أقلام فكرية

حيدر شوكان سعيد: النقد العلمي بين الشجاعة والمداراة في تحليل التراث الدينيَّ

يُنقل أن الشيخ محمود مجتهد الشبستري يردد هذه العبارة:" ما دمت مع الناس فالحذر الحذر.. عليك بحفظ المعرفة بعبارات الشريعة." يفهم من هذه العبارة تأكيده على عدم الغفلة عن السياقات التي تقدم بها المعرفة، ولا سيَّما الناقدة منها فلا ينبغي تجاوزها للضرر الذي تلحقه، ولكن من جهة ثانية لا يحق للإنسان أن يشل عقله ويتعامل مع ما موجود في (تراثه الدينيّ) من موقع الإهمال وعدم المبالاة في التحليل المكثف، فيعيش الانتماءات القهريّة والتحيزات والإرضاءات غير المسوغة، مع مراعاة حجم الهوة الفاصلة بين الآمال والإمكانات(1).

إن غياب ثقافة النقد العلمي وشجاعته والتنشئة عليه يولد معسكرات من الخوف تطوق الإنسان وتمنعه من وعي الذات والآخر، فتجعله خائفًا من ذاته والاعتراف بأخطائه، فيعيش الخوف من الحرية والاصحار عن الرأي، والخوف من الخرافة والوهم، والخوف من العجز والتمايز والاختلاف، وو. حتى ليتحول أعجز الناس أكثرهم حكمة! إن التأليه (للزعامات أو العصور أو التراث) الذي عرفته مجتمعاتنا الدينية جاء بعضه نتيجة النقص في الشجاعة وضعف الإرادة في زحزحة هذا التأليه واختبار قدرته على الوفاء بوعوده وعهوده. إن نصوص التوحش والبغاء تولد حشودًا من المستبدين، ولا سيَّما عندما تقف أمام تراث مقنع يقول لك نصف الحقيقة ويترك النصف الآخر يكتشفه الشجعان الأذكياء.

"تشيع في فضاء الاستبداد شبكة مفاهيم تنفي كل ما لا يتطابق معها، ويمثل نسخة مكرّرة عنها، وتشكل هذه الشبكة نظامًا ذهنيًا، يتجلى في نمط تفكير أحادي اختزالي، كما تتكرس في ظل الاستبداد بنية نفسية معوّقة، تستسيغ الخنوع والانسحاق والتهرب من أي مسؤولية، إنها نفسية العبيد، أبرز سماتها الشعور بالدونية والتبعية وعدم الاستقلال في التفكير، والعجز عن اتخاذ أي رأي، وغياب المبادرة والموقف الشخصي، وتعيش نفسية العبيد حياة نيابية مستعارة، وكأن صاحبها يمثل دورًا لشخص آخر في حياته، لا يعبر فيه عن شخصيته، ولا يمثل ملكاته وإمكاناته، وما أودعته الطبيعة البشرية فيه، وإنما يعيش على غرار ما يريده المستبد (السياسي أو الديني)، وما جرى تدجينه عليه في الأسرة، ثم المدرسة والمجتمع(2)."

يتوهم بعضهم عندما يعتقد أن حركة الفكر والنقد وإعادة النظر في التراث الديني تشكل خطرًا على الإيمان والتوازن النفسي للمجتمعات. فالتضييق على الفكر والنقد هو من يشكل تهديدًا للإيمان كما صرخ اسبينوزا يومًا. نعم التأمل الحر يولد تهديدًا لسلامة المؤسسات الدينية والمنتفعين منها فقط، بعد أن تطوق نفسها برؤية تعتقد أنها المستقيمة والحقانية وتمنع الخروج عليها أو القراءة خارجها. عندها يمكن أن تصور لك شهية القمع والتدمير والتوحش أو الخيانة أو البربرية على انها شرف وبسالة وفتوحات إيمانية فتنجلي المفارقة التي تختبر إنسانيتك نفيًا أو إثباتًا.

