بأقلامهم (حول منجزه)

حيدر شوكان: ماجد الغرباوي المفكر المسكون باكتشاف المجهول والمسكوت عنه في تراثنا الدينيَّ

يشخص مؤشر الدراسات العلمية جملة من الظواهر في تحليل ثقافتنا وتراثنا، وقد كتبت دراسات عن عناصر الضعف في أدوات التفكير ومنهجياته، ولعل أبرزها الضعف المنهجي في التحليل لدى شريحة كبيرة من المثقفين المسلمين، أو عدم تقيدهم بالصرامة العلمية، وانغلاقهم العقلي مع إفراطهم في النزعة الذاتية واللغة التبجيلية والتشريفية، وعدم اتخاذهم لمسافة معتبرة بين الذاتي (بكل تعبئته) وبين دراستهم لموضوعات التراث الدينيّ، أو تمظهرات الظاهرة الدينيّة المعاصرة. وقد وفر بعضهم ضفيرة من الأعذار لهذا الضعف المنهجي تارة بالضغط الذي تشكله مجتمعاتهم المضطربة والخائفة والمطحونة بالحروب والمجاعات وو، وانعكاس ذلك عليهم، وتارة أخرى بخشيتهم من الوقوع ضحايا الأيديولوجيات وثقافتها التلقينية والتمثيلية التي لا تتورع عن البطش، فيبقى المثقف خائفًا على نفسه، ومصدر رزقه، ومنصبه ومكانته من التشويه. فمن اليسير- بهذه الظروف- اتهام المثقف والمفكر المسلم بأنه:" مثقف أيديولوجي لا يحترم حقوق المعرفة".

تقف في قبال كل هذه المؤشرات دراسات علمية جادة وصارمة لم تغادر التراث بالتمام وإنما نقدته وفككت طبقاته الداخلية، وأنساقه المضمرة، وفتشت في دهاليزه ومناطقه المهجورة.

وقد كانت بدايات تلك الدراسات في نهاية القرن التاسع عشر، ولا تزال مستمرة مع كل ما تعرضت له من إخفاق (بسبب أدواتها التي لم تكتمل أو بعنف الخارج) إلَّا أنها في النهاية خرجت على التاريخ وزحزحته، وهزت التوازن النفسي "لمديري شؤون التقديس"، فخرجت على المعابد وطقوسها وتوثينها، بل انبثقت من موت التراث وأسمائه وقوانينه ومحدداته، ففجرته من الداخل بحدوسات معرفية ساطعة، لم تنحنِ أمام الإغراءات أو الجري وراء الأضواء.117 majed algharbawi600

فقدمت الساحة الدينية رموزًا للتنوير، استحال ترويضها، وكان من نصيب العراق جملة من العلماء المغامرين (ممن امتلك تكوينًا حديثًا وجادًا وخصبًا) انخرطوا في تقويض القراءة المتشنجة والمتكلسة للنصوص الدينية، وما تفضي إليه من أوهام وتشوهات في رؤية الحياة، وكان على رأسهم الدكتور علي الوردي بوصفه أول مثقف ديني نقدي حلل الحياة الاجتماعية وآثار التدين ومنابعه فيها، إلا أنه وبعد هيمنة حزب البعث على السلطة وبطشه وإفقاره للحياة بكل وجودها، اضطرت نخبة من أبناء البلد للخروج في المنفى والغياب لسنوات غير قليلة، فأتاح لهم المهجر (بما قدمه من ضمان في التعليم والحريات والتعبير والكتابة) الاطلاع على آخر المنجزات العلمية ومناهج المعرفة، فأنجزوا دراسات عميقة فتحت ملفات وأضابير مغلقة من دون التخلي عن الذاكرة الملهمة والنافعة من تراثها الديني، ولعل أبرزهم في المعرفة الدينية: طه جابر العلواني، وهادي العلوي، ويحيى محمد، وعبد الجبار الرفاعي، وفالح عبد الجبار، ورشيد خيون، وصائب عبد الحميد، وغالب الشابندر، وغيرهم الكثير، ومنهم المفكر العراقي المرموق ماجد الغرباوي.

وقد كان بودي منذ أكثر من سنتين أن أقف بدراسة مستقلة على اشتغالاته وأدواته في الحفر والتنقيب والتحقيق للتراث الديني، وتأملاته ونقده وتجديده، فهو جدير بالاستقصاء وجدير بالتأمل وجدير بالنقد أيضًا إِلَّا أن بعض الظروف حالات دون ذلك.

في هذه المقالة- بوصفها ومضات- أحاول تلمس بعض اشتغالاته، وهي جملة من التساؤلات الحرجة والمزحزحة لعقل لا يقبل الانفصال عما تلقاه من مدارس ومذاهب وقراءات لبت طموحات عصرها، وأضحت تصطدم مع الواقع اضطرادًا لعجزها عن استيعاب مفارقات اليوم، مع ادعائها النرجسي في القدرة على المجاراة من دون برهان.

