أقلام فكرية

محمد حبش: الديالكتيك.. قراءة أخلاقية

ما الديالكتيك؟

بدأ التفكير بالديالكتيك هرقليطياً في مواجهة التفكير البرمنيدوسي الذي كان شائعاً في الفلسفة اليونانية القديمة وهي فلسفة قائمة على فضيلة السكون، وإنكار الحركة، ومع أن الحركة حكم الظواهر التي تتعقلها الحواس، ولكن السكون حكم العقل المحض، فالعقل لا يستوعب الذات في مكانين، وما كان في مكان فهو ليس في آخر، فالحركة خرافة عقلية لا يصح تصديقها ولو خدعتنا بها الحواس، وهكذا فقد ظل تاريخ الفلسفة اليونانية ينوس بين العقل المحض وبين الظاهراتية، كمنهجين متلاعنين لا يلتقيان ولا يرتفعان.

وبينما رأى برمنيدوس أن كل شيء في الوجود تام وساكن، فالعدم لا يوجد، والموجود لا ينعدم، والعالم قائم على فهم الموجودات وعدم التفكير بإلغاء أي منها، فإن هيرقليطس كتب في مواجهة بارمنيدوس حتمية السيرورة التاريخية، والتناوس القائم على الجدل التكويني وصراع النقائض، وهو ما أكده فيما بعد هوايتهد إن العالم ليس حقيقة قارة بل هو جدل متلاطم، وأنه لا ثابت في هذه الحياة، لا في الخلق ولا في الأمر ولا في الشـرائع، وأن الكون كله قائم على التغيير، والعالم ليس حقيقة قارة بل جدل متلاطم.

إننا لا نستحم بماء النهر مرتين، هكذا كتب هرقليطس، ولكن الناس توقفت عند فهم أن الماء يتغير كل مرة، ولكن الأهم الذي أراده هيروقليطس أن الإنسان سيتغير أيضاً كل مرة، أما هيغل فقد قدم جديداً ثالثاً وهو أن القانون الكوني بدوره يتغير كل مرة!

لا ثابت إلا الله، هكذا قال المؤمنون، ولكن التعبير الأدق لفلسفة هيجل وهيروقليطس: لا ثابت إلا التغيير، وإن الكون وبارئه كل يوم هو في شأن.

وهكذا فإن الفهم الأشمل للديالكتيك يحتم علينا الرسوّ في مرفأ هيجل، فهو من نظم وعي السابقين واللاحقين الذين كتبوا في التطور والصيرورة في قانون كوني حتمي، ولا مبالغة في كل ما نرويه في وصف هيجل، فهو بالفعل فيلسوف الفلاسفة، وقد ظلت الفلسفة بعده بمائة عام على الاقل قائمة على الرواية عن هيغل أو صحبه، وانقسم الفلاسفة بعده إلى صحب وتابعين ومذاهب، ومع أن المقولات الهيجلية تطورت بشكل لافت ولكنها ظلت تنسب إليه، مع أن منها ما هو طارئ عليه مبنى ومضموناً، حتى إن كلمة الديالكتيك نفسها لم ترد في أي من كتاباته على الرغم من أنه يعرف في الملأ الأعلى للفلاسفة بفيلسوف الديالكتيك.

وفي الواقع فإن ما طرحه هيغل في فلسفة التاريخ ليس اجتهاداً مبتدئأ وإنما هو استئناف لجهود فلاسفة كثير سبقوا إلى ذلك، وإن كان لهيجل من فضل فهو أنه نجح في منح فكرة الجدل مفهوماً حتمياً في الزمان والمكان والجوهر.

وقد أسس هيجل فلسفته في حركة العالم على قاعدة ثلاثية وهي: الأطروحة واالنقيضة والتركيب، أو بالمصطلحات الثلاثة: Thesis – Aantithesis – Synthesis وفيما بعد منح هيجل هذا التلاطم الحتمي للطبيعة مصطلح روح العالمGeist

ويعتبر تعريف الديالكتيك من أصعب بحوث المعرفة، ولا شك أنك ستنوس بين تعريفات رموزه التاريخيين من هيروقليطس إلى زينون إلى ابن خلدون إلى هيجل، إلى فيورباخ وماركس وإنجلز في صيغ متلاطمة لا تكاد تنتهي منها إلى يقين.

