أقلام ثقافية

عبد السلام فاروق: نوستالجيا رمضانية

أغاني رمضان القديمة ما زالت تملك علينا أسماعنا وقلوبنا كلما استمعنا إليها كل عام.. إنها تعيد لأذهاننا أطياف من حياة قديمة لفها ضباب الأيام. لكنني أثق أن نفس هذه الأغاني لها نفس التأثير الوجداني على أبنائنا من الجيل الحالي.. إنها ليست حالة نوستالجيا إذن، وإنما استعادة لحالة متفردة من أجواء رمضانية قديمة أجاد الفن التعبير عنها حتى تحولت لتراث أصيل لم نستطع حتى اليوم تقليده أو تجاوزه.

تلك الحالة من الحنين للفن القديم تفرض سؤالاً جوهرياً حول الحالة الفنية والثقافية قديماً لنقارنها بما نراه اليوم. وهل الثقافة اليوم تطورت وارتقت أم ارتدت وتراجعت؟

لو ألقينا نظرة سريعة على قنوات الفضائيات التي تعد بالمئات، وما تحويه من برامج ودراما وأفلام لوجدنا أنفسنا أمام شلال هادر لا قبل لحواسنا باحتماله؛ ملايين ومليارات يتم ضخها لصناعة إعلامية ذات ميزانيات ضخمة متميزة، وتحولت صناعة الإعلام إلى صناعة كبري مؤثرة مربحة ومتجاوزة للحدود. حتى أن بعض الدول العربية أعادت صياغة هويتها الثقافية من خلال إعلامها وحده. وبات ثقلها الإقليمي مرتبط بثقلها الإعلامي والثقافي!

النظرة العابرة لكل تلك القنوات وما تنتجه يومياً من برامج تتنوع في مضمونها بين الأخبار والرياضة والدراما والأغاني وبرامج التوك شو، كلها غارقة في بحر من الإعلانات المتدفقة على مدار الساعة. ومعلوم أن أرباح القنوات يعتمد في الأساس على تلك الإعلانات التي باتت هي الهدف وهي الرسالة، وكل ما حولها من إنتاج ثقافي يخدم هذا الهدف الأوحد!

معني هذا أن التطور الكبير الذي حدث في الديكورات والإمكانيات والتقنيات لم يتم استخدامه لرفع كفاءة المنتج الفني ورسالته الثقافية، وإنما لخدمة أهداف أخري مادية أو سياسية أو تنافسية وأن التطور الهائل الذي حدث للبرامج والمنتجات الثقافية والفنية والرياضية والدرامية حدث على مستوى الشكل وحجم الإنتاج، بينما تأثر المضمون تأثراً سلبياً وانحدر مستواه رغم كثرة ما يُعرض ويُقدَّم. والدليل أن أكثر المسلسلات والأفلام تكراراً من حيث عرضها هي تلك التي تم إنتاجها قديماً بين الستينيات والتسعينيات من القرن الماضي. فلماذا انحدر مستوي الإنتاج الفني مضموناً وقيمة وتأثيراً رغم كثرة ما يقدم، ورغم أننا لم نعدم المواهب في كل مجالات الإبداع الثقافي والإعلامي من تأليف إلى إخراج إلى تمثيل إلى تلحين إلى هندسة صوت وإضاءة ومونتاج وغيرها من وسائل وأدوات الإنتاج الفني التي تطورت تطوراً مذهلاً غير مسبوق؟!

إشكالية الكيف والكم

المائدة الرمضانية الإعلامية متخمة بعشرات المنتجات المرئية. وعلى رأس تلك المائدة مسلسلات بلغ عددها نحو ثلاثين مسلسلاً!! فمتي وكيف نشاهد كل هذه المسلسلات أو بعضها؟!

المنتجون لا يهتمون بإجابة السؤال ولا يلتفتون إلى حجم المشاهدات بقدر اهتمامهم بتكديس إنتاجهم الدرامي تكديساً في الفضائيات خلال موسم رمضان. وبعض المسلسلات يتم بثها على عدة قنوات. ثم يعاد عرضها نهاراً وليلاً كأنها منهج دراسي ينبغي للجمهور حفظه واسترجاعه مراراً! هكذا صار حجم الإنتاج هو الأهم، وكأننا أمام مصنع لتعليب المنتجات الدرامية بأحجام تكفي لإشباع جمهور فقد شهيته بسبب التخمة التي تسببها مثل تلك المنتجات فائقة الدسامة ثقيلة الهضم!

أذكر أن بعض الزملاء الصحفيين كان دائم السخرية على حالة الإسهال التي انتابت استوديوهات التليفزيون ليتحفنا بعدد هائل من البرامج الرمضانية والسهرات التليفزيونية والمسلسلات الدرامية، ولم يكن لدي التليفزيون حينئذ إلا ثلاث قنوات فقط! فكيف إذا رأي اليوم هذا الكم الضخم من إنتاج يطمر بعضه بعضاً حتى لا تكاد تذكر من كل هذه البرامج والمسلسلات إلا واحداً أو اثنين، والبقية الباقية يدفنها النسيان؟!

يبدو أن هناك علاقة عكسية بين حجم الإنتاج وجودته، ويبدو أن المسئولين عن مثل هذا الإنتاج لم يعد لديهم الوقت الكافي لإعادة النظر في تلك الإشكالية بين الكيف والكم.