فماذا يفعل الباحث عندما يقدم له تاريخه الدينيّ أحد الرموز (بوصفه خطًا أحمرًا) بعد أن قتل عشرات الآلاف من المستضعفين (نذرًا لله).. هذا ما أخبرنا به ابن كثير في معركة معروفة له قال فيها هذا القائد:" اللهم لك علي إن منحتنا أكتافهم أن لا أستبقي منهم أحدًا أقدر عليه حتى أجري نهرهم بدمائهم، ثم إن الله عز وجل منح المسلمين أكتافهم، فنادى منادي الأسر الأسر لا تقتلوا إلا من امتنع من الأسر، فأقبلت الخيول بهم أفواجًا يساقون سوقًا، وقد وكل بهم رجالًا يضربون أعناقهم في النهر، ففعل ذلك بهم يوما وليلة..3"

هنا لا بد أن يدرك أنه أمام تاريخ ديني ينبغي قتله بحثًا، لإحياء الحياة في النافع منه مرة أخرى، وإثراءه ولو إثراءً أوليًا أو بدائيًا، لجعله مستساغًا وقابلًا للبقاء والديمومة التي تستوعب المفارقات التي يعيشها الإنسان.

إن الشعوب الحالمة أو المستلبة هي من تجتر تراثها وتلوكه وتقبله كما هو باسم قيم دينية سطحية لم تتم البرهنة عليها بما يكفي، وإن خالفت الضمير الإنساني اليقظ. والأخطر من ذلك أنها تعتقد أن ما تعيد إنتاجه أو تعيشه هو بحث علمي، ورهان نافع، لأنه تراث ناجز ونهائي ومتعال.

ولا يفهم من كلامي هذا أنها دعوة إلى القطيعة التامة مع التراث والماضي، بل هي دعوة إلى تغذية التدين المعرفي بالنقد الجذري والسؤال المساهم، لفتح آفاق خصبة ومستنيرة، ولا مانع من حاجتنا اليوم إلى "علم المستقبلات، ولكنه خاص بنا، علم يبشر بالأمل ويحفز على العمل. نحن بحاجة إلى أن نعيش مستقبلنا في حاضرنا ومتكئين على ماضينا- بعد تحقيبه وغربلته-، ولكن لا كمجرد حلم نهضوي مهلهل قابل للتفكك والتبخر تحت أي صدمة أو كابوس، بل كحلم فلسفي عنيد، حلم يُصرُّ على تحويل التاريخ، تاريخنا نحن إلى عقل يسود ويحكم، وتحويل العقل، عقلنا نحن إلى تاريخ يتحرك ويصير(4)."

كل ذلك هو الأصل والأساس ولكن من غير المنطقي القفز والتعالي على ظاهرة التنازلات أو الارضاءات التي يقدمها بعض العلماء تحت عنوان المداراة، نتيجة لمختلف الضغوط الاجتماعية والسياسية والنفسية وو. ولذلك لا بد لنا أن نستوعب هؤلاء ونتفهم مواقفهم وندرك قناعاتهم ونحللها بناءً على هذه المؤثرات، فكلنا يومًا ما سيقدم تنازلات مختلفة وبدوافع شتى، يبقى الاعتبار في نوع هذه الارضاءات وطبيعتها ومقدار تعارضها مع إنسانيتنا وما نؤمن به. وبخطوة أكثر جراءة أجد من حقوق الإنسان (المفكر وغيره) أن يغفر له في حال تناقضه عند بعض المواقف والقرارات، للاعتبارات التي أشرت إليها، والقرآن الكريم يلمح لهذا المعنى، قال تعالى: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرًا). أما شواهد المدارة فغير قليلة، فلا تكاد تجد نبيًا أو قديسًا أو مفكرًا لم يقدم بعض الارضاءات، ألم يضطر بعض آباء الكنيسة إلى تقديم بعض التنازلات، كي يتمكنوا من التوفيق بين الفكر الإغريقي والفكر اليهودي(5)، تحت ضغوط مختلفة ؟ ألم يقدم الأنبياء بعض التنازلات لاعتبارات المجتمع ونوع التلقي في الخطاب الإلهي؟ فمن الشجاعة أن يعترف الإنسان بوجود هذه الترضيات الضمنية، وهي الضمان من الوقوع في فخ التعبئة، لأنّها نابعة من وعي بطبيعة الموقف وشجاعة الاعتراف. وهذا ما دفع مفكر بحجم محمد أركون وشجاعته إلى الإقرار بأن دراساته تموضعت في داخل الفكر الإسلامي، وأذعن بأن هذا التموضع استوجب منه" بعض الترضيات الضمنية، وهذا ما قاله في معرض رده على بعض الاعتراضات التي قيلت تعقيبًا على إلقائه لبحث " العجيب الخلاب في القرآن" إذ حدّد إحدى مهام مشروعه الفكري في مكافحة الاستخدام الأيديولوجي للدين، يقول: " أبذل جهودًا عديدة لمكافحة الاستخدامات الأيديولوجية المحتدمة اليوم في البلدان الإسلامية، وأقصد بذلك الاستخدام الأيديولوجي للإسلام كدين.. وإن كل دراستي التحليلية وكل جهودي تهدف إلى شق الطريق وتأمين شروط إمكان وجود فكر إسلامي نقدي وحر. وأقصد بذلك الفكر الذي يطارد كل الاستخدامات الأيديولوجية داخل الفكر الديني الذي يريد أن يكون حرًا ومنفتحًا. والآن ربما لم أكن قد نجحت تمامًا في مهمتي هذه، لأني أعرف بسبب ممارستي لعلم الألسنيات أنه ليس هناك خطاب بريء. بالطبع يمكن استخدام بعض الترضيات الضمنية مما أقوله وأكتبه، ولكني مستعد لإخلائها من أجل التوصل إلى الهدف الأساسي الذي أبتغيه: أي تحرير الفكر الإسلامي وتحرير الإسلام بصفته دينًا من الاستخدامات الأيديولوجية التي تعرض لها في الماضي، والتي هي ملتهبة الآن كما تعرفون في البلدان الإسلامية(6)." إن هذا النص يكشف لك عن شجاعة أركون في اعترافه بالترضيات، وهي نابعة من انخراطه في رهانات مجتمعه الذي ولد فيه. ولكن هذه الترضيات لا تمنع من التأسيس النقدي لكل ما هو جديد، بوصف النقد هو الوحيد تقريبًا القادر على تقديم ضمانات أكثر وضوحًا في عملية إصلاح الفكر والمعرفة.