ولكن هل يتعين فهم هذه المصطلحات المعقدة للوصول إلى فهم صحيح للحياة؟ وهل لهذا الجدل الأفلاطوني علاقة ببناء السعادة؟

تبدأ الفلسفات الكبرى في التاريخ من لحظات عابرة يراها الملايين كل يوم ولكنها توحي إلى الفيلسوف وحده، وحين خرج أرخميدس عارياً من الحمام وهو ينادي يوريكا يوريكا!! أي وجدتها وجدتها، لقد وجد قاعدة الطفو والانغمار، إنها قاعدة هائلة بالنسبة لأرخميدس، وحين كتبها بالرياضيات لم يفهمها من الناس إلا العباقرة، مع أن قواعد الطفو والانغمار يعرفها بالفطرة والغريزة ملايين الصيادين، الذين لا يحسنون قراءة حرف من خطوط أرخميدس.

إنها أيضاً تفاحة نيوتن وقطار أينشتاين، حيث يتم التعبير عن أعقد قضايا الفلسفة بأبسط مظاهر المشاهدة للأشياء.

التقى الأوكسجين بالهيدروجين، فلنسم الأول الطريحة والثاني النقيضة، فنتج عنهما الماء، فلا هو أوكسجين ولا هو هيدروجين، بل هو خلق آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين.

ثم التقى الماء بعشبة الشاي، فكان الماء أطروحة والشاي نقيضة، ومن تلاطمهما نشأ تركيب جديد اسمه شراب الشاي، فلا هو ما ء ولا هو عشبة، بل هو خلق جديد.

وهكذا تتكرر الحكاية التي نشاهدها في الطبيعة دون أدنى تكلف، فهي لقاء الذكر بالأنثى، الذي ينتج الكائن الجديد، وهو حكاية المطر حين تلتقي الشحنات السالبة بالشحنات الموجبة، وهو لقاء البصر بالكتاب، والسمع بالموسيقا، والذوق بالسكر، والأنف بالعطر، فما من تلاق يتم في الكون إلا ينتج شيئاً جديداً، وكل القوانين الفيزيائية في خدمة هذه الحقيقة، والكون برمته قائم على التلاطم. 

إنها مسألة تفهمها العقول ببساطة، ويوشك أن يقول المرء وهو يتابع هذه الشواهد إن شرح الواضحات من الفاضحات، ولكن رسالة الفلسفة أنها نقوم بالتعبير عما نمارسه كل يوم بلغة لوجيكية، وعند ذلك يمكن تقديم النتائج على هيئة قوانين تحتكم إليها الطبيعة.

الأطروحة والنقيضة (Thesis – Aantithesis) يتلاطمان باستمرار، وليس في الطبيعة نصـر ساحق، أو إلغاء ماحق، إنها مسألة تمازج وتضامن، ولا بد أن ينتج عن التلاطم هذا ذات جديدة يسميها هيجل التركيب (Synthesis) ولكن عبقرية هيجل كانت في قدرته على تعميم هذه الحقيقة على الأشياء والظواهر والأفكار والمجتمعات وحركة التاريخ وقراءة المستقبل.

قد يكون من السهل فهم الديالكتيك في تركيب العناصر الكيميائية، وكذلك في الخلق المستمر، ولكن الفيلسوف يرسم للديالكتيك مسارات أخرى، لقد رسم ابن خلدون حركة قيام الحضارات وسقوطها، وإنتاج الشكل الجديد منها، في وصف ديالكتيكي بامتياز، وقدمه على هيئة قانون كوني لا يتخلف، ويتكرر في البناء والهدم، والقيام والسقوط، والانبثاق والانغلاق، والمدهش أن الناس يقرؤون في ابن خلدون جدل الماضي، في حين أنه أراد في العمق أن يرسم جدل المستقبل.