ولو أردنا تلمس مشروع المفكر ماجد الغرباوي المعرفي وإسهاماته، ووصف أعماله وتقييمها وموقعها من تضاريس التجديد الديني لا بد لنا من تحديد مجاله الخاص وقدرته العقلية على الاكتشاف ومحدداتها. ولا بأس من الاستعانة بمستويات التفكير والتأصيل في عملية الإنتاج العلمي، التي أشار إليها محمد أركون، وهذه المستويات مرتبطة بالوضع اللغوي والمدني والاجتماعي الذي ينشأ فيه الإنسان ويتقيد به العقل في جميع نشاطاته وممارساته، وهذه المستويات هي1:

المستوى الأول: مستوى ما يمكن التفكير فيه:

وهو مستوى متعلق بتمكّن المفكر الديني من اللغة التي يستعملها، وبالإمكانيات الخاصة بكل لغة من اللغات البشرية التي اختارها المفكر. كما أنه متعلق أيضًا بما يسمح به الفكر والتصورات والعقائد والنظم الخاصة بالجماعة التي ينتمي إليها أو يخاطبها، وبالفترة التاريخية من فترات تطور تلك الجماعة. ثم إنه يتعلق كذلك بما تسمح به السلطة القائمة في المجتمع أو الأمة اللذين يتضامن معهما المفكر.

وهذا المستوى متاح للجميع تقريبًا من دون محذور أو تكلفة قد يدفعها نتيجة الخروج عليه.

المستوى الثاني: ما لا يمكن التفكير:

فيه بسبب مانع يعود إلى محدودية العقل ذاته أو انغلاقه في طور معين من أطوار المعرفة. ومثال ذلك، هو عدم إمكانية أي فيلسوف أو فقيه أو مفسر طيلة العصور الوسطى وحتى فجر الحداثة أن يفكر في المواطنية بالمعنى الذي نعرفه حاليًا كفضاء يتساوى فيه جميع المواطنين بغض النظر عن قناعاتهم ومللهم.

وهذا المستوى يعود أيضًا إلى ما تمنعه السلطة الدينيّة أو السياسية أو الرأي العام، إذا ما أجمع على عقائد وقيم قدَّسها وجعلها أساسًا مؤسَّسسًا لكينونته ومصيره وأصالته.

المستوى الثالث: المستحيل التفكير فيه:

إذا استمر الفكر زمنًا طويلًا وهو يكتفي بترديد ما تسمح اللغة والنصوص العقائدية والرامزات الثقافية وإجماع الأمة ومصالح الدولة بالتفكير فيه، فإنه يتضخم ويثقل ويتراكم.

"وكثيرة هي الأفكار التي أنتجتها عقول بشرية، ولكنها تحولت بفضل التكرار والترديد، الذي من شأنه أن يخفي غيرها من الأفكار، ولو بالتشويه، إلى "عقائد" لا يمكن المساس بها2".

هنا يرد التساؤل إلى أي مستوى ينتمي ماجد الغرباوي في تحليله الاكتشافي وحفره المستنطق لتجربة الإسلام الدينية وتاريخها ومقولاتها وإلهاماتها وحتى إكراهاتها وصراعاتها؟

بكل وضوح ستجد الغرباوي مفكرًا تتسع رؤيته لعبور التراث، وإعادة قراءة مضامين الأدلة فيه من دون توقف أمام ركام القراءات والتفاسير وهيبتها وأسمائها، مع إيمانه بضرورة الحفاظ على الشحنات الإيمانية للإنسان ودراستها والعناية بها بوصفها مخيالًا له أدواره الحاسمة، وحتى لاهوت المحبة أو الشفقة، وقيمه الجمالية يحظى بالدعوة لاستعادته، لأنه البديل الملهم والمغذي للتنوع في قبال ضيق المجتمعات بعقائدها وطقوسها.

يدور مشروع ماجد الغرباوي حول النص، محاولًا وضعه في سياقه الأصلي من جديد، مبتعدًا كل البعد عن الدغمائية أو الازدراء، فيستخدم ما تيسر له من الأدوات الانثربولوجيا والتاريخية والاجتماعية وحتى الألسُنية. مع ولعه في الاشتغال على التأليف والكتابة في الشحيح والنادر والمسكوت عنه من المعارف والفنون في التراث الديني، وهذا ما تلمح إليه كتاباته، التي يتصدرها عنوان موسوعته" متاهات الحقيقة" وهي عبارة تكشف لك عن مسار التفكير وعمقه وكثافته ومحاذيره.