ولو تأملنا في هذه الثنائية (شجاعة النقد والمداراة) سنجدها متوفرة في مشاريع فلسفية كثيرة ولعل أوضوحها وأهمها موقف ديكارت وسبينوزا، وطبيعة تعامل كل واحد منهما مع الفكر الديني. فديكارت (ت1650م) مع أنه معروف في العصور الحديثة بأنه أحد أهم مؤسسي العلم الحديث، وأن فلسفته ومنهجه الصارم يقوم على التحرر من كل الأفكار المسبقة مؤقتًا حتى تتم البرهنة على صدقها وصحتها بعد ذلك، إِلَّا أن سبينوزا (ت1677م) هو الديكارتي الوحيد الذي استطاع أن يطبق المنهج الديكارتي تطبيقًا جذريًا في المجالات التي استبعدها ديكارت من منهجه، فديكارت يستثني من قاعدته الأولى في الشك الدين ونظام الحكم، ويؤكد ذلك في مقولته الشهيرة:" أموت على دين مرضعتي." مما سيدفع بإسبينوزا تلميذه إلى رفض هذه الاستثناءات وتطبيق المنهج بحزم على جميع الموضوعات وأولها الدين والسياسة، وهنا حاول بعضهم تفهم موقف كل منهما، فإسبينوزا تعرض لمحاولات اغتيال عديدة بسبب نقديته العلمية الشجاعة التي استهدفت دراسة النص الديني، كما تدرس الظاهرة الطبيعية معتمدًا على أكثر من أداة في التحليل، بينما ديكارت كان صديقًا لرجال الدين الذين وجدوا في منهجه باعتراف ديكارت، دعامة للدين (المسيحية)، ونصرة لعقائده، وأن معظم كتبه خاصة" التأملات" مصدّرَ بإهداء إلى علماء أصول الدين في السربون. لقد قيل دفاعًا عن ديكارت أن موقفه من رجال الدين ومهادنته لهم إنما هو موقف ذكي، اتخذه حتى يحتويهم من الداخل، ولا يصطدم مع السلطة بالتناطح والمواجهة، يكفيه أنه وضع قنبلة زمنية انفجرت بعده في إسبينوزا وفولتير، وتناثرت شظاياها في العصر الحديث بطوله وعرضه. وقيل- أيضًا- إن الأمر يرجع إلى محاكمة جليليو ومأساتها فما زالت حية في الأذهان(7). إن هذه المداراة مع أنها متفهمه إِلَّا أنّ الأصل في الأشياء شجاعة الموقف في ظل التحديات، والمدارة حالة عرضية، فالفكر الحر والمبتكر لم يكن في يوم من الأيام يروق للسلطات المهيمنة، فالحدوسات المعرفية لا تنجبها ثقافة التلقين والترويض والخوف.