وبالوعي إياه كتب ماركس رؤيته في المجتمعات البشـرية، مقدماً الصراع الطبقي بين الرأسمالية والطبقة العاملة حتمية تاريخية، تنتج المجتمع الشيوعي وتقدم قراءة مختلفة للتاريخ، وحين استغرب الهيجليون شكل اجتهاد ماركس وقالوا إنه محدثة وبدعة في الفكر الهيجلي، اختصـر ماركس المقام وقال إن هيجل نصب الديالكتيك في السماء ونحن نزلنا به على الأرض، وفي رواية إن هيجل أقام الديالكتيك على رأسه ونحن نصبناه على رجليه، أو كما قال!

 وعلى المستوى الأخلاقي فإن لغة التعبير تعكس وعي الفكر بحركة الحياة، فالعنيف سيفهم الديالكتيك على أنه قدر الصـراع والتحدي في العالم، وحتمية العنف والحرب والتطاحن، حيث تغتصب النقيضة الأطروحة، وتسلبها من خصائصها بالحتمية التاريخية، فهي إذن ركام مظالم، وبراكين حروب، فيما يفهمه أهل الرحمة بأنه طبيعة التكامل في الحياة، وأن العالم قائم على شغف العطاء حيث تعطي الأطروحة للنقيضة أجود ما تملك وتأخذ منها أنفع ما تملك ثم يتشكلان في ذات جديدة فيها رمز الخير والعطاء.

إن الديالكتيك وصف فيزيائي لحركة الحياة، ولا يمكن إلزامه بتشكل أخلاقي، ولكن الناس هم الذين يتفاوتون في الموقف الأخلاقي، فالناس وفاقيون وفروقيون، وحلماء وانفعاليون، وسيستمر الإنسان في رسم ملامحه على التصور الذي يحدد نفسه فيه، فما رآه قوم صراعاً وتطاحناً رآه آخرون تكاملاً وتضامناً، وسيتم وصف الديالكتيك هناك بأنه ركام الحرب كما يمكن وصفه هنا بأنه رحيق السلام، ولكن القدر المتفق عليه بين كل الحكماء أن الديالكتيك حقيقة فيزيائية، وأن العالم يتطور باستمرار ولا يوجد سبيل على الإطلاق لتوقف الحركة في العالم، وأن كل الدراسات الأنثروبولوجية والديمغرافية يجب أن تقوم على أساس التحول الحتمي في طبيعة الأشياء ومعالمها.

وتتأسس المسؤولية الأخلاقية لدى دعاة الإخاء الإنساني على تفسير الديالكتيك بأنه روح العالم التي تبعث شغف العطاء، والتحام الإنسان بالإنسان والإنسان بالطبيعة والمجتمعات بالحضارات والحضارات بالفيزياء، وأن رسالة الإخاء الإنساني تتجاوز الأديان والمذاهب، بل وتتجاوز الكينونة الإنسانية لتكون إخاء بين الإنسان والطبيعة، وبين الأديان وبين القانون الكوني، وبين الأرواح والأشياء، حيث الكل طريحة ونقيضة، والكل يعمل على خلق جديد.

إنه من أفق آخر لون من الصوفية الغامرة في وحدة الوجود، ووحدة الشهود، والوعي بالكون والإنسان، فحين ينظر العارف من عل لقانون الديالكتيك الصارم وهو يفرم العالم بحتميته التاريخية الديالكتيكية، فإنه يرى فيه ما رآه الصوفي العارف في الله بوصفه روح العالم وسره وكينونته Geist : فهو الأول الذي انبثقت منه الأشياء، وإنما صدر عنه العالم كصدور الكلام من المتكلم والنفس من المتنفس، والظل من الذات، وهو من خلق الطريحة الأولى والنقيضة الأولى، وأطلق هذا العالم على قدميه ومنحه الذكاء الفعال لينتج بنفسه طرائحه ونقائضه، قيتلاطمان لينشأ منهما تركيب وخلق جديد، حيث في كل شيء شيء من كل شيء، وفي كل خلق نفحة من كل خلق، وقد ترك الله الجدل نفسه يخلق ويبدي ويعيد، فالأول الله، والآخر الله، والكل بالله، والكل من الله، والكل من لكل والكل في الكل والكل في الله.

***

د. محمد حبش

 

في المثقف اليوم