وللباحث أن يلاحظ ذلك بدراسة الغرباوي المتقدمة في آخر كتاباته" مقتضيات الحكمة في التشريع، نحو منهج جديد لتشريع الأحكام"، الصادر في هذا العام (2024م)، إذ يهدف فيه في الأصل إلى إعادة تصميم الهندسة الفقهية من جديد، من خلال رفضه للرقابة والوصاية غير المبرهن عليها، سواء كانت وصاية النص، أو التراث، أو بداهات العقل التعبدي. كاشفًا لثغرات وعيوب ليست بالقليلة في عملية الاستنباط، ولعل أهمها تجاهل النظام التشريعي الذي تمت صياغته بأيدي السلف، وتحييد القيم الأخلاقية والإنسانية، إذ تمت بلورة العديد من الأحكام الشرعية من قبل الفقهاء، وهي تصطدم مع الأخلاق وتفرّط في رمزيتها وحضورها، والأغرب في نظر الغرباوي أن الفقهاء رسموا الحياة من خلال مدوناتهم التي تجاهلت مرجعيات أخرى لفهم الدين التي يمكن الإفادة منها، وهي دعوة تفتح النص على مفاهيم أوسع وأعمق مما تصوره علماء السلف، ليشمل مجالات الحياة كافة بتجاربها ومضامينها. ليقترب بذلك من دعوة حسن حنفي في الانتقال من (السماء إلى الأرض، أو من الله إلى الإنسان، ومن الآخرة إلى الدنيا) مع ابتعاده عن أدلجة الدين التي تختزله في تفسير ضيق. ليعتمد الغرباوي هنا على معنى جديد لمفهوم قداسة النص بمجالات تُعيد رسم خارطة تأثيره في الحياة الأخلاقية والجمالية والروحية للإنسان، ويتطلب هذا العدول بهيكل التشريع من "الفقه إلى الأخلاق، ومن التعبد إلى التعقل، والانتقال من ضيق الفقه وسجون النص إلى رحاب القيم الأخلاقية، وفق مقتضيات الحكمة ومبادئ التشريع (العدل، وعدم الظلم، والسعة، والرحمة، والمساواة)"3.

إن هذا الكتاب يناقش سلسلة الدلالات المنتجة للتشريع- توسعةً أو تضييقًا- ويعيد اختبار قدرتها على الوفاء بوعودها وعهودها في المعالجة والتدبير، فينفتح على الدلالة الحرفية للنص، ويرصد عوامل التوسع والانكماش أو التعارض مع العقل هنا أو هناك. وقد سجل ملاحظاته النقدية الصارمة على غياب الواقع ودلالاته عند الجميع- تقريبًا- فالفقهاء لاعتبارات مختلفة لا يثقون بقرينة الواقع في تقييد الإطلاق وظهوره الذي يعتمد على "قرينة الحكمة"، إذ يرى أن الاندماج وتركيز التفكير في النصوص وجزئياتها تولدت منه حالة من القطيعة مع الواقع ومعطياته، وعن العقل وما يقدمه من نتائج مهمة في تصويب الأفكار وإنضاجها، وتفسير مختلف الظواهر، والبرهنة عليها.

إن دراسات المفكر العراقي ماجد الغرباوي في المعرفة الدينية جديرة بالتتبع للباحثين، ولا سيَّما طلبة الماجستير والدكتوراه، لتحليلها بشكل توصيفي يلاحق أدوات التفكير لديه ومقوماتها وخلفياتها وأهميتها، ومعرفة بواعث القبول لبعضها والرفض للبعض الآخر، فلا تقل في أهميتها عن دراسات محمد أركون أو عبد الله العروي، مع أن لكل منها مجاله، ولكني أتكلم هنا من حيث دراساته وقدرتها في تقديم الجديد من الثراء، واعتمادها العقل النقدي الشغوف بالحقيقة والفهم المتجديد.

***

أ. م. د. حيدر شوكان سعيد

رئيس قسم الفقه وأصوله/ كلية العلوم الإسلامية- جامعة بابل.

.......................

1- ينظر: الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، ترجمة: هاشم صالح، الناشر: دار الساقي، بيروت، الطبعة الأولى- 1999م، 9- 10.

2- نصر حامد أبو زيد، الخطاب والتأويل، الناشر: مؤسسة مؤمنون بلا حدود، الرباط، الطبعة الأولى- 2017م، 19.

3- ماجد الغرباوي، مقتضيات الحكمة في التشريع، إصدار مؤسسة المثقف العربي- سيدني- استراليا، الطبعة الأولى- 2024م، 8/ 9.

............................... 

* مشاركة (56) في ملف تكريم ماجد الغرباوي، الذي بادر مجموعة من كتاب المثقف الأعزاء إلى إعداده وتحريره، لمناسبة بلوغه السبعين عاما، وسيصدر كتاب التكريم لاحقا بجميع المشاركات: (شهادات، مقالات، قراءات نقدية ودراسات في منجزه الفكري).

رابط ملف تكريم ماجد الغرباوي

https://www.almothaqaf.com/foundation/aqlam-10