ولو أردت أن انتقل إلى الحقل الفقهي والمدونة الفقهية،- حقل الاختصاص الدقيق- فان الفقهاء يصنفون بالعادة في اشتغالهم إلى صنفين، فثمة من تبدو في آثاره العلمية وضوح الرؤية والقاطعية والحسم في الأمور، فيما يلحظ فريق آخر يدور في أبحاثه ذهابًا وإيابًا، يميل تارة إلى وجهة النظر الأولى، وأخرى إلى وجهة النظر الثانية، ثم يعود إلى الأولى فينتصر لها، فتلمح لديه قلقًا في البحث وتراجعًا لوضوح الرؤية والحسم. ولهذه الحالة أسبابها النفسية والموضوعية والعلمية(8).

ويمكن أن نصنّف جملة من الفقهاء على تيار وضوح الرؤية في المجال الإفتائي، ولهذا قلت نسبيًا احتياطاتهم الوجوبية، والتي منبعها صور عدة ومنها(9): أولًا: إعراض المشهور والمقصود به هو أن يترك أغلب الفقهاء الاشتغال بالدليل في مقام الإفتاء، ويميلون إلى غيره مع علمهم به، مما يزرع القلق والحيرة في نفس الفقيه بين العمل بالدليل المتروك وبين متابعة ومواصلة المشهور. ثانيًا: الخلاف الفقهي بين الفقهاء بحيث لم يستقر لهم رأي في المسألة فينعكس ذلك على المجتهد الذي يمارس عملية الاستنباط، مما يفتح أمام الفقيه قرائن تزلزل الوثوق بالدليل الشرعي. ثالثًا: مراعاة الأصحاب: ويقصد به أن الأصحاب لم يختلفوا فيما بينهم وإنما جرت المخالفة من نفس الفقيه، إذ قام الدليل على مخالفتهم فأدى ذلك إلى تزعزع الثقة بدليله.

ولهذا نجد أن بعضهم قد أصدر سلسلة من الفتاوى الجريئة التي يصعب على بعضهم إصدارها، ومن الواضح أنه ينظر هنا إلى مجال قضايا الناس واقعيًا، لا إلى مجال التوازنات القائمة في المؤسسة الدينية، أو اعتبارات الماضي الذي لا يمنح صاحبها أية قداسة أو فوقانية.

***

أ.م.د. حيدر شوكان سعيد

تدريسي في كلية العلوم الإسلاميَّة/ جامعة بابل

........................

(1) يرى أوغست كونت (ت1857م) أن الله يقف بين آمال الإنسان وإمكاناته، فبحجم الهوة الفاصلة بينهما، يتجلى الله في حياة البشر.

(2) عبد الجبار الرفاعي، الدين والنزعة الإنسانية، الناشر: مركز دراسات فلسفة الدين- بغداد، الطبعة الرابعة-2019م، 67- 68.

(3) البداية والنهاية، ج 6 تنظر أحداث معركة أليس.

(4) محمد عابد الجابري، إشكاليات الفكر العربي المعاصر، 120.

(5) لقد تبنى القديس أوغسطينوس فكرة خلق الله للعالم من العدم، الواردة في التوراة. في حين كانت الفلسفة الإغريقية تقول: إن العالم موجود منذ الأزل، ولكنه كان يرى أن الأفكار موجودة في ضمير الله، منقذا بذلك نظرية" الأفكار الأزلية"، ينظر: جوستاين غاردر، عالم صوفي، رواية حول تاريخ الفلسفة، ترجمة: حياة الحويك، الناشر: دار روائع-  لبنان، 174.

(6) الفكر الإسلامي- قراءة علمية، ترجمة: هاشم صالح، الناشر: المركز الثقافي العربي الإنماء القومي، بيروت، 1987م، 245.

(7) ينظر: مقدمة حسن حنفي على كتاب، رسالة في اللاهوت والسياسة، سبينوزا، الناشر: دار التنوير- بيروت، الطبعة الأولى- 2005م، 11. وحسن حنفي، تطور الفكر الديني الغربي، الناشر: دار الهادي- بيروت، الطبعة الأولى- 2004م، 83- 84.

(8) الشيخ حيدر حب الله، العلامة محمد حسين فضل الله، معالم نهضة وسياقات مشروع إصلاحي، مجلة الاجتهاد والتجديد، خريف وشتاء 1433هـ،20-21/ 7.

(9) ينظر: الشيخ كامل الدراجي، الاحتياط الوجوبي عند فقهاء الإمامية، الناشر: مركز العين للدراسات والبحوث المعاصرة، الطبعة الأولى -2018م، 115-118، 125.

في المثقف اليوم