة ما ليس في متناول الجميع وتحصيل الدرجات إشترينا أشرطة الفيديو ذات الجودة السيئة لشرح أساتذة الرياضيات والكيمياء والفيزياء

كنا نبيت مع بعضنا أيام الإمتحانات لنداكر سوياً وللكثير منا عضوية في مكتبة المدرسة أو المكتبة العامة نتفاخر بدرجاتنا لأننا لم نحصلها بسهولة  نذهب مع أمهاتنا لإستلام الشهادات صباحاً بفساتين العيد ثم نتسلل خفية للبقالة نشتري تسالي وألعاباً نارية..

في العطل المدرسية..

لم يمتلك العديد منا رفاهية السفر كل عام نسلي أنفسنا بالمجلات الفنية وأخبار المشاهير نقرأ صفحات الأبراج وصفحات طالبي الزواج نقلب التلفاز على قنوات الفيديو كليب ونلعب لعبة إختيار رقم عشوائي لقائمة العرسان في المجلة ونهديه الأغنية القادمة نعطيهم أسماء ونتنمر على بعضنا بإختيارتنا وتعاسة حظنا الذي كثيراً ما حذفني إلى اليوم على العجائز ومراهقي الخمسينات ..

نجتمع لمشاهدة أفلام الرعب أو سماع قصص عفاريت كبار العائلة وبطولاتهم الماورائية

إلتزمنا بنظام حمية غذائية صارمة وتابعنا برامج مريم نور وأعشابها السحرية فتناولنا الطحالب البحرية وشربنا شاي الكمبوكتا والأمبوشي وخبز الشعير ومحلول الكركم  وجدول عناية شخصية طوال عطلة الصيف لنبدو بأجمل صورة عند عودة المدرسة أو ربما لعريس منتظر..

كنا نملك دليل الهاتف الضخم بأوراقه الصفراء لأرقام معظم عائلات مدينتنا ولأني أبتليت بخرافة الحب الأسطوري الذي سوف يظهر من العدم تخيلت أني ربما أعثر عليه برقم عشوائي أختاره مغمضة العينين من دليل الهاتف  كل مصيبة وقعت بها أكبر مما قبلها بسبب هذه القناعة..

نحن جيل لم تركع عند أقدامنا الفرص ولم نصل إلى ماوصلنا إليه بسهولة ولم نتعلم فنون الإقناع والغواية والوصول السريع.

لهذا ..نقدر كل شيء.

***

لمى ابوالنجا – كاتبة سعودية

في المثقف اليوم