نموذج شديد الوضوح

سأضرب مثلاً ببرنامج اشتهر خلال السنوات القليلة الماضية وهو برنامج "صاحبة السعادة" للفنانة إسعاد يونس. وقد بدأت مشوارها في الفن من باب الإذاعة وعملت كمذيعة ماهرة وصحبتها في تلك الرحلة الإعلامية الشهيرة إيناس جوهر. وكلتا المذيعتين وصلتا إلى شهرة كبيرة في مجال الإذاعة، ثم تحولت إسعاد يونس للتمثيل، حتى عادت لمكانها الذي بدأت منه كمذيعة ذات دور ثقافي وخط فكري ميزها عن غيرها من الفنانات.

برنامج صاحبة السعادة لاقي شهرة واسعة، وحقق مشاهدات بالملايين، رغم أنه كان مصاباً بنفس حالة النوستالجيا التي أصابتني. وكثير من حلقات البرنامج استضافت عدداً من نجوم تلك الفترة الذهبية من زمن الفن الجميل. وهو ما يعني أن العودة للماضي هي عودة فرضتها ظروف الفن اليوم، وأن ثمة أشياء تنقص "وصفات" الدراما والإعلام اليوم، وأن مقادير الطبخة الإعلامية الحديثة تنقصها نكهات وتوابل لم تعد متوافرة اليوم. ولهذا تبدو طبخات الفن أحياناً بلا طعم. وأن العودة للماضي هي في الأصل محاولة لاكتشاف سر التركيبة الغائب عن المشهد الإعلامي والثقافي والفني.

إسعاد يونس نفسها تنتمي إلى جيل سابق. وهي تحمل في ذهنها وفي دمها أسرار الطبخة ذات النكهة الأصلية القديمة. ولهذا نجح برنامجها. ثم إن برنامجها، ومثله برامج أخري كبرنامج مني الشاذلي، اهتم بالحوار مع رموز الفن ونجوم الدراما والسينما. وهي تيمة ناجحة لها أمثلة كثيرة في ذاكرة التليفزيون المصري المليئة بالكنوز..

من ذاكرة التليفزيون

نجوم الفن والسينما والغناء أسهموا في إثراء ساحة الإعلام وإبراز أسماء اشتهرت في ساحة الإعلام وباتوا نجوماً من نجومه. وكثير من الإعلاميين البارزين اليوم صعدوا للنجومية من خلال برامج حوارية استضافوا فيها عدداً من نجوم الفن والرياضة والفكر والأدب.

وإذا كنت قد ضربت مثالاً ببرنامج صاحبة السعادة، فإن النماذج الشبيهة له من ذاكرة التليفزيون في رمضان مليئة بأمثلة مشابهة من البرامج والإعلاميين. ولعلنا نذكر المذيع الشهير "طارق حبيب" الذي ارتبط اسمه بشهر رمضان؛ إذ كان يفاجئنا كل عام ببرنامج مختلف في فكرته وطريقة عرضه. وكان للمذيع أسلوب مميز جذاب وبديهة حاضرة أكسبت برامجه تألقاً وجاذبية واشتهر ببرامج مثل: أوتوجراف، واثنين على الهوا، ودوري النجوم، ومن الألف إلى الياء. وكلها ما زال يتمتع بنفس الجاذبية والإمتاع عند إعادة عرضه على بعض القنوات الفضائية واليوتيوب.

تلك الفترة وما قبلها امتازت بعدد كبير من مشاهير الإعلاميين والإعلاميات نعرف منهم مفيد فوزي ورمسيس ومني الحسيني ومدحت شلبي ونجوى إبراهيم وطارق علام وكثيرون غيرهم. وإذا شئنا الحفاظ على الصدارة والتميز في وسط إعلامي عربي ضج بما حواه فإن الأفضل هو التركيز على المضمون والرسالة الثقافية مهما كان الكم قليلاً في سبيل جودة المنتج الثقافي واحتوائه على خلاصة تلك الخبرات المتراكمة في شتي مجالات الإبداع.

أمسيات رمضان الثقافية

من بين البرامج التي اشتهرت قديماً برامج ثقافية جادة نالت شهرة لم تقل عن برامج حوارية وفنية ورياضية. ولعلنا لا ننسي برنامج أمسية ثقافية للشاعر فاروق شوشة. وبرامج تناولت السيرة الذاتية لبعض نجوم الفن كبرنامج (نجوم لها تاريخ) لحسن إمام عمر. وبرنامج (مع النجوم) للكاتب الساخر عبد الله أحمد عبد الله. وبرامج ثقافية وفكرية لعدد من العلماء والأطباء والمتخصصين كبرنامج العلم والإيمان للدكتور مصطفي محمود، وبرنامج عالم البحار للدكتور حامد جوهر. وبرنامج جولة الكاميرا لهند أبو السعود. كانت جميعها تعتمد في الأساس على موهبة خاصة لمقدمي تلك البرامج. بالإضافة للمحتوي الثقافي الدسم لتلك البرامج بما جعلها تستمر وتصل إلينا ليعاد بثها وعرضها حتى اليوم.

إنني إذ أستعيد ذكري زمن الفكر والفن الجميل فإنني لا أتقمص حالة النوستالجيا، وإنما أحاول لفت انتباه المسئولين وأصحاب الفكر والرأي النافذ لأهمية البحث عن الجوهر والمضمون والموهبة. لأن القيمة الثقافية الحقيقية هي فقط التي تبقي ويُكتب لها الاستمرار والدوام.

***

عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم